بعد غد الإثنين، تعود العقوبات بشقيها النفطي والمصرفي. حدث تتجاوز تردداته المقلقة حدود إيران، لكن ليس بقدر ما افترض دونالد ترامب وفريقه المتخم بالصقور قبل عامين. أُرغم الرجل على التنازل عن هدف «تصفير النفط»، بعد أن خسر معركة إقناع العالم بخيار المواجهة. وحيداً يبدو اليوم في خوض ضغوطه، تقابله ثقة لدى طهران بالقدرة على تحدّي خيار التفاوض من موقع الضعف، أو ربما التريث لفرصة أكثر توازناً.
تدخل طهران وواشنطن، ومعهما المنطقة والعالم، بعد ساعات، تحديداً بعد غد الاثنين، جولة العقوبات الأميركية الأشد ضد إيران. عقوبات أريد منها تطويق الجمهورية الإسلامية من جديد، وضرب قوتها من الداخل، أملاً في فرض الشروط عليها أو «تغيير سلوك» قادتها. حتى الآن، لا شيء من اختبارات الرئيس دونالد ترامب، تشي بنجاعة الخيارات سوى في أذية الاقتصاد الإيراني بدرجة قابلة للتحمل. على أن ما يردده المراقبون عن أفق المواجهة، من أنه مسار شاق لجولة تفاوض على توقيت يناسب الطرفين، لن يحمل كما يبدو سوى تظهير جديد لتراجع قدرة الولايات المتحدة على فرض خياراتها في الساحة الدولية. منذ خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي في أيار/ مايو، مروراً بالدفعة الأولى من العقوبات، تماسكت إيران، على رغم الاهتزاز، لكنها لم تنفّذ وعدها بمقابلة تمزيق الاتفاق بالمثل. والسبب، وفق ما يشرح المسؤولون الإيرانيون، يعود لعوامل أهمها الإحساس بأن ترامب يستدرجهم إلى الانسحاب لإضعاف موقفهم دولياً، في وقت تمسكت بقية الدول الموقعة على الاتفاق بالبقاء، ما جعل المواجهة الأميركية الجديدة مغرية لإيران، ومختلفة المعالم عن جولة العقوبات السابقة.
«لسنا في العام 2012»، تقول الخبيرة في الشأن الإيراني باربرا سلافين، من «المجلس الأطلسي» في واشنطن، مذكرة بأن العالم لا يتّحد اليوم خلف الولايات المتحدة، فنحن أمام «إدارة ترامب التي تحاول إجبار المجتمع الدولي على الالتزام بسياسة لا تقبل بها معظم الدول». من هنا، كسب النظام الإيراني أولى الجولات، مثبتاً أهم أوراقه التي حازها من الاتفاق النووي: القبول به في الساحة الدولية كلاعب طبيعي. لن تكون العقوبات «الأقسى في التاريخ» كما أرادها ترامب. لن يجري «تصفير» الصادرات النفطية، في عقوبات كانت نسختها السابقة تحظى بغطاء من مجلس الأمن. هذه هي الحال الآن مع إدارة تقف بجانبها السعودية والإمارات وإسرائيل، فقط، وفوق ذلك غيوم ملبدة على العلاقات بعد مقتل الصحافي جمال خاشقجي، فيما لم تسفر الشائعات التي نسجها «الموساد» للأوروبيين حول هجمات إيرانية عن نتيجة.
وزارة الخارجية الإيرانية: لا مخاوف تراودنا من العقوبات الأميركية
وعلى رغم الخسارة الكبيرة المتمثلة بمغادرة أهم شركات القطاع الخاص الأوروبية، حرص الإيرانيون في الأشهر المنصرمة على التعامل بروية وواقعية. أرادت طهران تأكيد أنها لن ترجع إلى العزلة كما تطمح الإدارة الأميركية، ما يفرغ العقوبات من مضمونها. أخذت طهران تواجه الهجمات الأميركية بالمحاكم والمحافل الدولية، وشهادات الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتبادلت وواشنطن للمرة الأولى موقع «المتهم» في خرق الإجماع الدولي. كما بدت على قدر أكبر من المعتاد من الدبلوماسية والهدوء الذي خرقه التهديد بإغلاق مضيق هرمز، على رغم معرفة القيادة الإيرانية أنها لن تضطر إلى هذه الورقة. مرت الأشهر الستة التي منحها ترامب للإيرانيين كي يتنازلوا ويقبلوا بالتفاوض على اتفاق جديد يحصل فيه على ما لم يحصّله سلفه باراك أوباما: الدور الإقليمي والصواريخ الباليستية. لم يفاوض الإيرانيون، لتحضر الأسئلة حول مصير الفترة التالية للخامس من تشرين الثاني/نوفمبر الجاري. يصعب تخيّل أن يحقق ترامب شروط وزير خارجيته مايك بومبيو الـ12، ويكسب استسلاماً إيرانياً ببساطة لم يُقدّم على مدار 40 سنة خلت. وفق ريتشارد نفيو، المسؤول الأميركي السابق الذي يعمل في جامعة «كولومبيا»، فإن إيران «لن تركع» أمام ترامب، بل «ستحاول التعايش مع تقلص عائدات النفط لعامين في انتظار معرفة ما إذا كان ترامب سيعاد انتخابه، ثم تتخذ بعدها قراراً في شأن المحادثات». أما المسؤول الأميركي السابق الذي يعمل في «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية» جون ألترمان، فيرى في حديث إلى «رويترز» أن الإيرانيين سيتجنبون التفاوض من جديد «من موقف الضعف المذل»، ملخصاً توقعاته بالقول: «سيحدث كل ذلك: الولايات المتحدة ستضيق الخناق. الإيرانيون سيفعلون المزيد من الأمور المقلقة لإدارة ترامب… وسيجري الطرفان محادثات»! وباعتقاد أحد الدبلوماسيين الغربيين تحدث إلى وكالة «فرانس برس»، فإن ترامب يكرر مع إيران الاستراتيجية ذاتها التي طبقها مع كوريا الشمالية: «عقوبات، وأقصى درجات الضغط، ومن ثم استعداد للتفاوض».
فضلاً عن العلاقة مع تركيا والعراق، إقليمياً، وروسيا والصين دولياً، بقاء الاتحاد الأوروبي في الاتفاق وبقاء الطلب العالمي على النفط الإيراني، عوامل إضافية تمنح الإيرانيين ثقة بالقدرة على مواجهة الدفعة الثانية من إجراءات الحظر. تلك الثقة عبرت عنها الخارجية الإيرانية، أمس، بالتأكيد أن لا «مخاوف» تراود طهران من العقوبات، قبل ساعات من بدء الحظر. وكان النائب الأول للرئيس الإيراني إسحاق جهانغيري، شدد على أن بلاده تتحمل أن تهبط صادراتها إلى مليون برميل، مقراً بأن الحظر تسبب بالتراجع عن معدل مليونين ونصف المليون برميل في اليوم، لكن الأسعار عوضت العائدات، من دون ذكر كم باتت عليه الصادرات الآن.
وبين أوراق القوة السياسية التي تُستحضر عشية العقوبات للتدليل على إمكانية «صمود» طهران، يشير مراقبون أيضاً إلى أوراق القوة الاقتصادية، ومن بينها أن الموازنة التي تعتمد بنسبة عالية تقل عن النصف على الواردات النفطية، وضعت في 2018 على أساس 55 دولاراً كسعر لبرميل النفط الواحد، أقل بكثير من الأسعار التي سجلت. كذلك فإن الخام الإيراني أثبت موقعه الصعب في الأسواق. من جهة، لا تريد واشنطن رفع الأسعار، وفي الوقت نفسه وضعت «تصفير النفط» كعنوان لمعركتها، سرعان ما اتضح أنها ستضطر إلى التراجع وتخفيض سقف الأهداف والتوقعات، وإقرار استثناء لثمانية دول، بينها الصين والهند وكوريا الجنوبية وتركيا. مع ذلك، عادت إيران إلى وسائل سابقة لبيع كميات ضخمة من الخام عبر الصين وروسيا بعيداً من الأضواء، ووفق تفاهمات نسجتها مع البلدين. تأتي مرحلة العقوبات من جديد، وقد اجتازت طهران داخلياً مجموعة من الاستحقاقات. فشل المشروع الساعي إلى توسيع الاحتجاجات الشعبية على الأوضاع المعيشية، وفشلت بالتزامن محاولات إشعال الخواصر الرخوة أمنياً وعسكرياً في الجغرافيات الكردية والبلوشية والعربية. وإن بقيت الخلافات السياسية قائمة حول حكومة الرئيس حسن روحاني، وإدارتها للملف الاقتصادي ومكافحة الفساد، خصوصاً أن ولاية روحاني الثانية حازها على أساس نجاح مشروع الاتفاق النووي. لكن المرشد الأعلى علي خامنئي، أمسك العصا من المنتصف مجنباً التيارات السياسية تصعيداً لاح في الأفق، فيما ترك للبرلمان إجبار الرئيس على تغيير فريقه الاقتصادي. الأسبوع الماضي، أكمل روحاني عقد فريقه الوزاري الذي عانى أسابيع من التشظي جراء الاستقالات أو سحب الثقة في البرلمان. عادت حكومة روحاني إلى التماسك، فيما لا تزال الأسئلة الشعبية وأسئلة الخبراء الاقتصاديين تلاحق الحكومة واستراتيجيتها أمام الضغوط الخارجية والداخلية على الملفين المالي والاقتصادي. لم تفلح الحكومة في كبح انهيار قياسي للعملة المحلية، وإن منعت تفاقم التأثيرات لإحداث تصدع غير قابل للترميم في بنية الاقتصاد، مدعومة من تدخل السلطة القضائية التي اعتمدت سياسة الأحكام المغلظة ضد من يتهمون من التجار والمضاربين بـ«الجرائم الاقتصادية». أما حديث الشارع الإيراني، فبدا قلقاً، على رغم إعطاء مساعدة العقوبات النظام على كسب التعاطف الشعبي والسياسي. وتجددت المخاوف من تفاقم الأزمات المالية والاقتصادية ومن انعكاسات أكثر من ما شهدته الأسواق في الأشهر الماضية. ومرد المخاوف الشعبية أن المواطن الإيراني بات يدرك من خلال التجارب السابقة أن العقوبات لن تؤثر في قوة الدولة بقدر ما تستهدف الناس الذين يراد لهم أن ينقموا على النظام فيصطدموا مع الحكومة مدفوعين من المعاناة الاقتصادية.
واشنطن تهدّد «سويفت»
تتضمن الدفعة الثانية من العقوبات الأميركية على إيران، التي تدخل الاثنين حيز التنفيذ، عودة إجراءات الحظر على التالي بشكل رئيسي:
ــ المبيعات في قطاع الطاقة بما في ذلك النفط.
ــ التعاملات المالية، فيمنع على أي مؤسسة أجنبية تتعامل مع البنك المركزي الإيراني أو غيره من المصارف الإيرانية الوصول إلى المنظومة المالية الأميركية.
وهدد وزير الخزانة الأميركي ستيفن منوتشين، أمس، أن شبكة «سويفت» للتحويلات المالية العالمية (مقرها بلجيكا) قد تُفرض عليها عقوبات أميركية إن قدمت خدمات لمؤسسات مالية إيرانية تضعها واشنطن في «القائمة السوداء»، معلناً إضافة 700 شخص وكيان إيراني إلى القائمة.
8 استثناءات مؤقتة وتمرّد أوروبي
أعلنت بريطانيا وألمانيا وفرنسا والاتحاد الأوروبي، استمرارها في العمل التجاري مع إيران بما فيه شراء النفط والغاز، معربة في بيان مشترك لوزراء الخارجية عن «الأسف الشديد» لإعلان واشنطن إعادة العقوبات. وجاء في البيان: «بصفتنا موقّعي الاتّفاق (النووي) التزمنا العمل خصوصاً على الإبقاء على عمل شبكات مالية مع إيران، وعلى ضمان استمرار الصادرات الإيرانية من النفط والغاز. إنّ عملنا بالنسبة إلى هذه المواضيع وغيرها سيتواصل».
وأكد وزير الخزانة الأميركي ستيفن منوتشين، أمس، استثناء ثمانية دول من العقوبات «مؤقتاً» من دون أن يسميها، عرف من بينها العراق وتركيا، ويرجح أن تشمل الصين والهند وكوريا الجنوبية من دون الدول الأوروبية، علماً أن واشنطن كانت رفضت الاستثناءات وهددت بمعاقبة الدول غير الملتزمة بإجراءات موازية.