السياق الأخطر في الزيارات الإسرائيلية المتزامنة إلى ثلاث دول في الخليج والتداعيات قد تضع المنطقة على مسار مأساوي جديد. الزيارات بذاتها ليست مفاجئة، فقد أشارت تسريبات إسرائيلية متواترة منذ مدة طويلة نسبياً إلى قرب نقل ما هو جارٍ من اتصالات في الكواليس مع عدد من الدول العربية إلى العلن الدبلوماسي. أكدت تلك التسريبات فضّ الارتباط بين التوصل إلى تسوية سياسية للقضية الفلسطينية، والتطبيع مع إسرائيل اقتصادياً وعسكرياً واستخباراتياً، كأنها عملية دفن غير معلنة لـ«المبادرة العربية» التي ترهن التطبيع الكامل بالانسحاب الشامل من الأراضي العربية المحتلة منذ عام 1967.
من على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة، تحدث رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بلا مواربة عن تفاهمات تجري، حميمة ولم تكن متخيلة، مع دول عربية، رغم الصدامات الجارية في فلسطين المحتلة. يستلفت الانتباه في تزامن الزيارات الإسرائيلية إلى عُمان والإمارات وقطر أن الدول الثلاث تتبنى كلّ منها موقعاً يختلف عن الأخريين من الأزمة الخليجية، كأن التطبيع يوحدها. هذه مأساة بذاتها! كما يستلفت الانتباه في ذلك التزامن تعدد اللافتات: أمنية سياسية في زيارة نتنياهو إلى عُمان، ورياضية ثقافية في الزيارتين الأخريين.
لم تكن زيارة نتنياهو الأولى من نوعها، فقد سبقه مسؤولون إسرائيليون مماثلون إلى عواصم عربية أخرى لا تربطها بالدولة العبرية أي علاقات دبلوماسية، حيث جرى الحديث عن فرص بناء شرق أوسط جديد تدمج فيه إسرائيل اقتصادياً. وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق (الراحل) شيمون بيريز رجل تلك المرحلة ومهندس فكرتها التي أخفقت تماماً، إذ تصادمت مع حقائق الصراع العربي ـــ الإسرائيلي. فعام 1996 زار مسقط واستفاض في شرح نظريته عن مستقبل الشرق الأوسط، وكان من رأيه أن التعاون الإقليمي اختصاصه، فيما مفاوضات السلام اختصاص سلفه إسحاق رابين الذي زارها قبله بعامين. لكن، لا التعاون الإقليمي استقر على أرض، ولا السلام ظهرت له علامة.
كان مثيراً في زيارة نتنياهو الوصف الذي أسبغ عليها: تبادل الرأي في قضية السلام، من دون أن تكون هناك أدنى إشارة إلى أي سلام ممكن إلا أن يكون سلام القوة وسحق ما تبقى من حقوق فلسطينية. كما كان مثيراً الوصف الذي أسبغته الدبلوماسية العُمانية على دورها، من أنه ليس شريكاً ولا وسيطاً بل مسهل، من دون أن يكون واضحاً نوع ذلك التسهيل الذي تقترحه. فالفلسطينيون والإسرائيليون لا تنقصهم أماكن التفاوض، ولا هناك أي تسهيلات تشبه استضافتها المحادثات الأميركية ـــ الإيرانية التي استبقت الاتفاق النووي.
فكرة التفاوض خارج القاموس الإسرائيلي الآن لا مرجعية يستند إليها ولا آليات تحكمها ولا جداول زمنية مطروحة. ما الذي يغري إسرائيل بالتفاوض إذا كان الحد الأقصى مما تطلبه تحصده بأقل كلفة ممكنة؟ ضم القدس والكتل الاستيطانية إلى الدولة العبرية، وعزل غزة عن الضفة الغربية، وفرض التمييز العنصري ضد فلسطينيي 1948 بقانون «القومية»، ثم أن يكون بوسعها تطبيع العلاقات مع دول عربية عديدة مجانياً!
ليس هناك أي أوهام في مسقط على دور ما في الصراع الفلسطيني ـــ الإسرائيلي. على الأغلب، إن استضافة نتنياهو تعبير عن درجة قلق عالية من سيناريوات حصار إيران وتأثيره في استقرارها الداخلي، بالنظر إلى موقفها المتوازن في الصراعات الدائرة حولها. لم تكن مصادفة أن يصطحب نتنياهو معه رئيس «الموساد»، ولا أن يكون الأمن موضوعه الأول في مباحثات مسقط. ولا كان مصادفة عبور طائرته المجال الجوي السعودي. تطبيع أكبر سوف يجيء ومخاطر أفدح سوف تحل.
وقد كان عزف النشيد الوطني الإسرائيلي في مناسبتين رياضيتين في الدوحة وأبو ظبي إعلاناً رمزياً عن شيء ما يولد ومنزلقاته منذرة. المنزلق الأول المضي قدماً في استبدال العدو من إسرائيل إلى إيران. ووفق نتنياهو نفسه، السبب الرئيسي للتقارب الخليجي مع إسرائيل هو «العدو الإيراني» المشترك. وإذا مضى المنزلق إلى نهايته، فإنه سوف يفضي إلى فوضى لا نهاية لها في الإقليم، واتهامات بلا سقف ونزيف داخلي في الشرعيات وغياب أي قدرة عربية مشتركة على مواجهة أي تحديات محتملة.
إيران ليست عدواً؛ هذه حقيقة، رغم أي خلافات وأزمات يمكن حلحلتها بالوسائل السياسية. وإسرائيل ليست صديقة. هذه حقيقة أخرى رغم محاولات القفز عليها. أخطر ما قد يحدث بناء «ناتو عربي» يضم دولاً لها علاقات دبلوماسية مع إسرائيل مثل مصر والأردن، ودولاً أخرى من منطقة الخليج ليس لها مثل هذه العلاقات، أولاها السعودية على ما يقترح الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
أين الجبهة؟ السؤال لا يمكن تجنّبه. السيناريو نفسه أقرب إلى الكوابيس، إذ لن يبقى حجر على آخر في الإقليم المنكوب.
المنزلق الثاني الانخراط في «صفقة القرن» واستحقاقاتها، والتي يستحيل تمريرها بلا أثمان مرعبة. الفلسطينيون يرفضونها على اختلاف فصائلهم، ويبدون استعداداً نهائياً لمقاومتها أياً كانت التضحيات، والإسرائيليون يتصورون أنه يمكن تمريرها بخلق الحقائق على الأرض خطوة بعد أخرى، رهاناً على تخاذل العالم العربي في نصرة القضية الفلسطينية التي كانوا يصفونها في أوقات سابقة بـ«المركزية».
من المفارقات الماثلة تزايد الضغوط الدولية لوضع حدّ للمأساة الإنسانية المروعة في اليمن، وهذه مسألة توافقات سياسية إيران طرف فيها بالضرورة، فيما مشروع «الناتو العربي» مسألة صدام مسلح يفاقمه الدخول الإسرائيلي، ولا طاقة لأحد على نتائجه الوخيمة. ومن المفارقات الماثلة أن الأردن، إحدى الدول المدعوة لـ«الناتو العربي»، تجد نفسها أمام أزمة كبيرة مع إسرائيل على خلفية قرارها استعادة «الباقورة» و«الغمر» إلى سيادتها المباشرة وفق نص اتفاقية «وادي عربة».
رغم الحق القانوني الملزم، توعّدت إسرائيل الأردن بإجراءات عقابية تخصّ حصتها في المياه. من العدو؟ وأي مصلحة للأردن في تحالفات عسكرية من هذا النوع؟ كما أن بلداً بحجم مصر له تاريخ طويل في مقاومة التطبيع بصيغه كافة على مدى أربعة عقود، يصعب عليه تقبل مثل هذه التحالفات أو استبدال «العدو الإسرائيلي» بـ«الإيراني». وقد كان الاعتداء الوحشي في القدس المحتلة على الرهبان المصريين في «دير السلطان» تعبيراً جديداً عن فجوات هائلة يستحيل تجاوزها إذا لم تستعد الحقوق المهدرة.
بقدر آخر، تكشف المقاطعة التي أبداها أهالي الجولان السوري لانتخابات محلية حاولت سلطات الاحتلال فرضها عليهم، وحجم العنف الذي استخدم ضدهم، حقائق الموقف. سورية الجولان المحتل لا تنازل عنها بإرادة أهله وإن طال المدى.
ومن المفارقات الماثلة بالتوقيت نفسه ما أصدره «المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية» من قرارات تتبنّى تعليق الاعتراف بإسرائيل ووقف التنسيق الأمني معها إلى حين الاعتراف بالدولة الفلسطينية على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية. رغم أن هذه القرارات شبه متكررة بلا آلية تضعها موضع التنفيذ، فإنها تؤشر على الجو السياسي الفلسطيني، وهو يناقض بالكامل موجة التطبيع الأخيرة من الأبواب الرسمية.
باليقين، يصعب الرهان على جدوى أي ضغط عربي محتمل لتليين الموقف الفلسطيني، فالقضية أكبر من الفصائل، كما لا أحد بوسعه أن يتفاوض باسم الفلسطينيين. بقوة الحقائق، أياً كانت خطورة المنزلقات والتداعيات، فإن النتائج الأخيرة مقررة سلفاً.