في ربيع عام 1995 ارسل المدير العام في طلبي عند ساعات الصباح الأولى..كان الذهاب الى المدير في اوج عظمة الصناعه العراقية وفي خضم حملة اعمار العراق التى رفعتها الدولة بعد خروج العراق مدمرا عام 1991.أمر يبعث الريبه والخوف إذ كانت ادارة مفاصل الدولة اشبه بالإدارة البوليسية أذ يتمتع المسؤولون بالهيبة والرفعة والاحترام حتى حلت علينا كارثة النظام الديمقراطي الجديد والذي خرب رصانة ومتانة الدولة بوضع المتحزبين والرجل غير المناسب في المكان الغير مناسب .
حسين سأكلفك بمهمة أشبه بالسرية وهي ليست بالصعبة عليك ولكنها جديدة ..وانأ على ثقة بأنك(تدبرها)…ودفع ألي مظروفا سريا ومختوم على جوانبه وكتاب ايفادي مع رسالة شخصيه بظرف مفتوح .كانت المهمة هي الذهاب الى منشأة جابر بن حيان والتى تقع شرق سد بادوش في الموصل وهي من منشاأت التصنيع العسكري المتخصصة بإنتاج معدات الوقاية من الضربات الكيماوية .
…قبل ان اغلق الباب حذرني السيد المدير قائلا (تذكر انها سرية ودير بالك على نفسك بالموصل )
في كراج العلاوي وقبل بزوغ الفجر صعدت منشاة (الازبري ) المتوجهه الى نينوى وبقربي جلس رجل خمسيني يرتدي دشداشة سمائية مطرزة الياقة والاكمام ويضع (غترة) بيضاء ناصعه على رأسه ..تبادل معي بلطف وبشاشة كلمات الترحيب والمجامله .
حينما تحرك الباص أستغربت ان لا احد نادى في الباص الكبير (الفاتحة لام البنيين ..تسهيل أمر ) او الصلاة على سيد المرسلين كما هي العادة في رحلات سفري بين الناصرية وبغداد. فتوجست خيفة ولمع امامي بريق عيني مديري المخيفتين وهو يوصيني .
عند سيطرة التاجي طلب الانضباط هويات الركاب ومنهم هويتي وحين سألني مااسمك (وهي طريقة سخيفة يتبعها الزنابير لمعرفة رد فعل ان كانت الهوية مزورة)أجبته :حسين ..ووين أهلك …بالناصرية .فدفع لي الهوية وهو يحدق مليا بربطة عنقي .
حينها احسست أن جليسي الخمسيني قد تزحزح جانبا وتغيرت ملامحة ..حتى انه لم ينبس معي بكلمة طول الطريق ذو ال6 ساعات …رغم اني حاولت الحديث معه مرار لتمضية وقت هذة الرحلة الطويلة .
في احد مطاعم الطرق الخارجية توقف الباص في بيجي لتناول طعام الافطار ..والغريب انني وجدت الاخوين ستار وجبار وهم من منطقة ال بوشيج يعملان كعاملي مطعم هناك بعد ان ضاقت سبل العيش في الناصرية جراء الحصار في الجنوب أذ هاجر اغلب الشغيلة من عمال بناء وحرفيين الى تلك المناطق كونها تشهد ازدهارا وعمراننا .
في مدخل سيطرة الغزلاني والذي أمرنا فيه من الترجل من السيارة كما هي الاجراءات المتبعه عند مداخل المدن ..جرى تفتيش دقيق على اوراق المسافرين ولوحظت ان الرجل الخمسيني قد توجه الى بناية السيطرة وعاد وهو بصحبة اثنان بالزي المدني ..مسك احدهم يدي وقادني الى غرفة يبدو انها لضابط السيطرة …وما ان راى كتاب الايفاد وهويتي من انني موظف حكومي ومكلف بايفاد..حتى انفرجت اساريرهم وأجلساني وهو ينظرون بغضب لهذا المخبر الفاشل .
رافقني احدهم وقدم لي شبه اعتذار من ان هناك بلاغات عن (الشروكية) الهاربين الى سوريا عن طريق الموصل واغلبهم مطلوبون بالاشتراك بإحداث 1991 اوبالانتماء للاحزاب الاخرى .
حتى ان الخمسيني صافحنى وقال لي نحن ابناء الدولة ومهمتنا ان نحفظ امن العراق العظيم وهي مهمتنا جميعا ..وأردفها بمقولة (هكذا علمنا السيد الرئيس القائد ).
لم يحمل أبناء الجنوب أية ضغينة لأهل الموصل بل بالعكس فالعشرات بل المئات من ضباط وجنود الموصل العائدين مهزومين من الكويت في شباط 91.كانوا ضيوفا كرام في دورنا وأعطيت لهم الملابس والأموال للعودة الى ديارهم وحفظنا لهم ارواحهم وممتلكاتهم .معززين مكرمين ..رغم ماذاق أبناء الجنوب من ضباط الاجهزة الامنية والذين كان اغلبهم من مناطق تكريت والموصل والذين أوغلوا بدماء وإعراض الشيعه ونكل بأبنائهم وأذاقوهم صنوف التعذيب في مديريات الامن والمخابرات والرضوانية أذ لم تخلوا اي دائرة حساسة او هامة من ترأسهم لها وتعاملهم بالاستخفاف والاستهجان مع (الشروكية ).
كذلك لم تخلوا قيادات الجيش والشرطة من هذا التوصيف .وذكر لي احد قادة الجيش الكبار من انه توقف في باب احد مراكز الاستخبارات 3 ساعات بانتظار يقظة نقيب موصلي من قيلولته للدخول .
كانت الوشائج شبه مقطوعه بيننا وكانت الريبة وذكريات الماضي البغيض هو مايسود علاقة مواطن الجنوب مع الموصليين … وكل ماكان يشدنا الى هذه المسميات هو (من السما ..والحلقوم الموصلي ).
طول الطريق الملتوي الى سد بادوش كان سائق التاكسي يترنح على صوت اغنية كاسيت موصلية تقول :
. بالله افغشولو بصدغ الايوانة.. مات العدو واصفغت الوانه.
وحينما سألته ماذايقول المغني..تطلع الى وجهي مليا وقال ..أمنين أنت فأجبته .. من الناصرية .
صفقت يداه وترك المقود وردد بلهجة لا افهمها
(الله لك يابة أشقد أحبها ).
حدثني (يحيى) انه كان جنديا في مركز التدريب قرب اور وتذكر بحسرة تلك الاماسي الجميلة التى كان يقضيها في مساءات شارع الحبوبي وأفاض عليه بمشاعر جميلة من الحنو والود واللطافه رغم لهجتة الصعبة المتخمة بحروف الغين والقاف .حتى انه توقف قرب دكان واشترى قنينتي ببيسي ..واعتبرتها عربون محبه وكرم والتى قلما يفعلها الموصليين المشهورين بالشح والبخل .
عند البوابة المهيبة لمنشأة جابر بن حيان والتي تقع بين اربعة جبال ..نزل يحيى وعانقني بشوق ورفض اخذ الاجرة …وأصر على انتظاري ..لكنني قلت له ربما أتاخر كثيرا .ولمعت دمعة مودة وحب ووفاء لأهل ذي قاروهويودعني ويحملني سلاما وشوقا لاهلها الكرام .
رغم عسكره المكان وتعدد بوابات التفتيش الا ن لقائي بموظفي هذة المنشأة وجلهم من اهل نينوى ترك في قلبي انطباعا جميلا عن سماحة وطيبة اهلها ..وحبهم لأهل الجنوب وتراثه وغنائه حتى انهم امطروني بأسئلة عن المطرب حسين نعمة وحياته الخاصة .توج ذلك لقائي بمديرها العام وحفاوة الاستقبال التى غمرني بها ..وتبين ان المهمة لاتعدو ان تكون مهمة عادية وهي تصنيع قطع غيار مطاطية لبعض أجزاء مكائننا ..الا ان نظام المراسلات في تلك الحقبة ومع دخول فرق التفتيش الدولية كانت تحاط بالسرية التامة .
تناولت الغذاء في مطعم المهندسين وكانوا بينهم من اغلب محافظات العراق فكانوا فسيفساء جميلة تبادلنا فيها النكت والقفشات وكانت جلها تنال من الموصليين والذين تقبلوها بروح رياضية وسماحه متناهية .
عند عودتى تجولت باسواق الموصل وبهرت بهذه المدينة التي يشق (زيجها )دجلة فيضفي على منظرها جمالا خلابا ونكهه خاصة ومنحنى التجوال في اسواقها القديمة عبقا للروح وجمالا للنفس ..واجبرتني طيبة (المصالوه)التجوال حتى المساء بين رموزها الشاخصة من معالم اسلامية وحضارية و بين ازقتها التراثية العتيقة واسواقها الشعبية وتعامل الناس خصوصا عندما يعرفونك انك ضيف وغريب.
كثيرا من الهواجس مسحتها من ذاكرتي وأسفت لانني رسمت لوحة تراجيدية سوداء عن التركيبه الاجتماعيه عن اهل الموصل ..وأيقنت أن نفرا ضالا من ضباط الامن والمخابرات لايشكلون وسما للموصل الطيبة .بل ان فلسفة ادارة الدولة البعثية القمعية هي من شكلت مكننة عمل هذة الاجهزة وظلمها للشروكيين …
بعد اثنان وعشرون سنه وانا اتابع ملحمة تحرير الموصل وهي في قطافها الاخيروالتى أبلى فيها أبناء العراق من كل الطوائف والقوميات بلاءا حسنا وتناسوا كل مسببات الفرقة والضغائن …تذكرت دموع يحيى السائق وعواطفة النبيلة تجاة الشروكيين ..ولابد انه الان حيا يرزق ليرى بام عينة كيف قدم حسين وعبدالزهرة وعبد الحسن مهجهم رخيصة من اجل ام الربيعين وكيف أختلطت دمائهم الزكية على ارض الحدباء مع دماء عمر وذنون وزكريا .
والذين سيكتبون النصر الناجز قريبا انشاء الله ..
حسين باجي الغزي