يعثر مناصرو ابن سلمان على أوجه شبه بينه وبين جدّه عبد العزيز (ابن سعود). ولا تخلو أوجه الشبه من وجاهة، في الحد الأدنى لناحية النهج الدموي في التأسيس لدى ابن سعود وإعادة تشكيل السلطة لدى الحفيد ابن سلمان.كان الصراع على السلطة ــــ بطابعه الدموي في أحيان كثيرة ــــ داخل البيت السعودي سمة غالبة منذ بدء العمل على إقامة كيان سياسي خاص
بين الجدّ والحفيد: إرث السيف والمنشار
- فؤاد إبراهيم
-
يعثر مناصرو ابن سلمان على أوجه شبه بينه وبين جدّه عبد العزيز (ابن سعود). ولا تخلو أوجه الشبه من وجاهة، في الحد الأدنى لناحية النهج الدموي في التأسيس لدى ابن سعود وإعادة تشكيل السلطة لدى الحفيد ابن سلمان.كان الصراع على السلطة ــــ بطابعه الدموي في أحيان كثيرة ــــ داخل البيت السعودي سمة غالبة منذ بدء العمل على إقامة كيان سياسي خاص
لم تكن السياسة العائلية السعودية لبناء سلطة مركزية مصمّمة لخلق إجماع داخلي، إذ كان عامل القوة حاسماً في معادلة السلطة. إن سمات الشخصية الحاكمة كانت تطبع السياسة العائلية وليس العكس، وإن بدا في الظاهر أن التوافق الداخلي هو العامل الحاسم في تداول الحكم وتوارثه. فقد نشب خلاف بين محمد بن سعود مؤسس السلالة السعودية الحاكمة، وإخوته من أبيه ثنيان ومشاري وفرحان على تقاسم الحكم، ولكن نجح محمد في تركيز السلطة في بيته بعد تحالفه مع الشيخ محمد بن عبد الوهاب سنة 1744. وهذا يشي بنوع التحالف الذي أبرمه محمد بن سعود مع ابن عبد الوهاب والذي كان يهفو الى تنشئة سلطة زمنية يمسك بزمامها وليس بناء دولة دينية، بحسب الرواية الرسمية.بعد موت محمد بن سعود تفجّر نزاع مسلح بين أبنائه وأحفاده، حيث تولى عبد العزيز بن محمد بن سعود الحكم، ومات في عام 1803، وخلفه ابنه سعود المعروف بـ«الكبير»، حتى وفاته في عام 1814. وانقطع نسل هذا الفرع في الحكم ليتولى عبد الله الذي ورث الحكم من ابن أخيه سعود، حتى سقوط الدولة السعودية الأولى في عام 1818، حيث اعتقلته القوات المصرية التي جاءت الى الدرعية، وهدمتها، وأسقطت دولة آل سعود، ونقلته إلى مصر، ثم إلى تركيا حيث أعدم هناك، وقطع رأسه، وعلّق في شوارع اسطنبول.
بدا العامل الشخصي أشد وضوحاً في السنوات اللاحقة، فقد تسابق أبناء عبد الله بن سعود، ولا سيما تركي وصنيتان، على السلطة. وأقصي الأخير عن الإمارة، ومات عقيماً، فانحصر الحكم في بيت تركي بن عبد الله الذي أسس الدولة السعودية الثانية، بعدما قتل مشاري بن معمر، في عام 1821، وفرض نفسه حاكماً على نجد حتى عام 1830، حيث قتله ابن أخته مشاري بن عبد الرحمن. وكان مشاري بن معمر من أمراء آل معمر المؤيدين لدعوة ابن عبد الوهاب، وحكم نجد بعد سقوط حكم آل سعود، ثم قتل على يد تركي بن عبد الله، ما يشي بأن قواعد السياسة، وليس العقيدة، هي محرّك الصراع على السلطة.
تولى فيصل بن تركي الحكم بعد أبيه، وإليه ينتسب حكم آل سعود من خط عبد العزيز مؤسس الدولة السعودية الثالثة. وفيما خسر فيصل فرصته في احتكار السلطة، نجح عبد العزيز في فرض نفسه بقوة السلاح حاكماً مطلقاً بعد احتلاله الرياض، في عام 1902.
أدرك عبد العزيز أن عدة فروع من العائلة تصارعت على قيادة نجد والجزيرة العربية. ومن بين 14 تجربة حكم في الفترة ما بين 1744 و1891، نجحت ثلاث تجارب فقط، من بينها، في حسم النزاع على السلطة، حسب جوزيف كشيشيان. فيما شهدت بقية التجارب اغتيالات، وحرباً أهلية، وفي بعض الحالات ثورة سلمية.بحسب طريقة الحسم المتبعة، فإن القوة الغاشمة وحدها أداة تسوية النزاعرفض عبد العزيز محاولات أبناء عمومته، المعروفين بـ «العرايف»، لاستعادة خلافة جدهم سعود الكبير، في بدايات القرن العشرين، إمّا من خلال المعارك أو علاقات المصاهرة أو الاستمالات. وعندما عارضه أبناء عمّه، من فرع سعود الكبير، وكانوا مسؤولين عن انتفاضات خطيرة حصلت في قبيلتي العجمان والحساسنة في عام 1908، قام عبد العزيز بسحق ثورتهم. وفي جولة واحدة، جمع تسعة عشر قائداً من الأسرى في مدينة ليلى، وتقع على بعد 300 كلم جنوبي مدينة الرياض، وقام بتنفيذ إعدام علني مؤثّر. وبعد سقوط ثمانية عشر عنقاً بضربات السيوف، عفا عن المحكوم التاسع عشر، وأطلق سراحه ليذهب ويخبر بما رأته عيناه من انتقام ابن سعود. وأدّى هذا المثال الصارم إلى نشر نفوذ عبد العزيز بين زعماء القبائل الذين زادوا من دعمهم له، حسب هارولد أرمسترونغ في دراسته عن ابن سعود سنة 1934. يحضر هذا المشهد بكثافة في ضوء ما قام به حفيد ابن سعود، محمد بن سلمان في تصفية خصومه من الأمراء إما بالقتل (منصور بن مقرن، وسلطان بن تركي، وتركي بن بندر، وسعود سيف النصر)، أو بالاعتقال والتعذيب, كما حدث لعشرين أميراً في إطار حملة «الريتز»، في 4 تشرين الثاني 2017، أو بالمنع من السفر، وتجميد الحسابات البنكية، وفرض الإقامة الجبرية، وتلك إجراءات شملت المئات من الأمراء، بمن فيهم ولي العهد السابق محمد بن نايف، ومتعب بن عبد الله، رئيس الحرس الوطني السابق، والوليد بن طلال رجل الأعمال ورئيس شركة «المملكة القابضة». وفي النتائج، لم يكن قطع الرقاب فعلاً طارئاً في سيرة آل سعود، وما اختلف هو أداة القطع، ففي الماضي ــــ زمن ابن سعود ــــ كانت بالسيف الأملح، وأصبحت بالمنشار، في زمن الحفيد.
بالعودة الى السياق التاريخي للدولة السعودية، تفرّد عبد العزيز بالحكم وأقام نظاماً فردياً أوتوقراطياً امتدّ نصف قرن، أي في الفترة ما بين 1902 و1953. ويا للصدفة! فحفيده، محمد بن سلمان، يتطلع لأن يحكم الجزيرة العربية بالطريقة الاحتكارية والدموية نفسها، ولمدة نصف قرن أيضاً، كما أفشى ذلك لمقدمة برنامج «60 دقيقة» الأميركي في قناة «سي بي إس»، في 19 آذار الماضي.
بالمقارنة بين الدولة السعودية الأولى والحالية، فإن عدد المنافسين على العرش تضاعف عشرات المرات. وبحسب طريقة الحسم المتبعة، فإن القوة الغاشمة وحدها أداة تسوية النزاع. ففي عهد محمد بن سعود، مؤسس السلالة السعودية، كان المنافسون لسلطته هم إخوته الثلاثة، بينما يقدّر، في الوقت الراهن، عدد أبناء عبد العزيز وأحفاده الذين يرون في أنفسهم ورثة شرعيين للعرش، بأكثر من 250 أميراً. وإلى ما قبل سنوات قليلة، لم يكن اسم محمد بن سلمان وارداً بين الأحفاد البارزين والمتسابقين للوصول إلى العرش. بل إنّ ابنين من أبناء الملك الحالي سلمان كانا أولى، من أخيهما الصغير محمد، بالارتقاء في مراتب الحكم. وهما عبد العزيز، وزير الدولة لشؤون الطاقة منذ نيسان 2017، وسلطان الذي يشغل منصب رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني.كان الجد يهدف إلى تأسيس الكيان، والحفيد يهدف إلى إعادة تشكيلهويعتبر العامل الخارجي عاملاً حاسماً في كل تجارب الصراع على السلطة داخل البيت السعودي. فكما قامت بريطانيا بدور محوري في حسم الخلاف بين عبد العزيز و«الاخوان» في معركة السبلة سنة 1929، فإنها ــــ بحسب وثائق سريّة أفرج عنها، في سنة 2017 ــــ قامت بدور مركزي في انقلاب القصر الذي أوصل فيصل إلى السلطة، وفي إقصاء أخيه الأكبر الملك سعود الذي حكم منذ سنة 1953. وبحلول عام 1958، تولى فيصل إدارة الحكومة، وبحلول عام 1963 استخدم موقعه ليصبح القوة المهيمنة في البلاد. وفي شهر ديسمبر من ذلك العام، أمر سعود بنشر قوات وآليات عسكرية خارج قصره في الرياض لإعادة تأكيد سلطته. واستمر التوتر مع القوات الموالية لفيصل إلى عام 1964، عندما طالب سعود بأن يقيل فيصل اثنين من وزرائه، وأن يستبدلهما بابنَي للملك. وهنا تدخلت بريطانيا لمصلحة فيصل عبر توفير الدعم الحاسم للحرس الوطني، وقوامه عشرون ألف عنصر. ويعتبر أفراد «الحرس الوطني» مسؤولين عن حماية النظام، والعائلة المالكة السعودية. وأطلق عليهم، في الماضي، أسماء؛ من بينها: «الجيش الأبيض»، و«الإخوان». وقد قادهم ابن سعود لتنفيذ حملاته العسكرية داخل الجزيرة العربية وخارجها. وكان «الحرس الوطني» يتلقى تدريبه من قبل بعثة عسكرية بريطانية صغيرة في البلاد، بناءً على طلب سعودي، في عام 1963. وقد قام مستشاران بريطانيان في الحرس الوطني، هما العميد تيمبرل والعقيد بروماج، بوضع خطط بشأن رغبة رئيس «الحرس الوطني» الأمير عبد الله (الملك لاحقاً) الصريحة في «حماية فيصل، والدفاع عن النظام، والسيطرة على بعض المواقع، ورفض بث أي بلاغات إذاعية، باستثناء المدعومة من الحرس الوطني». وقد ضمنت الخطط البريطانية الحماية الشخصية لفيصل، بهدف المساعدة في نقل السلطة إليه. ومن سوء طالع عبد الله، أن يكون «الحرس الوطني» ــــ وهو الأداة التي استعملها لتسهيل انتقال السلطة من سعود الى فيصل ــــ قد ارتد، بعد ذلك، ليتحول إلى أداة أقصت إبنه متعب عن السلطة، بعدما وضع ابن سلمان يده على هذه المؤسسة العسكرية المعروفة بولائها لعبد الله.
عكست التغييرات الجيواستراتيجية بعد الحرب العالمية الثانية نفسها على شبكة التحالفات السعودية. فبينما كانت بريطانيا تضطلع بمهمة رعاية ابن سعود، في المراحل الأولى من تأسيس دولته، أصبحت الولايات المتحدة، ولا سيما بعد لقاء عبد العزيز مع روزفلت، في سنة 1945، تتولى مهمة حماية النظام السعودي، وتدير ملفات الأمن والدفاع والاقتصاد والسياسة الخارجية. وتكشف وثائق الخارجية الأميركية، والمذكرات السريّة التي ترفعها لجان الشؤون الخارجية التابعة للكونغرس أن الإدارات الأميركية كانت تتدخل بصورة مباشرة في عملية انتقال السلطة، وخلافة العرش السعودي. وبحسب ما ورد في كتاب «نار وغضب» لمؤلفه مايكل وولف، فقد أدار الأميركيون نقل السلطة في عهد سلمان، الذي تولى العرش، في 23 كانون الثاني 2015. كما أنّ آل ترامب نسجوا علاقة وطيدة مع محمد بن سلمان، ولي العهد الحالي، فيما كانت أجهزة الأمن القومي والخارجية تميل الى محمد بن نايف، المنافس الرئيسي لابن سلمان. وفي نهاية المطاف، أدار جاريد كوشنر، صهر ترامب، انقلاب القصر على ابن نايف لمصلحة ابن سلمان.
وبالطريقة نفسها التي اتبعها فيصل بعد خلع سعود، حين قام بإبعاد كل أبنائه، على التوالي، عن السلطة، فدفع اليأس بعضهم إلى اللحاق بوالدهم إلى المنفى، فإن سلمان أبعد أبناء عبد الله عن السلطة أولاً، ثم اعتقلهم جميعاً في حملة مكافحة الفساد، في 4 تشرين الثاني 2017. ونجح عبد العزيز بن عبد الله في الهرب إلى الخارج، فيما لا يزال تركي بن عبد الله قيد الاحتجاز لرفضه الإفراج المشروط.
ما بين عبد العزيز ومحمد بن سلمان أكثر من مشترك، إن لناحية الجبهات التي فتحها الجد والحفيد، إذ كان الأول يهدف الى تأسيس الكيان، أما الثاني فيهدف إلى إعادة تشكيله. كما أنّ تصفية الخصوم داخل البيت الحاكم، وقمع الشريك الديني، وإضعاف البيوتات التجارية ورجال الأعمال عبر مقاصة وشراكة، وفرض الضرائب على المواطنين، وتشكيل سلطة مركزية صارمة لا تسمح بأي نوع من الشراكة أو التسويات الاجتماعية، وبناء أوتوقراطية صارمة يمسك فيها فرد بكل مقاليد السلطة، ويصبح هو المرجعية النهائية لشؤون الدولة كافة… وهذه هي بنود الخطة التي رسمها ابن سلمان لنفسه لإقامة دولة مركزية له، ولأبنائه من بعده.«قرن الشيطان»
- جعفر البكلي
- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم بارك لنا في شامِنا، وفي يَمَنِنا». قالوا: «وفي نَجْدِنا؟». قال: «اللهم بارك لنا في شامنا، وفي يمننا». قالوا: «وفي نجدنا؟». قال: «هناك الزلازل والفتن، وبها يطلع قرن الشيطان».
- (حديث نبوي، في صحيح البخاري)«نبيّ نجد»
كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب (1703- 1791) يرى نفسه حاملاً لرسالة عظيمة من الله، قوامها محاربة الشرك والبدع. فقد وجد الرجل أنّ العباد أشركوا بالله، ورجعوا إلى عبادة الأوثان والأحجار والقبور، وابتدعوا أرباباً يتضرّعون لها. وأخذ ابن عبد الوهاب يكتب رسائل، ويرسلها إلى ملوك الأمصار وأمرائهم وشيوخهم، على طريقة ما كان يصنعه النبي محمد، ويدعوهم إلى أن يسلموا ويتركوا ما هم فيه من الضلال، وأن يؤمنوا بالله الواحد، ويتبعوا سنّة نبيه، وأن يتخذوه إماماً لهم، ووليّاً وهادياً. واستبدّ به هذا الهوس حتى اعتقد أنه المبعوث لهداية البشر، وتخليصهم مما هم عليه من الكفر. بل إنّ الرجل في تقمصه لشخصية «الرسول» صار يصنع أموراً لافتة. ففي السنوات الأولى لدعوته، جعل محمد بن عبد الوهاب من قرية العُيينة (مسقط رأسه) مركزاً لنشر تعاليمه. لكنّ «الإمام» لم يلق فيها آذاناً كثيرة صاغية، فاضطر، في سنة 1744، أن يهاجر بدينه إلى الدرعية التي يتزعّمها آنذاك ابن سعود. وأبرم الشيخ، في دار الهجرة، ميثاقاً مع محمد بن سعود، وبموجبه اقتسما أطراف الولاية: للشيخ ونسله السلطة الروحية، وللأمير ونسله السلطة الزمنية. ووجد الشيخ في أهل الدرعية «أنصاراً». ثم التحق به في «المدينة الجديدة» أتباعه القدامى، فسمّاهم «المهاجرين». وأطلق ابن عبد الوهاب على جماعته ألقاباً، وأسبغ عليهم صفات، فهم «المسلمون»، وهم «أهل التوحيد»، وهم «الفرقة الناجية في أهل السنّة والجماعة». ثم قسّم الرجل كل من لم يلتحقوا بدعوته، وأنزلهم ثلاثة منازل. فالصنف الأول هم «الكفار»، وأولئك يندرج ضمنهم كل الذين لم يعتقدوا بدين الإسلام. والصنف الثاني هم «المشركون»، وأولئك عامة المسلمين «الذين يشهدون أنه لا إله إلا الله، لكنهم لا يعملون بها لجهالةٍ، أو لاتباعهم الضلالة»، ويدخل في هذا الباب (الشرك بالله) كلّ من اتّبع مذهب الأشاعرة، أو التصوف، أو التشيّع، أو الاعتزال… وأمّا الصنف الأخير فهم «المنافقون»، وأولئك قوم عرفوا «الدين الحق»، لكنهم أنكروه كِبراً وعناداً (1). وبعد أن صنف الشيخ الناس، وقسّمهم، وأنزلهم منازلهم، أفرغ نفسه لمعالجة قضية رب الناس، فجعل يبحث في صفات الله وأسمائه وكنهه، ويفسّر ما ورد في القرآن حول يده ويمينه وقبضته. وهداه تفكيره (وقراءته في كتب ابن تيمية) إلى أن للّه ذاتاً مادية، ولكنّ ذاته لا تشبه ذوات خلقه. وأن ما ورد في الآيات القرآنية عن يدي الله المبسوطتين، إنما يقصد بها الحقيقة لا المجاز. وختم ابن عبد الوهاب تأويله في تجسيم الله بقوله في رسالة بعثها لأهل القصيم «فلا أنفي عنه ما وصف به نفسه، ولا أحرّف الكلم عن مواضعه». ولقد يكون رأي الشيخ في صفات الله مسألة نظرية تندرج ضمن ما يسميه المسلمون علم الكلام، لكنّ المشكلة أنّ الرجل اعتبر تصوراته اللاهوتية هذه جزءاً من العقيدة التي لا يجوز الاختلاف حولها، وأن من ينكر تلك المعتقدات التي تجعل لله جسماً وشكلاً، يكون كافراً، وخارجاً عن عقيدة الإسلام، وتجب محاربته وقتله!
بعد أن بنى الشيخ محمد بن عبد الوهاب تصوره الثيولوجي لصفات الله، وشروط الإيمان، وأسس العقيدة، انبرى إلى إحياء سنّة «الجهاد». فمضى، ومن ورائه أتباعه، يثخنون في الأرض، ليقيموا أسس الدولة الإسلامية، كما تصوّروها. وكانت الغاية من إنشاء هذه «الدولة» هي «مقاتلة الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله». فالناس، كما قال محمد بن عبد الوهاب، «ليسوا على شيء، منذ ستمئة عام». ولقد آن الأوان لإجبارهم على أن يؤمنوا بالإسلام الصحيح ويدخلوا فيه أفواجاً، ولو كان ذلك بحد السيف. وخلال عشرين عاماً، شن جنود «الإمام» أكثر من ثلاثمئة «غزوة» ضدّ من سمّوهم «مشركي الجزيرة العربية». أي إنّ الرجل و«صحابته» غزوا الناس بمعدل خمس عشرة غزوة، في كل عام. ولم تكن معظم تلك «الغزوات» إلاّ غارات، تشنّ على طريقة بدو نجد، ويراد بها النهب والسلب. لكنها تلبّست، عند الوهابيين، بمسحة دينية، وأدلة شرعية تبرّر لهم قتل العباد، والسطو على أرزاقهم، وترويع عيالهم، وسبي نسائهم. وفصّل مؤرّخ الوهابيين عثمان بن بشر، في الجزء الأول من كتابه «عنوان المجد في تاريخ نجد»، أحداث تلك السنوات، وما جرى فيها من الغزوات. ويمكن للمرء أن يستخلص، من قراءة هذا الكتاب، مجموعة من النتائج، فالضحايا، في حروب الوهابي، يقدّرون بعشرات الألوف. والمهجّرون من ديارهم يناهز عددهم نصف سكان نجد (وسط الجزيرة العربية)، واليمامة (جنوب نجد)، والبحرين (ساحل الخليج العربي). وفي زمن لاحق بعد موت الشيخ، امتدت سياسة التهجير والتقتيل إلى أهالي الحجاز، وتهامة (ساحل البحر الأحمر) واليمن، والعراق، وعمان، وأطراف الشام. وأمّا التبرير الوهابي الجاهز لكل تلك الجرائم، فهو حديث منسوب إلى النبي، يقول فيه «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب».«أجداد الدواعش»
اختزل الوهابيون دينهم، في تسوية القبور بالأرض، وهدم مقامات الصالحين وقباب الأولياء التي بناها الناس تكريماً لقدرهم، وتخليداً لذكرهم. وما زال تهديم الآثار وإبادة التراث المعماري والحضاري سنّة دارجة عند الوهابيين، وسمْتاً، وأمارةً على مرورهم في الأزمان والبلدان. ولم يسلم ضريح في أرض استولوا عليها من تخريبهم، بل إنهم كانوا يدقّون الطبول، ويهزجون بالأناشيد، وهم يدمرون آثار المسلمين في مكة والمدينة. غير أنهم لم يقدروا على هدم حجرة النبي، وتسوية قبره، وتحطيم القبة المقامة فوق مرقده، تنفيذاً لوصية شيخهم ابن عبد الوهاب (2). ولقد حاولوا حين احتلوا المدينة المنوّرة، أوّل مرّة في شهر آذار 1803، أن يخرّبوا القبة الخضراء، لكنهم رأوا من هياج المسلمين على تطاولهم وجرأتهم على الحضرة النبوية، ما جعلهم ينكصون على أعقابهم، ويُحجمون (2). على أنّ محاذرتهمّ من عواقب هدم مقام النبي محمد، لم يردعهم عن السطو على ما في حجرته، ونهب النفائس التي أبقاها المسلمون قروناً في جواره. ومن بين ما سرقه الوهابيون تاج كسرى أنو شروان، الذي غنمه المسلمون لمّا فتحوا المدائن، وسيف هارون الرشيد، وعقد كان لزبيدة زوجته، وتحف فريدة أرسلها سلاطين الهند لتزيّن مقام الحضرة النبوية. ومن سوء الحظ أنّ تلك التحف التاريخية النفيسة اندثرت، بعد أن وضع الوهابي يده عليها، فلم يعرف لها، إلى اليوم، أثر.
بيد أنّ ما نال قبر النبي محمد (ص) من التدنيس على أيدي الوهابيين، لا يقارن بما أصاب مرقد سبطه الحسين بن علي، في كربلاء. فقد جهّز سعود بن عبد العزيز (جدّ آل سعود الكبير) جيشاً من ستمئة هجّان، وأربعمئة فارس، ثمّ هجم بهم على المدينة الوادعة التي ارتحل عنها معظم أهلها، في يوم 18 ذي الحجة 1216هـ (22 نيسان 1802م). وكان ذلك اليوم هو ذكرى عيد الغدير الذي يقوم فيه شيعة علي بن أبي طالب بزيارة مرقده في النجف الأشرف، والتسليم عليه. واهتبل الوهابي تلك الفرصة ليغزو كربلاء، في غياب معظم أهلها، ويقتّل من بقي منهم في المدينة المقدّسة. وربط ابن سعود خيله في الصحن الحسيني، وأمر أتباعه بدق القهوة في أروقة المقام. وكان ذلك شاهداً مكرّراً للضغينة التي يتوارثها أولئك القوم في صدورهم، وللعداوة التي ناصبت كل من يمتّ بصلة إلى النبي وآله. ثم لم يلبث الوهابيون حتى شرعوا يخربون كل ما تصل إليه أيديهم في مشهد الإمام الحسين، فاقتلعوا السياج البديع الذي يحف بالضريح، ودمّروا المرايا الجسيمة من حوله، ونهبوا النفائس والتحف والسجاد، وكل ما يزيّن المرقد الشريف، وهشموا الثريات الكبيرة، والأبواب المعشقة، وكسروا القضبان المعدنية في الشبابيك، وتطاولوا إلى زخارف الجدران يحطمونها، واقتلعوا الذهب المزين للسقوف، وأرادوا أن يخلعوا صفائح قبة المشهد الحسيني، ولكنهم لم يستطيعوا فعل ذلك لاستحكامها ومتانتها، وارتدّوا على القبّة يخربونها. ثم مضوا إلى الضريح نفسه لينقبوه ويحاولوا نبشه، واقتلعوا شباك القبر من مكانه، وحملوه في جملة ما سلبوا، وخلعوا باب خزانة المشهد حيث تتجمع التحف الثمينة المهداة إلى الروضة، منذ مئات السنين، فسرقوا كل ما فيها من ذخائر جليلة.■ ■ ■
على أنّ أولئك السعوديين الأوائل الذين أفسدوا في الأرض، سرعان ما سلّط الله عليهم من قهرهم وأذلّهم. وفي مثل هذه الأيام قبل قرنين من الزمن، دُمّرت عاصمتهم الدرعية، وسوّي جميع ما كان فيها بالأرض. وكان ذلك على أيدي الأتراك العثمانيين (4) الذين قادهم إبراهيم باشا. وقُبِض على زعيم الوهابيين عبد الله بن سعود، فاقتيد إلى إسطنبول حيث نفّذ فيه حكم الإعدام بالخازوق. وأمّا الشيخ سليمان بن عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فقد ذكر ابن بشر قصة مقتله، في الصفحة 424، من الجزء الأول من كتابه «عنوان المجد في تاريخ نجد»، فقال: «أُمِر الشيخ على (سماع) آلات اللهو من الرباب فجروها عنده إرغاماً له بها. ثم خرجوا به إلى المقبرة، ومعه عدد كثير من العساكر، فأمرهم الباشا أن يثوّروا فيه البنادق، فثوّروها فيه، وجمع لحمه بعد ذلك قطعاً».الهوامش:
(1) تزخر كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب ورسائله بخطاب التكفير. وبالرغم من أنه يحاول في بعض خطبه أن ينفي عن نفسه صفة «المكفّراتي»، إلّا أنّ الرجل سرعان ما يرتكس في هذا المزلق حين يشرع في تعريف «أهل الكفر والشرك»، بين الطوائف الإسلامية، وتحديد من هي «الفرقة الناجية» بين أهل السنة والجماعة. ولا تكاد تخلو واحدة من رسائل الشيخ من الموضوع الأثير إلى قلبه، وهو التكفير. ولقد جمعت تلك الرسائل التي كتبها محمد بن عبد الوهاب، في موسوعة بعنوان «الدرر السنيّة في الأجوبة النجدية». ثم حاول الشيخ السعودي صالح الفوزان أن يختزلها، وينتخب من تلك «الدرر» ما يمكن جمعه في كتاب عنونه بـ«الرسائل الشخصية للشيخ محمد بن عبد الوهاب».
(2) كان محمد بن عبد الوهاب صارماً في ما يتعلق بهدم التراث المعماري الإسلامي، واعتبار الحفاوة بمقامات الأئمة وأضرحة الصالحين، وزيارتها شركاً ومروقاً من الدين. ويؤثر عن الرجل قوله: «لو أقدر على هدم قبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لهدمتها». وأيضاً قوله: «لو أقدر على الكعبة لأخذت ميزابها، وجعلت لها ميزاباً من خشب. وما زال الوهابيون إلى اليوم يحلمون بهدم قبة الضريح النبوي، ونبش قبر الرسول، ونقله إلى خارج مسجده في المدينة. وقبل أعوام، نشر إبراهيم بن سليمان الجبهان كتاباً عنوانه «تبديد الظلام وتنبيه النيام» (دار المجمع العلمي بجدة، الطبعة الثالثة – 1979). وجاء في الصفحة 389 منه، العبارة التالية: «نحن لا ننكر أن بقاء البنية على قبر النبي صلى الله عليه وسلم مخالف لما أمر به الرسول». ويضيف الجبهان: «وإن إدخال قبره في المسجد (النبوي) أشد إثماً وأعظم مخالفة». ويمضي الجبهان فيقول: «إنّ سكوت المسلمين على بقاء هذه البنية (يقصد القبة، والغرفة النبوية) لا يصيّرها أمراً مشروعاً». والأنكى من كلام هذا الشيخ الوهابي، هو أنّ إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد في المملكة السعودية، هي التي أشرفت على طباعة كتابه، بإذن تحت رقم 4411/5، وبتاريخ 11/7/1400هـ . ولا يعدّ هذا الأمر غريباً، للذين يعرفون ما يضمره الوهابيون في أنفسهم. ولقد سئل كبيرهم الشيخ محمد بن صالح العثيمين، ذات مرّة، عن بقاء القبة النبوية فقال: «القبة عاد عسى الله يسهّل هدمها».
(3) ما زال عداء الوهابيين للشيعة عنيفاً. ويروي الرحّالة اللبناني أمين الريحاني، في الصفحتين 584 و585، من كتابه «ملوك العرب» أنه سأل عبد العزيز (ابن سعود) عمّا يقصد في كلامه عن وجوب مقاتلة المشركين. فقال له: «إنهم شيعة الإحساء والقطيف».
(4) بقي حقد السعوديين على ما صنعه الأتراك بالدرعية معشّشاً في صدورهم. ويذكر النقيب الإنكليزي شكسبير (الذي قُتِل في معركة جراب سنة 1915 بين قوات ابن سعود وآل الرشيد) أن عبد العزيز، قال له: «إن الكافر في نظري أفضل من التركي». (راجع الصفحة 23، من كتاب «بعثة إلى نجد 1917 ـ 1918» الذي كتبه سانت جون فيلبي، وهو صار بعد ذلك أكبر مستشاري ابن سعود. وقد ترجم الكتاب وعلّق عليه عبد الله الصالح العثيمين). والغريب في ذلك الكتاب الذي دوّن فيه فيلبي محاوراته مع ابن سعود أنّ الأخير كان يعتبر أهل مكة مشركين. وقد نقل فيلبي حواراً دار بينه وبين عبد العزيز، في صيف 1918، قال فيه ابن سعود: «إذا زوّجتني أنت الإنكليزي ابنتك، فسأتزوجها ولا أشترط إلا أن يكون أولادي مسلمين. ولكني لا أتزوج ابنة الشريف (حسين)، ولا بنات أهل مكة، ولا غيرهن من المشركات».