نظام المحاصصة العرقي والطائفي، الذي أقرّه السفير الأميركي السابق زلماي خليل زاده (2005 ــ 2007) في «مؤتمر لندن» منتصف كانون الأول/ ديسمبر 2002، هو الممسك بمفاصل الحكم في العراق، حتى بعد إقرار الدستور عام 2005. فلا الانتخابات، أو الديموقراطية، أو التبادل السلمي للسلطة، أو الكفاءة والنزاهة، أو تاريخ الأفراد النضالي، ولا حتى الانتماء/ الولاء للنظام السابق بكل معاييره، تُحدِّد من يتولى الحكم، أو يتقاسم «كعكته» في عراق ما بعد صدام حسين.
انتخابات «إقليم كردستان» البرلمانية، التي جرت في 30 أيلول/ سبتمبر الماضي، لا تحيد عن هذا النظام المعمول به في عموم بلاد الرافدين. هي ــ منذ أول انتخابات أُجريت في «كردستان» عام 1992، وحتى آخر انتخابات ــ يُنظر إليها على أنها واحدة من مفاصل نظام المحاصصة السيّئ الصيت، الذي أصبح المعيار لدى جميع الأطراف في الشمال، التي تتصرف مع المركز في بغداد وعموم العراق كـ«غنيمة» وليس كوطن.
وبمعزل عن النتائج المُعلَنة من قِبَل «المفوضية العليا للانتخابات في الإقليم» الخميس الماضي، فإن تركيبة البرلمان الكردي المكوّن من 111 مقعداً لن تخرج عن السيطرة الثنائية الكلاسيكية للحزبين الرئيسين: «الحزب الديموقراطي الكردستاني» بزعامة مسعود بارزاني والمسيطر على العاصمة أربيل، و«الاتحاد الوطني الكردستاني» ــ أبناء الراحل جلال طالباني ــ صاحب النفوذ التقليدي في السليمانية. «ثنائية» تؤشّر على ولاء الأحزاب العراقية المناطقي عموماً، والغارق أكثر في العشائرية في «كردستان»؛ وقد ظهر هذا جلياً في الانتخابات المحلية السابقة، إذ فرض «الديموقراطي» سيطرته على غالبية المقاعد البرلمانية، مُحتفِظاً بأصوات الناخبين في محافظتَي أربيل ودهوك، حيث تقع بينهما بارزان، وهي قرية صغيرة تابعة لعشيرة الزيبار، إحدى العشائر الكردية الضاربة والكبيرة، والساكنة في المنطقة الواقعة شمالي مدينة عقرة.
لقد أظهرت النتائج، كما كان متوقّعاً، تصدّر «الديموقراطي»، في انتخابات بلغت نسبة المشاركة فيها 57.96 بالمئة. فاز بـ42 مقعداً، مقابل 24 مقعداً لغريمه «الاتحاد»، الذي شكّك منذ البداية في نزاهتها، مستنداً إلى اعتراف «المفوضية» بحصول خروقات كبيرة، خصوصاً أنها سجّلت 425 شكوى بحاجة إلى تحقيقٍ لحسمها. وبدا واضحاً، أيضاً، بروز انقسام كبير في مواقف قادة «الاتحاد» من هذه النتائج، وذلك بعد فوز مرشّح الأخير برهم صالح بمنصب رئاسة الجمهورية، من دون أن يمنع ذلك استمرار المعركة حول كركوك ــ بكل رمزيّتها ــ والتي كان يصفها مؤسس «الاتحاد»، الزعيم الراحل جلال طالباني، بـ«قدس الأقداس»، على اعتبار أنها «عصب جامع» للأكراد الطامحين نحو «الاستقلال». وفيما استبق المتحدث الرسمي باسم «الاتحاد»، سعدي أحمد بيرة، النتائج بالتأكيد أن حزبه لن يعترف بها، معلناً رفض «الاتحاد» لها، كان للقيادي قوباد جلال الطالباني رأيٌ آخر، إذ رأى أنّ «من المبكر اتخاذ أي قرار حول سير عملية التصويت العام للانتخابات»، في موقف ترك من خلاله الباب موارباً لمفاوضات تجري خلف الستار مع بارزاني حول تشكيل الحكومة المحلية المقبلة وتوزيع الحصص، كما هي العادة في كل الحكومات السابقة، سواء في «كردستان» أو في بغداد، على قاعدة «هذا لي، وهذا لك»… و«شيلني وأشيلك»!
أما الأحزاب المعارضة، فقد فشلت بدورها في تحقيق خرق جدي في مشهد «ثنائية» أربيل ــ السليمانية. وعلى رغم ما يقال من حدوث تزوير، إلا أنه بدا واضحاً ضعف تلك الأحزاب (مثل «حركة التغيير» و«الحركة الإسلامية») وتراجعها، في انتخابات لم تكن نسبة المشاركة فيها بزخم الدورة السابقة، بسبب تداعيات استفتاء الانفصال (أيلول/ سبتمبر 2017). وهنا، تجدر الإشارة إلى أن قادة من «الاتحاد»، وعلى رأسهم نائب الأمين العام نيشروان مصطفى، انشقّوا عن الحزب عام 2009، ليشكّلوا «كوران» أو «حركة التغيير»، التي ضخّت دماء جديدة في برلمان «الإقليم»، وفازت آنذاك بـ25 مقعداً، ما اعتُبر تغييراً حقيقياً. وفي الانتخابات التالية التي جرت أواخر عام 2013، فازت حركة التغيير بـ24 مقعداً، وهو ما جعلها تقود معارضة فعلية أمام الحزبين الحاكمين. لكن تراجع نتائجها ــ في الانتخابات الأخيرة ــ مردّه إلى غياب قوة تأثير مؤسّسها المتوفى نيجرفان مصطفى، وحدوث بعض الانشقاقات في صفوفها. كذلك إن تراجع «الاتحاد» نفسه، والانشقاقات التي ضربت صفوفه بعد وفاة «مام» جلال، أدّيا إلى تراجع حظوظه مقابل «الديموقراطي»، الذي حاز كما في السابق الأغلبية، ما سيدفع الأول إلى التفاهم مع غريمه والرضوخ في النهاية لنتائج الصندوق.
ما ستشهده «كردستان» في السنوات المقبلة: معارضة ضعيفة، واستمرار «الديموقراطي» و«الاتحاد» في اقتسام السلطة القائم منذ 1992، ومحاولة كل طرف وأنصاره تطوير خطابه في الخارج ومع بغداد، للحصول على أكبر قدر من «الغنيمة»، بعيون شاخصة نحو «الاستقلال»! مشهد ليس إلا جزءاً من تفاهمات إقليمية ودولية بعيدة تماماً عن الانتخابات، التي يُعاد رسم نتائجها وفق ما تقتضي تلك التفاهمات. وهذا ما حصل عقب انتخابات البرلمان الاتحادي، حيث اضطرت الولايات المتحدة إلى مباركة التفاهم الإيراني ــ البريطاني حول تشكيل الحكومة العراقية المقبلة، بعدما استشعرت خسارة رهانها على مبعوثها، بريت ماكغورك، في فرض حيدر العبادي رئيساً للوزراء لولاية ثانية. لذا، رضيت بما اتفق عليه السفيران البريطاني جون ويليكس، والإيراني إيرج مسجدي، لتأتي سريعاً تهنئة وزير الخارجية، مايك بومبيو، لرئيس الوزراء المكلّف عادل عبد المهدي، حتى قبل التصديق عليه وعلى حكومته من قِبَل البرلمان.