يوماً بعد يوم، تكتمل تفاصيل المشهد المتصل بمقتل جمال خاشقجي: تركيا تلوّح للأميركيين بأدلة الجريمة، والولايات المتحدة تريد تسكيت الأتراك، وفي الوقت نفسه الحفاظ على العلاقة مع السعودية، أما الأخيرة فتتولّى تقديم تسهيلات وأوراق اعتماد لعملية «اللفلفة» هذه. عملية بات واضحاً ــــ في حال إتمامها ــــ أنها ستحفظ رأس محمد بن سلمان، لكنها في الوقت نفسه ستفرض عليه تراجعاً سياسياً لمصلحة أنقرة وحلفائها.
لا تجد السعودية مانعاً من تبديل روايتها بشأن مقتل مواطنها جمال خاشقجي. إلى الآن، تمنحها الإفادات التركية هامشاً واسعاً لإدخال تعديلات على الرواية الأصلية، بما يتماشى وشهادات واشنطن وأنقرة وحتى العواصم الأوروبية، والتي لا تزال تراوِح في الدائرة نفسها. يوم أمس، صادق آخر تحديث للرواية الرسمية السعودية على ما يلحّ عليه العالم أجمع من أن الجريمة تمّت بـ«نية مسبقة»، توازياً مع بدء ولي العهد محمد بن سلمان إجراءاته المزعومة لـ«إعادة هيكلة الاستخبارات العامة»، ما يوحي بأن ثمة اطمئناناً لديه إلى أن الأمور في طريقها نحو الحلحلة. وهو اطمئنان تعزّزه واقعاً حالة الاستنفار لدى إدارة دونالد ترامب و«كارتيلات» السلاح الأميركية من أجل حماية الصفقات المُبرمة مع الرياض، وكذلك تذبذب موقف كبار مورّدي الأسلحة الأوروبيين، على رغم كل الجعجعة الدائرة في هذا الإطار.
وبعدما تنقّلت الرواية السعودية من القتل أثناء «شجار واشتباك بالأيدي»، إلى القتل بـ«كتم النفس»، محاوِلة في ذلك كله التشديد على أن عملية التصفية تمّت عرَضاً وليس عن سابق تصوّر وتصميم، استقرّت أمس على أن «المشتبه فيهم أقدموا على فعلتهم بنية مسبقة». تحديث يساوِق ما كان قد أعلنه الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، من أن «العملية كان مُخطّطاً لها»، وحديث الرئيس الأميركي عن «مخطط أصلي سيئ للغاية»، لكنه لا ينقض محاولة الرياض إلصاق الجريمة بمسؤولين في الاستخبارات والديوان الملكي (سعود القحطاني وأحمد عسيري وغيرهما)، وإبعاد وصمتها عن ولي العهد. ما يعزّز القراءة المتقدمة هو التفسير الذي قدّمته الرواية الثانية، والتسريبات التي أوردتها «رويترز» في الـ 22 من الشهر الجاري، نقلاً عن مصدرَين استخباريَّين. إذ زعمت الرواية المذكورة أن ثمة «توجيهاً سابقاً بمفاوضة المعارضين للعودة»، وأن هذا التوجيه لا يلزم المسؤول بـ«العودة إلى القيادة لنيل موافقتها»، في حين تحدثت تسريبات «رويترز» عن أن القحطاني هو من أشرف على عملية قتل خاشقجي، مُوجّهاً الشتائم إلى الأخير، ومن ثم آمراً بالتخلّص منه. كلها إفادات تصبّ في منحى واحد: رجال ابن سلمان خطّطوا ونفذّوا وتستّروا من دون العودة إلى ولي العهد!
يتحاشى كبار المورّدين الأوروبيين التطرق إلى صفقات الأسلحة مع الرياض
هذه الادعاءات لم يخرج ــــ حتى يوم أمس ــــ من جانب أنقرة ما يسدّ الطريق عليها. إذ إن وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، أعاد طرح الأسئلة التي كان رئيسه قد أوردها في خطابه أمام البرلمان، من دون تقديم أجوبة شافية. وقال أوغلو، في مؤتمر صحافي في أنقرة، إنه «لا تزال هناك أسئلة تتطلّب أجوبة»، مجدّداً المطالبة بمحاكمة المتورطين في إسطنبول. لكن ما بدا لافتاً في كلمة الوزير التركي هو أنه نفى وجود «أي رغبة» لدى بلاده في رفع القضية أمام محكمة دولية، بعدما كان إردوغان قد أوحى بخلاف ذلك عندما أشار إلى «مسؤولية دولية» في معرفة قَتَلة خاشقجي. تصريحات تعزّز الحديث عن سعي أنقرة إلى جني أثمانٍ سياسية ومالية مقابل تستّرها على الجريمة، التي يعتقد خبراء بأن أدلتها جميعاً باتت في حوزة السلطات التركية، بما فيها مصير جثة الصحافي السعودي، والتي لا يزال الأتراك يشغلون وسائل الإعلام بمهمة البحث عنها، تارة في غابات إسطنبول، وطوراً في حديقة منزل القنصل السعودي محمد العتيبي، حيث أفيد أمس عن قيام الشرطة التركية بأخذ عيّنات مياه من البئر الواقعة هناك.
تقدّم اعتبارات المقايضة السياسية على مقتضيات العدالة الجنائية يتجلّى كذلك في الولايات المتحدة، حيث تستنفر شركات الصناعات العسكرية الكبرى ومعها إدارة ترامب من أجل تنسيق حملة علاقات عامة واسعة النطاق، تستهدف الحيلولة دون إقدام الكونغرس على عرقلة صفقات أسلحة بعشرات مليارات الدولارات للسعودية، وخصوصاً في ظلّ تقدّم نواب من الحزبين (الجمهوري والديموقراطي) بمشروع قانون لوقف بيع السلاح للرياض. على أن التحدي الأبرز أمام الإدارة الأميركية، إلى جانب مهمّة امتصاص السخط الداخلي المتزايد على المملكة، هو كيفية التعامل مع الجانب التركي الذي يطلب مقابلاً لـ«تواطئه» على لفلفلة القضية، مُتسلّحاً بامتلاكه أدلة الجريمة. أدلّة أكدت صحيفة «واشنطن بوست» ووكالة «رويترز»، أمس، ما كان قد أورده الإعلام التركي من أن مديرة وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، جينا هاسبل، اطلعت عليها لدى زيارتها أنقرة.
وبالتالي، تتّجه الأنظار إلى ما سيستقرّ عليه موقف ترامب بعدما أطلعته هاسبل على تفاصيل تلك الأدلة في اجتماع عُقد بينهما مساء أمس. لكن، وبمعزل عن التصريح «الانفعالي» الأخير الذي سجّله ترامب، متأثراً ــــ على ما يبدو ــــ بتلقّيه من هاسبل إشارات متّصلة بالتسجيلات التي تملكها أنقرة، فإن موقفه لا يتوقّع أن يخرج عن السياق العام الداعي إلى تقديم المصالح على أي اعتبار آخر.
هذا السياق يتبلور، أيضاً، على المقلب الأوروبي. إذ، وعلى رغم إصدار البرلمان الأوروبي قراراً غير ملزم بحظر بيع الأسلحة إلى السعودية، إلا أن حكومات الدول المُتصدّرة لائحة المورّدين إلى المملكة كفرنسا وبريطانيا لا تزال تلوّح بعنوان عريض هو العقوبات، متحاشية الاقتراب من صفقات الأسلحة. ولعلّ ذلك التراخي هو ما يشجّع ابن سلمان على المضيّ في نسج روايته الكاذبة، وآخر فصولها ترؤسه أمس الاجتماع الأول لـ«لجنة إعادة هيكلة الاستخبارات» بهدف مناقشة «خطة الإصلاح»، توازياً مع إرساله إشارات متتالية إلى استعداده لتقديم تنازلات سياسية، بما يسهّل على ترامب مهمة استرضاء الأتراك، والتي لا يبدو أنها ستقتصر على «الإعطاء من كيس» الحلفاء.