كلّ ما وُعد به أبناء المحافظات الجنوبية في اليمن من حياة كريمة، ورفع مستوى المعيشة بما يضاهي الوضع في الدول الخليجية، والانضمام لاحقاً إلى مجلس التعاون الخليجي، تبخّر. وتحوّل الوعد إلى كابوس يُقلِق أبناء تلك المحافظات حول مستقبل وجودهم ومصيرهم السياسي ووحدة أراضيهم. لقد بدا، خلال السنوات الثلاث الماضية، أن دول الخليج لم تَعُد بحاجة إلى عمليات استقطاب جزئية تلبية لأهداف موضعية، أو تعليل بقائها في هذا البلد، بعدما نجحت سياسة «التحالف» في تطويع إرادة ملايين المواطنين الجنوبيين بشكل جمعي، بالأساليب الزائفة والمخادعة.
لكن ذلك لم يُعمّر طويلاً؛ إذ سرعان ما انكشف زيف الوعود بتساوي المواطن في الضفة الجنوبية للجزيرة العربية، مع شقيقه في الضفة الشمالية، أي دول الخليج، والتي لم تكن إلا وسائل رخيصة للجذب والاستيعاب، وحرف شريحة بأكملها عن أهدافه، وزجّ شبابها في محارق القتال، وتوظيف مواردها وطاقاتها وموقعها خدمة للمشاريع التوسعية التي تعطي الرياض وأبو ظبي ميزات تؤهّلهما للعب دور إقليمي أكبر.
لقد غابت مطالبات النخب وكتاب الرأي والأكاديميين والسياسيين المتعلقة بالانضمام إلى مجلس التعاون الخليجي، أو بردم الهوة الاقتصادية بين أبناء جنوب اليمن وشعوب الخليج، مقابل مشاركة أولئك في ما يسمى «عاصفة الحزم». وانحدرت المطالب، في ظلّ ما آل إليه الوضع الاقتصادي، وما خلّفته سياسات «التحالف» المتعمّدة من مآسٍ كارثية (فقر وجوع وأمراض وأوبئة وأمية)، إلى الاقتصار على تأمين لقمة العيش؛ إذ إن الانهيار الحادّ في العملة اليمنية أفقدها قيمتها، ولم تعد رواتب الموظفين تكفي سوى لبضعة أيام. لم يعد أحد في جنوب اليمن، حتى القريبون من الاحتلال، يصدّق الوعود، والحديث عن هبات أو ودائع أو دعم مشاريع وغير ذلك. وبالمناسبة، فإن الدعاية الإعلامية السعودية لا تكفّ عن الترويج للأخبار الزائفة حول الدعم الإنساني والإغاثي الخليجي «اللامحدود» لليمن بالعموم والجنوب بالخصوص، وكذلك إصدار جداول وأرقام فلكية عن المبالغ الوهمية التي تزعم تقديمها. ولسوف تستمرّ الماكينة الإعلامية التابعة للنظامين السعودي والإماراتي في إطلاق تلك المزاعم، للاستفادة منها في المحافل والمؤسسات الدولية وحيث يلزم. لم يكتفِ الاحتلال بإيقاع مواطني جنوب اليمن في شَرَك أجنداته، بل ولّى عليهم شخصيات لا تمتلك الكفاءة والخبرة والاختصاص، ولا الحيثيات السياسية والاجتماعية والقبلية، وهي من الموسومين بصفات التملّق والتزييف والانتهازية، والبحث عن النفوذ والغنائم. وبعض هؤلاء من أصحاب السوابق، فيما يدير بعضهم الآخر عصابات منظّمة تقتل وتنهب بالأجر، أو تقتل وفق المشروع الخليجي الذي لا يحتمل الرأي الآخر.
يدير الاحتلال الخليجي صراعاً دامياً في محافظات جنوب اليمن، من خلال تصفية حسابات معقّدة بين الأطراف المحلية المتصارعة في ما بينها: «المجلس الانتقالي الجنوبي»، وحكومة أحمد عبيد بن دغر، وحزب «الإصلاح»، وأحياناً تنظيم «القاعدة». والجانب الأكبر من هذا الصراع القذر هو انعكاس للخلاف الخليجي بين كل من السعودية والإمارات من جهة وقطر من جهة أخرى، وقد انحدر ليُسقِط المحرمات والقيم والتقاليد، ويكشف الشعب الجنوبي على آلة قتل غاشمة لا تبقي ولا تذر، في حين بات الانفلات الأمني الشامل خارجاً عن أي قيود.
يستخدم المتصارعون النخب الجنوبية وقوداً لتنازعهم على النفوذ والسيطرة، في خطة مُحكَمة تهدف إلى إبادة الخصم، وإزالته من الوجود. وتَعمَد كلّ من الرياض وأبو ظبي، في سبيل الوصول إلى غاياتهما، إلى إذكاء العداوة، وزرع بذور الحقد، في مشروع تستهدفان من خلاله السيطرة على المفاصل الحيوية والاستراتيجية. وهو ما اقتضى تشتيت الجنوبيين، وتقسيمهم إلى مناطق وقبائل وأجنحة وفصائل، ليَسهُل استخدامهم في ضرب القوى المُصنّفة على أنها عدوة أو غير صديقة. ولا يقتصر الأمر، هنا، على حزب «الإصلاح»، بل يشمل أيضاً القوى الوطنية المعارضة للهيمنة والسيطرة، والتي تتعرّض قياداتها وكوادرها للإخفاء القسري في السجون السرية، أو التصفية الجسدية.