لا تخيّب الممالك والإمارات والسلطنات في الخليج الظنّ الثابت فيها. هي ملازِمة للفَلَك الاستعماري بنسختَيه البريطانية والأميركية. يكاد الخروج من هذا الفَلَك يشكّل بالنسبة إليها انقطاعاً لأسباب البقاء. قد تختلف في ما بينها، وقد تنمّي أحقاداً، وقد تتبادل الضرب تحت الحزام وفوقه، لكنها تبقى جميعها تحت مظلّة الراعي الأميركي الذي يشكّل مدى القرب من إسرائيل مقياساً لنيل رضاه والبقاء في جُنحه.
سُلالات التصهين: إسرائيل خيمتنا
لا تخيّب الممالك والإمارات والسلطنات في الخليج الظنّ الثابت فيها. هي ملازِمة للفَلَك الاستعماري بنسختَيه البريطانية والأميركية. يكاد الخروج من هذا الفَلَك يشكّل بالنسبة إليها انقطاعاً لأسباب البقاء. قد تختلف في ما بينها، وقد تنمّي أحقاداً، وقد تتبادل الضرب تحت الحزام وفوقه، لكنها تبقى جميعها تحت مظلّة الراعي الأميركي الذي يشكّل مدى القرب من إسرائيل مقياساً لنيل رضاه والبقاء في جُنحه. عقب اندلاع الأزمة الخليجية، اختلف السعوديون والإماراتيون والقطريون على كل شيء… إلا على إسرائيل. ظلّ الاشتغال على نيل رضى اللوبيات الإسرائيلية عنصراً جامعاً ما بين المتنازعين، وغابّاً لأموالهم. ومع ذلك، لم يجد «الأشقاء» حرجاً في المزايدة على بعضهم البعض بـ«لوثة» التطبيع، حتى أن «كبيرهم الذي علّمهم السحر»، أي السعودي، كان يسارع إلى «فضح» اللقاءات القطرية ـــ الإسرائيلية، وهو الذي لم يترك ـــ تحت قيادة محمد بن سلمان ــــ اجتماعاً سرياً أو علنياً يعتب عليه، مُتصدِّراً صفوف المروّجين لـ«صفقة القرن» وجاهداً في سبيل إتمامها.
أما الإماراتيون فلا شأن لهم في حديث «الفضائح». هم من روّاد «فلسفة» الاعتدال التي يتولّى التنظير لها سفيرهم في واشنطن يوسف العتيبة، والتي يرون أنها ترتّب عليهم «واجب» التشجيع على «التطبيع» بمعزل عن أيّ اعتبارات أخرى. أريحية تنسحب أيضاً على «الشقيقة الأصغر»، مملكة آل خليفة، حيث تبدو الأمور على هيئتها الأكثر نصاعة، مُجرّدة من أي مساحيق أو تبريرات. خادم الأميركيين والبريطانيين الأمين لم يغصّ يوماً بالإسرائيليين، بل إن التقرّب إلى الأخيرين كان دوماً الأحبّ إليه من بين جميع الاختبارات السعودية.
وإذا كانت التبعية للسعودية تستلزم حكماً ودّاً مع إسرائيل، فإن البعد منها لا يبدّل من الأمر شيئاً. سلطنة عُمان، النائية بنفسها عن كلّ معارك المملكة، لم تكتفِ بموقف الحياد إزاء ما تشهده الأراضي المحتلة، بل ذهبت أبعد من ذلك، مُتلقّيةً الجلّاد الإسرائيلي في الأحضان. مشهد لا يبدو معزولاً من ديناميات السعي إلى «الحماية» المتسارعة في الخليج اليوم، والتي تجلّي حاجة كلّ من المشيخات إلى تحصين نفسها بوجه «الأشقاء الأعداء» عبر اللجوء إلى أسيادهم.
قابوس يستعيد دوره… إلى جانب نتنياهو
لا تشكّل زيارة رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو إلى سلطنة عمان مفاجأة خاصة استثنائية، في سياق تراكض الأنظمة العربية باتجاه إسرائيل والتطبيع معها. الزيارة والمشاهد الحميمية التي تخللتها ليست حدثاً مؤسساً في ذاته بل هي نتيجة لمسار طويل من العلاقات بين السلطنة وإسرائيل، تضرب بجذورها عميقاً، من سنوات القرن الماضي.
مع ذلك، إن كانت للزيارة دلالات خاصة بينية، إلا أن دلالاتها الكلية تتجاوز بالتأكيد العلاقات بين الجانبين: ورد أمس عن مصدر سياسي إسرائيلي رفيع المستوى، التأكيد أن محادثات نتنياهو والسلطان قابوس، بدأت مساء يوم الخميس بعد أن حطت طائرة الضيف في مسقط، واستمرت ساعات طويلة لتنتهي في الساعة السادسة والنصف من صباح يوم الجمعة. الأمر الذي يثير سلسلة من التساؤلات الابتدائية، حول موضوع أو موضوعات المحادثات، والنتائج التي ترتبت عليها.
مفاجأة الزيارة، إن كانت، فقائمة على خلفية أن السلطنة ليست في صدارة الأحداث والخطط والمشاريع المعدة للمنطقة. وكذلك لأن دور الوسيط الذي تلعبه في العادة، يتعذّر أن يكون هدفاً لزيارة نتنياهو، وهو الذي لا يريد ولا يسعى وليس بحاجة، إلى وسيط تفاوضي مع من يريد بالفعل التفاوض والاتصال معه، من دول في المنطقة باتت في معظمها تتراكض باتجاهه.
لكن سلطنة عمان، في الوقت نفسه، دولة من الدول الخليجية ذات الحضور والمكانة وإن تمايزت عن غيرها، وعمدت إلى الابتعاد عن الصدارة في ما يتعلق بالتجاذبات والمحاور المباشرة بين المتخاصمين والأعداء في المنطقة. لكنها أيضاً، مترسخة في المحور الأميركي الذي لا يمكن فصلها عنه، وإن عمدت إلى التمايز. على هذه الخلفية، واضح أن الزيارة حلقة من حلقات مطلوبة من الأنظمة الخليجية للتطبيع الكلي بينها وإسرائيل، مع أو من دون «صفقة القرن»، التي باتت إسرائيل نفسها تنظر إليها كتنازل لا ضرورة له. على ذلك، يأتي تظهير العلاقات بين أنظمة خليجية وإسرائيل، ومن بينها أخيراً، الزيارات المتلاحقة للمسؤولين الإسرائيليين إلى الإمارات العربية المتحدة، وآخرها زيارة الوزيرة ميراي ريغف على رأس وفد إسرائيلي إلى أبو ظبي؛ فيما مملكة البحرين قطعت شوطاً كبيراً جداً باتجاه التطبيع إلى الحد الذي بات مستغرباً أن لا سفارة إسرائيلية في المنامة؛ أما دولة قطر، فهي على جاهزية كاملة إلى حد التآخي مع الإسرائيليين، على خلفية إرضاء السيد الأميركي لتأمين الحماية اللازمة والمتذبذبة، من الخصم السعودي.
إن صحت هذه المقاربة، وهي الأرجح، فإن كل «حركات» التطبيع التي تقودها وتظهّرها الأنظمة الخليجية، والتي تقفز قفزاً في الفترة الأخيرة، مقدمة لخطوة سعودية كبيرة جداً مرتقبة، برعاية ودفع أميركيين، كتتويج للحراك الخليجي في التطبيع الكامل مع العدو، والإعلان عن العلاقة والحلف معه، في مواجهة إيران وحلفائها ومكونات المحور المعادي لإسرائيل. وهو ما يفسر، في السياق نفسه، هوية الوفد المرافق لنتنياهو إلى عُمان: رئيس الموساد يوسي كوهين، مستشار الأمن القومي مئير بن شبات، مدير عام وزارة الخارجية يوفال روتم، رئيس طاقم مكتب نتنياهو يوآف هوروفيتش، والسكرتير العسكري لرئيس الحكومة العميد آفي بلوت.
«حركات» التطبيع التي تقودها الأنظمة الخليجية مقدمة لخطوة سعودية أكبر
الخبر الوارد في الإذاعة العبرية أمس، يشير إلى علم سعودي مسبق بالزيارة، وفي ذلك دلالات: طائرة نتنياهو حلقت طويلاً في الأجواء السعودية قبل أن تصل إلى الأجواء البحرينية، ومن بعدها إلى عمان. وبحسب الإذاعة أيضاً، «ليس من المستبعد أن تفتح هذه الزيارة الباب أمام علاقات علنية بين إسرائيل ودول خليجية أخرى»، في إشارة إلى السعودية.
ضمن هذه الفرضية أيضاً، مع إعادة التأكيد على أرجحيتها، يصعب التصديق أن محمد بن سلمان بعيداً عنها. بل أكثر من ذلك، يصعب التصديق أن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بعيد عنها أيضاً. السؤال المثار هنا: هل تسريع التطبيع مع إسرائيل (مع أو من دون صفقة القرن)، هو الثمن المفترض ببن سلمان دفعه لـ«تخليصه» من ورطة جمال الخاشقجي؟ واضح أن الورطة نفسها عامل مساعد، بل وتحث الأمير السعودي على تسريع الخطى باتجاه إسرائيل. وهي فرضية معتبرة، حتى وإن كانت الزيارة معدة ومقررة، قبل جريمة قتل الخاشقجي في إسطنبول.
في زيارة نتنياهو، أيضاً سياقان خاصان ومنفصلان: إسرائيلي وعُماني. إسرائيلياً، للزيارة فوائد متعددة ومتشعبة وغير محصورة وبلا أثمان. منها ما هو عام يتعلق بالكيان الإسرائيلي نفسه ومكانته وأمنه وتحسين قدرته الكلية على مواجهة أعدائه؛ ومنها ما يرتبط بنتنياهو نفسه.
لجهة «الدولة» الإسرائيلية، يشار إلى ما ورد على لسان مصدر سياسي إسرائيلي رفيع المستوى، في حديث لقناة «كان» العبرية أمس، بأنّ العلاقات مع سلطنة عمان ستتحوّل قريباً من علاقة «تحت أرضية» إلى علاقة علنية، في إشارة منه إلى إمكان استئناف العلاقات الدبلوماسية بين الجانبين التي قطعت عام 2000، على خلفية الانتفاضة الفلسطينية الثانية.
في ذلك أيضاً، يشير نتنياهو، أمس، إلى أن «الزيارة تعد مهمة في تطبيق السياسات التي رسمتها لتعزيز العلاقات مع دول المنطقة، بالاستفادة من تفوق إسرائيل في الأمن والتكنولوجيا والاقتصاد». وقال: «عدة دول مجاورة تمد الآن يدها إلى إسرائيل وتطبّع علاقاتها معنا. لا يجوز لنا أن نقلل من قيمة الانفتاح والتعطش المتواجدين في العالم العربي حيال إسرائيل». وفي مقدم الفوائد لإسرائيل، أن الزيارة، وما يمكن أن يعقبها، يؤشر إلى إمكان إنهاء القضية الفلسطينية بلا أثمان، وهو ما يؤكد عليه نتنياهو، مع الابتعاد عن المفاوضات مع الجانب الفلسطيني: «اعتقدنا دائماً أنه لو حللنا مشكلة الفلسطينيين فستفتح الأبواب أمام السلام مع العالم العربي. لكن ربما صحيح أيضاً، وربما أكثر، أنه لو انفتحنا إلى العالم العربي وطبّعنا العلاقات معه، فهذا سيؤدي إلى إمكانية السلام مع الفلسطينيين».
في السياق الشخصي لنتنياهو، الواضح أنه سيعمل على استغلال الزيارة لتعزيز مكانته في الداخل الإسرائيلي على أبواب الانتخابات المبكرة التي قد يتقرر إجراؤها بعد شهرين أو ثلاثة. الزيارة والترويج لنجاحات نتنياهو جرّائها، قد تمكن «الليكود» برئاسته من تعزيز مكانته في «الكنيست»، ومن ثم تشكيل الحكومة مع ائتلاف واسع يخلو من تجاذبات ومحاولات ابتزاز، يعمد إليها شركاؤه في الحكومة، كما هي العادة المتبعة.
في السياق العُماني، يشار إلى الآتي: واضح أن عمان، الدولة التي تعد رائدة في المسارعة إلى التطبيع مع العدو، أزيحت في الفترة الأخيرة عن صدارة هذه الصفة، على رغم تواصل العلاقة فعلياً، لتحل مكانها السعودية حتى من دون إقامة علاقات علنية مع تل أبيب. زيارة نتنياهو التي يتضح أنها جاءت بطلب من مسقط، مع المسارعة العمانية إلى الإعلان عنها قبل إسرائيل، تمكّن السلطنة في المراهنة على استعادة المكانة المفقودة التي أزيحت عنها إلى جانب إسرائيل، ومن ثم إعادة «التمتع» بفوائدها الكاملة مع السيد الأميركي.
الواضح أيضاً، أن السلطنة معنية بإعادة تقديم أوراق اعتمادها للإدارة الأميركية من دون الانضمام المباشر إلى الخطط الموضوعة للمنطقة، ومن بينها رفض مسقط الانضمام إلى «الناتو العربي» بتمظهراته العسكرية عبر التمحور المضاد لإيران وحلفائها. الزيارة، كما هي بدلالاتها، رهان عماني على إرضاء السيد الأميركي، والاكتفاء بالدور الذي تقوم به السلطنة تاريخياً إلى جانب الأميركيين، من دون الحراك الميداني العسكري المباشر، في أي من ساحات المنطقة.
هل ينفع ابن سلمان الاستنجاد بإسرائيل؟
تفرّد المستوى الرسمي في إسرائيل، من بين كل دول المعسكر الغربي، بالصمت والتجاهل إزاء جريمة قتل الصحافي جمال خاشقجي في قنصلية بلاده في إسطنبول. فكان صمته أبلغ دلالة على خلفية هذا الخيار الذي انتقته المؤسسة السياسية من بين حدّين حرصت على تجنّب عواقب كل منهما.
بعد الصدمة التي ترددت أصداؤها في تل أبيب، على وقع التداعيات الدولية لجريمة مقتل خاشقجي، كان أمام القيادة السياسية، ابتداء، خيار من اثنين: إما الوقوف العلني إلى جانب ولي العهد محمد بن سلمان في الجريمة التي يجمع العالم على بشاعتها، ويحمّله مسؤوليتها. وإما اتخاذ موقف متساوق مع الجو العام السائد في العالم الغربي، وهو ما يتعارض مع التقارب التصاعدي بين الرياض وتل أبيب، ومع مصلحة إسرائيل في عدم إضعاف ابن سلمان، الحليف الأكثر قرباً، وتحديداً في هذه المرحلة التي تواجه فيها إسرائيل تهديدات متصاعدة من محور المقاومة.
في ضوء ذلك، من الطبيعي أن تكون تل أبيب حريصة على عدم التسبب بأي تأزم في هذه العلاقة التي كثيراً ما يلمّح بنيامين نتنياهو إلى أنها في مسار تصاعدي، بل إن ما نراه ونسمعه في العلن عن لقاءات ومواقف ليس سوى أعراض لما يجري وراء الستار. وأكثر ما ظهر التشدد في التمسك بخيار الصمت الرسمي (حتى حينه) وأنه نتيجة قرار مدروس، عندما فاجأ أحد الصحافيين وزير الأمن أفيغدور ليبرمان بسؤال عن مقتل خاشقجي، فأجابه «هناك مشاكل كثيرة لدى إسرائيل، دع هذا للمجتمع الدولي».
لكن ما صمتت عنه تل أبيب، وبعبارة أدق ما لم تفصح عنه بشكل مباشر وصريح، تكفّل به الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي بادر إلى إيضاح خلفية تمسكه بالقيادة السعودية الحالية، مشيراً في مقابلة مع صحيفة «وال ستريت جورنال»، بالقول «إذا تبيّن أن ولي العهد محمد بن سلمان كان متورطاً في قتل خاشقجي، فإن هذا الأمر سيكون بمثابة ضربة قاسية للعلاقات بين السعودية والولايات المتحدة، وسيكون لهذا الأمر تأثير سلبي على منطقة الشرق الأوسط» موضحاً أن «السعودية حليف جيد جداً في ما خص إسرائيل وايران». وأضاف إن السعودية «ساعدتنا كثيراً مع إسرائيل، كما أنهم يمولون الكثير من الأمور».
من نافلة القول إن موقف ترامب لم ينبع من فراغ، وإنما من موقع الأكثر معرفة بالتفاصيل، ومع أنه من حيث المضمون لم يكن مفاجئاً، لكنه يبقى معطى كاشفاً عن السياق الذي يحكم العلاقات السعودية ــــ الإسرائيلية.
بلحاظ المحطات التاريخية التي مرّ بها الكيان الإسرائيلي، يلاحظ أنه تناغم وتكامل مع النظام السعودي في أغلب المراحل. ومع أن الظروف السياسية لم تفتح المجال لتقارب علني ورسمي بين الطرفين، إلا أن ذلك لم يحل دون تموضعهما في المعسكر الدولي والإقليمي نفسه، بل تقاطعت أولوياتهما في أكثر من محطة تاريخية.
بات جليّاً أن تل أبيب والرياض باتتا أحوج إلى مزيد من التقارب والتنسيق
بنظرة خاطفة إلى مواقف الرياض وتل أبيب، يلاحظ على نحو واضح تقاطع أولوياتهما إلى حد التطابق، إذ إن كلا الطرفين يحتل رأس جدول اهتماماتهما إيران ومحور المقاومة، ويسخّران لمواجهتهما إمكاناتهما العسكرية والسياسية والاستخبارية والمالية والإعلامية. وفي السياق نفسه، نجد أن مفردات الخطاب الدعائي الرسمي والإعلامي تكاد تكون هي نفسها، سواء لجهة المفردات المذهبية وتصنيف القوى الإقليمية.
في ظل التدرج الذي يعتمده النظام السعودي في تظهير علاقته بالكيان الإسرائيلي وتعزيزها، لم يكن مفاجئاً اللقاء العلني الأخير بين رئيس أركان جيش العدو غادي أيزنكوت مع نظيره السعودي فياض الرويلي، على هامش «مؤتمر قادة الجيوش» المنعقد في الولايات المتحدة. لكن ما ميّزه أنه كان على مستوى رؤساء الأركان، وعلنياً ويأتي في سياق سياسي إقليمي تبلورت فيه المعسكرات. وبحسب التلفزيون الرسمي الإسرائيلي، قناة «كان»، فإن القائدين خلصا إلى رؤية متطابقة «لتهديدات إيران»، ولرؤية مشتركة حول «كيف يمكن التعامل مع التهديد الإيراني ومواجهته».
أما في ما يتعلق بمستقبل العلاقات العلنية، بين الرياض وتل أبيب، فإنه يتصل ببُعدين، السياق الإقليمي وشخصية محمد بن سلمان.
لجهة العنوان الأول، بات جلياً بعد فشل رهانات تل أبيب والرياض، منذ الصراع الذي احتدم منذ الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، مروراً بالأحداث السورية، وصولاً إلى العدوان على اليمن، أنهما باتتا أحوج إلى مزيد من التقارب والتنسيق والدعم المتبادل. والارتقاء إلى التحالف الاستراتيجي المعلن الذي أثبتت التطورات أنه تحرّك حتى الآن تصاعدياً وبشكل متدرج، لكن ساهم التعثر السياسي المتصل بعملية التسوية على المسار الفلسطيني («صفقة القرن») في كبح اندفاعته حتى حينه.
وليس خافياً أن كل المسار الذي شهده تطور العلاقات الإسرائيلية ــــ السعودية، تلقى دفعاً غير مسبوق نتيجة تولي محمد بن سلمان ولاية العهد. لكن من غير المتوقع أن تسهب إسرائيل الرسمية في شرح الدور المباشر الذي يقوم به ابن سلمان. أما ما صمتت عنه، فنطق به إلى حد ما ترامب، وأسهب فيه العديد من الخبراء والمعلقين.
وعبَّر بعضهم عن خيبة أملهم من ولي العهد الذي كانت تل أبيب تعقد عليه الآمال، ويعتبرونه «الأمير الإصلاحي»، وصديق إسرائيل الذي اعترف «بحق اليهود في أرضهم» وتعهّد بإمرار «صفقة القرن» على حساب الفلسطينيين. فيما تخوف بعضهم من أن تبقى إسرائيل وحدها ضد إيران، في حال تصاعد مفاعيل بشاعة جريمة مقتل خاشقجي.
مثلاً، نقل المحلل السياسي ابن كسبيت عن مسؤول أمني إسرائيلي رفيع، قوله «نتعامل هنا مع أميرين شابين نسبياً (في إشارة إلى ابن سلمان وولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد). ويُظهر ابن سلمان جرأة غير مألوفة، وربما مغامرة أكثر مما ينبغي، وهو يتخذ قرارات كانت تعتبر قبل سنة أو اثنتين قرارات جنونية، ويطيح الدبلوماسية السعودية إلى مستويات مختلفة تماماً. وإنه لأمر مثير كيف سينتهي هذا الأمر». بدوره، رأى السفير الأميركي السابق في تل أبيب، دان شابيرو، أن «تورط ابن سلمان في مقتل خاشقجي كارثة بالنسبة إلى إسرائيل»، محذراً من أنه وضع السعودية في موضع عدم الثقة تحت سلطته، كما قوّض أي إجماع دولي محتمل للضغط على إيران.
في ضوء العمى الاستراتيجي الذي يعانيه ابن سلمان، كما وصفه شابيرو، يحضر التساؤل عما إذا كان سيلجأ الى خطوات دراماتيكية باتجاه إسرائيل في حال شعوره بأن طوق الخناق اشتد حول رقبته بهدف استعادة التأييد الغربي، وتجديد الرهان عليه. وهل تجديه خطوات بهذا الاتجاه؟ وأي دور يمكن أن يقوم به الكيان الإسرائيلي لإخراج «الأمير» من ورطته… وهل سيكون سرياً أم علنياً أيضاً؟
للإمارات الجودو ولقطر الجمباز: لسان التطبيع يجمعنا!
لم يعد «لسان الضاد» يجمع «بلاد العرب» كما رآها فخري البارودي. في الخليج «المقاطعة» بين «الإخوة» تشمل كل شيء إلا «أبناء العمومة». إنه موسم «المصافحة» بالجملة. تطفو العلاقات مع إسرائيل إلى السطح، تتصعّد من تحت حيناً، ويتوسّع الظاهر منها في أحيان أخرى. «من فوق» و«من تحت»، يسير التطبيع في جزيرة العرب بالاتجاهين معاً. لم تعد مهمّة أسئلة كسؤال «من أين نبدأ؟». فسواء شرعنا في العلاقات مع إسرائيل في السر وأمنياً ومن ثم اجتماعياً وتدرجنا بالصعود… النتيجة لا فرق ولا رادع يعرقل. تتلهى المحاور العربية المتناحرة في معاركها البينية، حتى إن التطبيع نفسه يصبح مذمّة يتقاذفها الإعلام الخليجي، رغم أنه داء مشترك يكاد لا ينجو أحد من الأنظمة الخليجية من ارتكابه. مشهدان على ضفتي «دول المقاطعة» الخليجية، الإمارات وقطر، في الأول تحط في أبو ظبي وزيرة الثقافة والرياضة الإسرائيلية ميري ريغيف، لتشجيع منتخبها للجودو، وفي الثاني تستضيف الدوحة فريق جمباز إسرائيلياً.
لا تتوقف أسباب المهزلة ــــ المأساة هنا، فتُؤخذ مواد المشهد الأول في الإعلام القطري كـ«مكمش» على الغريمة أبو ظبي. وتتبدى صورة المشهد الثاني في قنوات المحور السعودي ـــ الإماراتي كإضافة جديدة إلى «ملف قطر الأسود». هذا في الإعلام. أما في السياسة، فالأمر يختلف، حيث يحتدم التنافس بين المحورين في الولايات المتحدة على استمالة اللوبيات الصهيونية وشراء دعمها تقرباً من صناع القرار الأميركي، وتوسيعاً لنفوذ كل طرف بوجه الآخر. في المحصلة، تتقلص الفوارق ليكون التطبيع الرياضي في الإمارات مع فريق جودو إسرائيلي، أما في قطر فالأمر مختلف: فريق جمباز إسرائيلي هنا! وبين الجودو والجمباز، يحل «تويتر» لإطلاق بعض الأوسمة التي تعبّر عن الامتعاض الشعبي من تطبيع الحكومات، بموازاة تقاذف مغرّدين «موالين» للتهم مَن تطبيعه أوقح من الآخر!
علم «نجمة داود» و«الهاتيكفا» حضرا أيضاً في مطار الدوحة
الجديد اليوم، أن الدول الخليجية كسرت رتابة خصوماتها، لتشرع في التنافس على التطبيع مع تل أبيب. وأمس، سجلت الإمارات «تقدماً» ملحوظاً على خصمها القطري، إذ «نجحت» في استضافة الوزيرة ريغيف. وسبق الأخيرة إلى الأحضان الإماراتية، قبل يومين، منتخب إسرائيل لرياضة الجودو، للمشاركة في بطولة «غراند سلام» التي من المفترض أن تنطلق اليوم في أبو ظبي.
المشهد، بحسب رئيس اتحاد رياضة الجودو في إسرائيل موشي بونتي، لا يمكن فيه هذه المرة عدم الخلط بين السياسة والرياضة فـ«مما لا شك فيه أننا نشعر هنا بشيء خاص ومثير؛ أن نشارك في أبو ظبي أمام الجميع ونحن نحمل رموزنا الإسرائيلية للمرة الأولى». حضور «الرموز الإسرائيلية» تسبب في «سعادة» لدى ريغيف، التي أوضحت أن «الأمر يتعلق بقرار تاريخي له آثار بعيدة المدى ويشكل انطلاقة». هذه «الانطلاقة» نوهت الوزيرة بأنها أتت بعد جهود قادها بونتي مع رئيس اتحاد الجودو العالمي ماريوس فايزر، من أجل «السماح للرياضيين الإسرائيليين بالمشاركة في المباراة تحت العلم الإسرائيلي والنشيد الوطني الإسرائيلي».
علم «نجمة داود» و«الهاتيكفا» (النشيد الإسرائيلي) حضرا أيضاً مع بقية «الرموز» في مطار الدوحة لدى وصول وفد إسرائيلي للمشاركة في بطولة العالم للجمباز الفني، بينهم لاعب مدرج كمجند في الجيش الإسرائيلي. لا شك أن وزيرة الرياضة هي الأكثر نشاطاً وإنجازاً من أسلافها، وتحقق لتل أبيب كل هذه «الانتصارات».