بعد دقائق على اعلان الرئيس سعد الحريري استقالته من رئاسة الحكومة، يوم 4 تشرين الثاني 2017، في خطاب متلفز من الرياض، تلقّى المدير العام للامن العام اللواء عباس ابراهيم اتصالاً من ردينة العرب، زوجة عبدالكريم العرب، مسؤول فريق حماية الحريري. كانت تبكي قائلة: خطفوا زوجي. استفسر ابراهيم منها عما تقوله، فأخبرته انها، وفور مشاهدتها خطاب رئيس الحكومة، اتصلت بزوجها الذي كان يرافقه. رد عليها، ولم يكن على علم بما يجري. ثم سمعت صراخاً بقربه، وأشخاصاً يتحدّثون معه بعدائية. قطع العرب الاتصال قائلا لزوجته انه سيحادثها بعد دقائق. حاولت الاتصال به مجدداً، لكنها لم تفلح. الصراخ الذي سمعته جعلها تقتنع بأن الذين يصرخون كانوا يريدون توقيف زوجها او اختطافه.
خمسة أيام قبل «الاستقالة»: ابن سلمان يستدرج الحريري
قبل نهاية تشرين الأول (2017)، زار الرئيس الحريري الرياض. كان وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج، ثامر السبهان، قد ملأ الفضاء الالكتروني تهويلاً على لبنان. التقى الرجلان، قبل أن يستقبل ولي العهد السعودي «دولة الرئيس سعد». كان اللقاء «فائق الإيجابية». وعد إبن سلمان بترتيب موعد للحريري مع الملك السعودي قبل نهاية الأسبوع نفسه (أي قبل الخامس من تشرين الثاني). كان الحريري مرتبطاً بموعد المشاركة في «منتدى شباب العالم»، الذي سيقام برعاية الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يوم 4 تشرين الثاني 2017، في شرم الشيخ. ولأجل ذلك، سعى إلى ان يكون موعده مع الملك سلمان يوم السبت لا يوم الأحد. عاد الحريري إلى بيروت، وإلى جدول اعماله المعتاد. استقبالات واجتماعات… ترأس جلسة لمجلس الوزراء، واجتماعاً للجنة الوزارية المكلفة بحث تطبيق قانون الانتخابات. ليل الخميس، 2 تشرين الثاني، تلقى اتصالاً من ديوان ابن سلمان. قيل له إن «سمو ولي العهد يريد ان يقضي معك نهاية الأسبوع، وستذهبان سوياً إلى (صيد) البر». اتفق مع المتصلين به على أي يكون في الرياض مساء الجمعة 3 تشرين. في ذلك اليوم، استقبل وزيرة الثقافة الفرنسية، على رأس وفد ضم السفير الفرنسي في بيروت. اجتمع بها، واستبقاها الى مائدة الغداء. لم يُكمل «وجبته». بعد نحو 10 دقائق، تركها مع نظيرها اللبناني غطاس خوري، ومدير مكتبه، ومستشاره الإعلامي، وآخرين من فريق عمله، واعتذر بسبب ارتباطه بموعد في الرياض.
بعد عودة السائق بالبزّة بوقت قصير، ظهر الحريري على قناة «العربية»، قارئاً بيان الاستقالة.
زوجة الحريري تؤكد اختطافه
في قصر بعبدا، قرر الرئيس ميشال عون التريث. وصف الاستقالة بالملتبسة. سريعاً، أجرى سلسلة اتصالات امنية. سأل الجيش والامن العام والامن الداخلي عما اذا كانت في حوزة اي منهم معلومات عن مخطط لاغتيال الحريري، وهو ما كانت وسائل الاعلام السعودية تروج له لتبرير بقاء رئيس الحكومة خارج البلاد. نفى الجميع ذلك. فطلب بيانات رسمية بالنفي. شخصياً، اتصل عون باللواء عماد عثمان، أكثر من مرة قائلا له: عليك تحمّل مسؤولية. اذا كانت لديكم معلومات عن مخطط لاغتيال الحريري، فعليك إعلامي بها. واذا لم تكن لديكم معلومات مماثلة، فعليكم اصدار بيان نفي لأن ما يُخطّط للبلد شديد الخطورة. رد عثمان نافياً وجود اي معلومة عن مخطط لاغتيال رئيس الحكومة، فأصر عون على اصدار بيان. كان رئيس الجمهورية قد حصل على تأكيد من الجيش والامن العام ينفي المزاعم السعودية. لكنه شدد على ضرورة صدور موقف من الامن الداخلي، لما لهذه المؤسسة من صلة بالحريري والسعودية معاً.
مضى اليوم الأول على استقالة الحريري. لم يكن ثمة تأكيد يقينيّ بأن الرجل مخطوف. وردت إلى رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، يوم الاحد 5 تشرين الثاني، معلومات «غير رسمية» من العاصمة الإيرانية طهران تقول إن الحريري مختطف. وذكرت تلك المعلومات تفاصيل عن الظروف التي أحاطت بالحريري، منذ لحظة إعلان استقالته. لكن ما تقدّم لم يكن سوى إشارات تحتاج إلى ما يقطع الشك.
لكن ما حسم الامر، كان في اتصالات هاتفية، جاءت من قبل لارا العظم، زوجة الرئيس الحريري المقيمة مع عائلتها في الرياض، حيث يسكن اهلها اصلا. قالت لارا للعائلة في بيروت: الشيخ سعد محتجز في مجمّع الريتز كارلتون في الرياض. ليس موجودا في مبنى الفندق، مع الامراء ورجال الاعمال والمسؤولين السعوديين المعتقلين، بل في فيلا ملحقة بالفندق». وأوضحت إن رجال محمد بن سلمان سمحوا لها بزيارة زوجها مرتين. كان هذا التأكيد الاول على أن الحريري مختطف. معلومات لارا العظم لم تكن متاحة للجميع، بل لعدد محدود بينهم نادر الحريري ونهاد المشنوق وهاني حمود.
«خلية التحرير»
في منزل رئيس الحكومة في وادي أبو جميل بوسط بيروت، نشأت خلية لمتابعة الازمة: دائرة ضيقة تضم نادر الحريري والمستشار الإعلامي هاني حمود. ينضم إليهما اللواء عماد عثمان والعقيد خالد حمود، متى وُجِدت الحاجة لمتابعات ذات طابع أمني. كانت الدائرة تتسع لتضم وزير الداخلية نهاد المشنوق، ووزير الثقافة غطاس خوري، والنائب السابق باسم السبع. هؤلاء جميعاً «موثوقون». لكن ضرورات فرضت توسيع الدائرة اكثر من خلال إشراك الرئيس السابق للحكومة، فؤاد السنيورة، في عدد من الاجتماعات. موقف الأخير كان رمادياً. يكرر كلاماً عاماً: لا هو يريد إغضاب السعودية، ولا هو راغب بطعن الحريري. وخشية من «ذهابه بعيدا»، قرر فريق عمل سعد «توريطه»، جزئياً، في سعيهم لتحرير الرئيس المخطوف. «الذهاب بعيداً» يمكن أن يكون على شاكلة اقتراح السنيورة، بعد ثلاثة أيام على اختطاف الحريري في الرياض، بدعوة كل قوى 14 آذار إلى اجتماع في «بيت الوسط». وهذه الفكرة كانت تهدف، بحسب ما قدّم لها نائب صيدا السابق، إلى إظهار توحّد الفريق السياسي العريض خلف قيادة الحريري من جهة، ولتأكيد «الثوابت». تصدّى نادر الحريري للاقتراح، مشيراً إلى ان في فريق 14 آذار جهات خانت الحريري. قال كلاماً قاسياً بحق صديقه فارس سعيد، كما بحق سمير جعجع. لم يكن السنيورة بحاجة إلى أكثر من الوقوف في وجهه بلطف، للتراجع عن اقتراحه.
خارجياً، لم تترك الخلية أحداً لم تتواصل معه لشرح الموقف: غالبية السفراء المعتمدين في لبنان… كل مسؤول أجنبي لمكتب الحريري به صلة. جرت الاستعانة بكل من يقدر على تقديم إضافة: أمل مدللي في واشنطن، جورج شعبان في موسكو… فجأة، استقل نهاد المشنوق طائرة خاصة، سراً، قاصداً العاصمة المصرية القاهرة. التقى هناك بمسؤولين في وزارة الخارجية، وفي الاستخبارات. لم يكن بحاجة ليشرح لهم ما يجري، إذ كانوا على يقين من أن الحريري مخطوف، وعلى دراية كاملة بظروف «إقامته الجبرية» في الرياض. وكانت قراءتهم دقيقة للموقف اللبناني، رسمياً وشعبياً، كما لردود الفعل الدولية على خطوة ابن سلمان. عاد إلى بيروت التي نشط فيها بالاتصالات مع كل من له به صلة في الغرب، شارحاً خطورة الموقف. لم يقتصر دوره على الموقف الجريء الذي أطلقه بعد عودته من القاهرة بيومين، من على باب دار الفتوى، حيث خاطب حكام الرياض بالقول: لسنا غنماً.
جهد «خلية وادي أبو جميل» لاقاه فريق رئيس الجمهورية. وزير الخارجية جبران باسيل يجول في عواصم القرار حاشداً الدعم لتحرير رئيس الحكومة المعتقل. واللواء عباس ابراهيم يحرّك قنوات التواصل ذات السرعة الفائقة: أجهزة الاستخبارات. في فرنسا، كان برنارد إيمييه (السفير السابق في لبنان) يتولى إدارة الاستخبارات الخارجية. ما تلقاه من ابراهيم نقله على وجه السرعة إلى رئيسه إيمانويل ماكرون. وفي ألمانيا، طلب ابراهيم موعداً عاجلاً للقاء مدير الاستخبارات، لكن الأخير كان خارج البلاد، فأرسَل السفيرَ الألماني في بيروت للقاء ابراهيم. شرح الأخير ظروف «استقالة» رئيس الحكومة، والمعلومات الموجودة في حوزته. سريعاً أيضاً، ظهرت نتائج هذه الاتصالات بموقف سياسي ألماني، ظهر جزء منه علناً.
في بيروت، كانت السفيرة الأميركية لا تزال حائرة. موقفها كان شديد السلبية في البداية. قالت لكل من سألها رأيها في الساعات الاولى التي تلت بيان الحريري إن الأخير «استقال علناً، فماذا تريدون منا أن نفعل؟». بعد سلسلة اتصالات، وإثر معلومات دقيقة توفرت لوزارة الخارجية وأجهزة الاستخبارات الأميركية، تغيّر موقف واشنطن. وكما في كثير من القضايا الأخرى (منذ وصول دونالد ترامب إلى السلطة)، كان ثمة انقسام بين الخارجية والامن القومي من جهة، والبيت الأبيض من جهة أخرى. ترامب كان مؤيداً لانقلاب ابن سلمان على أبناء عمومته في الرياض. ولم يتخذ موقفاً حاسما في البداية من احتجاز الحريري. لكن «دولة الأمن القومي» في واشنطن وقفت في وجه إقصاء رئيس الحكومة اللبنانية.
السيسي وإبن زايد يفاجئان إبن سلمان
ومن حيث لم يحتسب أحد، نظر حاكمان عربيان إلى خطوة محمد بن سلمان بعين الريبة. الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، والحاكم الفعلي للإمارات العربية المتحدة محمد بن زايد. رغم حلفهما الوثيق مع ابن سلمان، إلا انهما وجدا في احتجازه للحريري قراراً غبياً عبّرت دوائرهما عنه بأنه «خطوة غير محسوبة النتائج». وعندما قرر ولي العهد السعودي أن يجول الحريري، المحتجز، على عدد من الدول العربية، ردت القاهرة بأنها لن تستقبل رئيس حكومة لبنان إلا إذا كان سيغادرها إلى بيروت. هذه الإجابة المصرية جعلت ابن سلمان يحصر «جولة الحريري» بدول خليجية، قبل أن يكتفي بلقاء مع ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد (الثلاثاء 7 تشرين الثاني). كان القصد إذلال الحريري بإجباره على زيارة أبو ظبي التي قرر حاكمها الفعلي مقاطعة الحريري منذ مدة، لأسباب سياسية من جهة، ولخلافات مالية بينهما. وعلى عكس ما اشتهى ابن سلمان، كان ابن زايد ودوداً مع سعد. طمأنه إلى ان محنته ستنتهي قريباً، وأبلغه بعدم موافقته على طريقة التعامل معه، رغم تحفّظه (ابن زايد) على طريقة إدارة الحريري للتسوية الرئاسية والعلاقة مع حزب الله. وكان لابن زايد دور في حث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على التدخل لدى ابن سلمان، وإجراء اتصالات مع واشنطن، للملمة ما اقترفه ولي العهد السعودي. وبعد يومين (9 تشرين الثاني)، كان ملف الحريري بنداً أول على مائدة الاجتماع الطارئ الذي عقده ماكرون مع ابن سلمان في طريق عودته من أبو ظبي إلى بلاده.
بعد رحلة أبو ظبي، انتقل الحريري من مجمع الريتز إلى منزله، حيث بقي قيد الإقامة الجبرية.
فريق ثامر السبهان تولى التواصل مع جميع أفراد عائلة الحريري، باستثناء نادر، طالباً قدومهم إلى الرياض لمبايعة بهاء، خلفاً لاخيه سعد، زعيماً للعائلة والطائفة. وكانت إجابات الجميع متمسكة بسعد. حتى أخوه الأصغر، فهد، الذي لم يكن على وئام معه، رفض «الأمر السامي» السعودي، وعبّر عن امتعاضه من طلب البيعة لأخيه الأكبر. وفي غضون 48 ساعة، تبلّغت السعودية من كافة أفراد العائلة موقفاً موحداً: لا بديل عن سعد. وكان للاخير دور رئيسي في إحباط تلك «المؤامرة»، من خلاله تواصله السري مع فريق عمله في بيروت.
سر زيارة قبرص!
في الأيام التالية، لم يعد امام الرياض من خيار سوى الرضوخ أمام انسداد الأفق، لبنانياً، وعربياً، ودولياً. حاولت قدر المستطاع أن تؤجل خروج الحريري، لتحقيق بعض المكاسب، لكن انتهى بها الأمر تمارس نوعاً من فشّة الخلق، كتلك التي أصرّت عليها، وتحققت بتعريج الحريري على قبرص، ليل 21 ــــ 22 تشرين الثاني، في طريق عودته من باريس (التي انتقل إليها ليل 17/18 تشرين الثاني) فالقاهرة إلى بيروت. فالزيارة التي بقيت أسبابها مجهولة طوال العام الماضي، لم يكن لها من هدف سوى «كسر كلمة السيسي». إذ أن الأخير، عندما عرض عليه ابن سلمان استقبال الحريري بعد يومين على احتجازه، اشترط لتلبية الطلب عودة الحريري إلى بيروت.
في نظر ابن سلمان وحاشيته، ليس مهماً المردود السياسي لما يقومون به. ما يصبون إليه حصراً هو «أن تكون كلمة ولي العهد السعودي هي العليا»، بصرف النظر عن الأسلوب والنتيجة. وما على من يستغرب هكذا أداء سوى تذكّر اغتيال جمال خاشقجي. بهذه الطريقة، لا بسواها، يريد ابن سلمان إدارة الإقليم.