لم يقتصر أثر مقتل الصحفي السعودي، جمال خاشقجي، على تعقيد العلاقات بين المملكة السعودية وتركيا إلى حد كبير، لكن الحادث سبب أيضا صداعا لكل الحكومات الغربية، التي تنخرط في علاقات تحالف اقتصادي وسياسي مع السعودية منذ زمن طويل ربما لأن الحادث كشف عن طبيعة ولي العهد السعودي، الذي يطمح لقيادة بلاده خلال العقود المقبلة.
وهذا هو الحال تحديدا في الولايات المتحدة. فبينما يبدو أن إدارة ترامب تأمل في أن تنتهي هذه الحلقة المؤسفة، في أقرب وقت ممكن، هناك دعوات من شخصيات بارزة في الكونغرس – انضم إليهم العديد من الخبراء السعوديين في مراكز الأبحاث – إلى إعادة تقييم شامل للعلاقات بين واشنطن والرياض.
وبينما لا يزال هناك الكثير لم يكشف عنه، حول الملابسات الدقيقة لمقتل خاشقجي والتخلص من جثته، إلا أن السؤال الأساسي هو: من أمر بقتل خاشقجي؟ وربما لن يعلم أحد إجابته للأبد.
فكل الأدلة تشير حتى الآن إلى أن ذلك الأمر جاء من قمة نظام الحكم في السعودية، أي من ولي العهد محمد بن سلمان نفسه.
ويتحكم بن سلمان في مقاليد السلطة في المملكة. والكثير ممن قُبض عليهم بشأن هذه القضية يعملون تحت إشرافه، ويعتقد خبراء سعوديون أنه من شبه المستحيل تصور حدوث جريمة الاغتيال تلك، دون أمر من قمة السلطة.
وستعتمد الكثير من الأمور على مقدار الأدلة، التي قد تتوفر على التورط المباشر لابن سلمان.
ماذا يفعل الأتراك أكثر مما في جعبتهم؟
الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، يلاعب ولي العهد السعودي لعبة القط والفأر، فهو يبدو أنه يعرف أكثر مما أعلنه بكثير، لكن إلى أي مدى يعرف؟ هذا أمر غير واضح.
ويسعى أردوغان إلى اطالة أمد الأزمة، مع الإبقاء على حالة الدراما، وتسليط الضوء على محمد بن سلمان.
تركيا والسعودية دولتان فاعلتان في المنطقة، وكلاهما سنية، تطمح للعب دور قيادي أكبر في الشرق الأوسط.
هذا التنافس يؤدي إلى عدم توافق مصالح البلدين، ومن ثم فإن أردوغان ينوي الاستفادة بأقصى قدر ممكن من المصاعب، التي يواجهها ولي العهد السعودي.
بالنسبة لأردوغان، فإن هذه الأزمة تساعده على تعزيز شعبيته في الداخل، وربما تساعده على فتح الطريق، أمام تحسين العلاقات مع واشنطن.
كما أن الاستخدام الاحترافي للضغط، خاصة إذا تم تخفيف الضغط في الوقت المناسب، ربما سيضمن شريحة كبيرة من الاستثمارات السعودية، أو المساعدات الاقتصادية التي ستعزز من وضع الاقتصاد التركي المتراجع.
أما الولايات المتحدة، فلديها مشكلة مختلفة تماما، وهي الموازنة بين المصالح والقيم.
بالنسبة لواشنطن، فإن الأمر أبعد من مبيعات الأسلحة. حيث أن مبيعات الأسلحة عنصر واحد، من بين عناصر علاقة هيكيلية طويلة المدى بين الولايات المتحدة والسعودية، تقوم على تصور مشترك للأهمية الاستراتيجية للمنطقة، واعتقاد مشترك بأهمية الحفاظ على الاستقرار.
كان النفط عنصرا مركزيا في هذه العلاقة. وبينما الولايات المتحدة الآن أقل اعتمادا بكثير على الخام السعودي، فإن أهمية المملكة كمزود للطاقة يجعل استقرارها مسألة ذات أهمية استراتيجية.
وصمدت العلاقات السعودية الأمريكية، رغم مرورها بفترات صعبة للغاية، ليس أقلها جهود السعوديين لتصدير رؤية محافظة وأصولية للإسلام.
وشهدت تلك العلاقة صعودا وهبوطا، لكن وصول محمد بن سلمان للقيادة في المملكة كان نعمة ونقمة في الوقت ذاته. كان الحماس الأولي لبرنامج وصف بأنه اصلاحي داخل السعودية، الذي تبناه الأمير الشاب، يميل إلى تغطية الجوانب السلبية لسياساته.
لكن الأمر لم يعد كذلك الآن.
فمحمد بن سلمان مسؤول عن جهود عزل دولة قطر، وحادث الاختطاف المؤقت لرئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، ونزاع دبلوماسي لم يكن له داع مع كندا، بشأن حقوق الإنسان، والأهم الحرب على اليمن والتي لا تبدو لها نهاية.
وتسببت الحرب في عدد لا يحصى من الضحايا المدنيين، وتهدد بحدوث مجاعة في مناطق واسعة من اليمن. ومن وجهة نظر واشنطن، فإن سياسات محمد بن سلمان تنتج عكس الاستقرار تماما.
وتفاقمت الأمور لأن إدارة ترامب وضعت كل البيض (سياساتها) في سلة بن سلمان.
ويبدو الأمر لترامب أن العلاقة مع بن سلمان تساعد في تسهيل الأهداف الرئيسية الثلاثة، لسياسات واشنطن في المنطقة، وهي أولا: المساعدة في المعركة ضد الإرهاب، ثانيا: تنفيذ “خطة ترامب للسلام لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي”، ثالثا والأهم: أن السعودية تعتبر حليفا مهما في جهود ترامب لعزل إيران.
وهذه هي الأسباب، التي تجعل إدارة ترامب تأمل في خفوت قضية خاشقجي.
أي مراجعة جوهرية لعلاقات واشنطن مع السعودية ربما لا تحدث تحت مراقبة الرئيس ترامب، وربما لا يمكن تأجيل إجرائها إلى أجل غير مسمى.
بالطبع، فإن ترامب قد يمسك بأحد خطوط تلك المراجعة، لكن الكونغرس قد يمسك بالخط الآخر.
هل سيتوصل السعوديون إلى طريقة لكبح ولي العهد الطائش؟ المنتدى الاقتصادي الذي عقد في السعودية الأسبوع الماضي، وترأسه بن سلمان وبدا خلاله واثقا من نفسه، يشير إلى أنه حتى الآن لا يعاني من اضطرابات داخلية قوية.
روسيا من جانبها أشارت إلى أنها تنتظر على خط التماس، معتبرة أن النهج الرسمي السعودي بشأن قضية خاشقجي قابل للتصديق.
ربما تأمل موسكو في بيع السلاح للسعودية. الرئيس فلاديمير بوتين بالطبع حريص على تعزيز مصالح بلاده في المنطقة.
بالنسبة للغرب، فإن مبيعات السلاح سلاح ذو حدين. نعم، حيث أن رفض تزويد السعودية بالسلاح على المدى الطويل يعني فقدان وظائف، لكن السعودية لا يمكنها الانتقال، ببساطة أو بسرعة من الأسلحة الغربية إلى مزودي أسلحة من روسيا أو الصين.
المعدات والذخائر والمدربون والمستشارون الغربيون يمكنون القوات الجوية السعودية من التحليق فوق اليمن.
النفوذ الغربي أكبر مما يتصور كثيرون. السؤال هو: هل هم راغبون حقا في استخدام نفوذهم، وتحديدا، هل يرجح أن تأخذ إدارة ترامب زمام المبادرة؟
حتى حلفاء واشنطن يبدون منقسمين للغاية. المستشارة الألمانية، أنغيلا ميركل، هي فقط من اتخذ قرارا بتجميد مبيعات الأسلحة للسعودية، وذلك بانتظار بعض التوضيحات، بشأن ما سمته “ملابسات هذه الجريمة المروعة”.
وإذا كان الحلفاء الغربيون للسعودية غير قادرين على العمل بشكل متناغم، فإن أي مراجعة جوهرية للعلاقات مع السعودية لن تحدث على الأرجح، إلا إذا حدث تغيير جوهري في الرؤية السياسية للبيت الأبيض.