بعد إرسالها تلميحات متكررة إلى مسؤولية ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، عن واقعة اغتيال الصحافي جمال خاشقجي، ضخّت تركيا تسريبات جديدة من شأنها تكذيب الرواية السعودية في شأن مصير جثة الراحل. وهي تسريبات سترخي بثقلها ـــ إلى جانب معطيات أخرى ـــ على القمة المنتظرة بين الرئيسين التركي والأميركي في باريس. لكن، وعلى رغم الإلحاح التركي على توجيه اتهام مبطن إلى ابن سلمان، إلا أن المؤشرات الأميركية ـــ إلى الآن ـــ لا تفيد بأن ثمة توجّهاً لإطاحة الرجل، الأمر الذي يبدو منعكساً في الأريحية التي يقود بها الملك سلمان حملة الدعم الداخلية لنجله.
وأفادت مصادر من داخل مكتب المدعي العام التركي، أمس، بأن النيابة العامة أوقفت عملية البحث عن جثة خاشقجي، عازية ذلك إلى توصل المحققين الأتراك لقناعة تامة بأن الجثة تمتّ إذابتها بواسطة أحماض كيميائية. ومن شأن هذه التسريبات دحض الرواية السعودية التي تقول إن الجثة سُلّمت لمتعاون محلي، وتعزيز المعلومات عن أن الجثة قُطّعت ونُقلت أجزاءً إلى منزل القنصل قبل أن يتمّ التخلّص منها. والظاهر أن الأتراك كانوا على علم منذ مدة بمصير الجثة، إلا أنهم قرروا التريث بهدف إحراج الرياض، وتصعيد الضغوط عليها، ودفعها إلى الاعتراف. وهو أسلوب لا يزالون يستخدمونه في ما يتصل بمستوى المسؤولية عن الجريمة؛ إذ جدد رئيس حزب العدالة والتنمية التركي، نعمان قورتولموش، قوله إن جريمة من هذا النوع «لا يمكن أن تحدث في قنصلية دولة ما من دون أن يكون للجهات العليا علم بها»
وجّه ابن سلمان خلال لقائه الإنجيليين الأميركيين انتقادات لأردوغان
هذا الدفع التركي نحو تحميل ولي العهد المسؤولية عن واقعة القنصلية، مع ما يعنيه الأمر من ضرورة محاسبته وبالتالي «قطف رأسه»، لا يظهر أنه يلقى تجاوباً أميركياً، على رغم أن واشنطن تواجه عقبات في كيفية الدفاع عن بقاء ابن سلمان. ونقلت «رويترز»، أمس، عن مصادر أميركية قولها إن مشروع «الناتو العربي» تعترضه مشكلات عدة، من بينها «كيف سيحضر ولي العهد القمة (المنتظرة بين الرئيس دونالد ترامب وأقطاب التحالف المنشود) من دون أن يحدث ذلك غضباً واسع النطاق». تصريح يؤشر إلى أن إدارة ترامب لا تزال تريد التعامل مع ابن سلمان، ولو أنها أبدت استعداداً للمساهمة في ضبط سلوكه، خصوصاً على المستوى الخارجي. وما يعزّز الحديث عن ذلك التوجّه هو اندفاع الملك نحو حشد التأييد الداخلي لولي العهد، في مؤشر إلى أنه «واثق من أن شيئاً لن يحدث على الفور» بحسب ما يرى خبير شؤون الخليج في جامعة «تكساس إيه. آند أم» جريج جوس، الذي ينبّه في الوقت نفسه إلى أن «الجولة المحلية للأمير محمد مع والده ليست دليلاً على أن الأسرة المالكة تجاوزت دائرة الخطر». واستكمل سلمان ونجله، أمس، جولتهما بتدشين 259 مشروعاً في منطقة حائل (شمال)، بتكلفة 7 مليارات ريال (1.9 مليار دولار).
وفي قبالة الجدية التي تتمّ بها إدارة «المواجهة» على الجبهة الداخلية، يبدو أن ابن سلمان لا يزال يعتقد بأن بإمكانه المناورة في ما يتصل بالملفات الخارجية. ذلك ما يوحي به حديثه إلى وفد الإنجيليين الأميركيين الذين استقبلهم قبل أيام، حيث وجّه انتقادات إلى الرئيس رجب طيب أردوغان، متهماً تركيا بـ«استخدام كل شيء لاستغلال الوضع وجعله أكثر سوءاً»، معيداً إدراج «الإخوان المسلمين» في خانة «الأعداء»، ما يعني أن محاولات ولي العهد الشهر الماضي التودّد إلى تركيا وقطر إنما كانت من باب «تطييب الخواطر». لكن حديث قائد القوات الخاصة في الجيش القطري، حمد بن محمد المري، أمس، عن أن «أزمة خاشقجي قد تؤدي إلى تغيرات إيجابية على مستوى منطقة الخليج ككل، إذا أدرك المعنيون الرسالة بمعناها الصحيح، وقاموا بمراجعة أنفسهم وتصحيح أخطائهم»، قد يقُرأ فيه استشعار قطري لقرب حلّ الأزمة الخليجية بدفع أميركي، وهو ما يفترض أن يتكشّف أكثر في القمة المنتظرة اليوم بين أردوغان وأمير قطر تميم بن حمد. على أن اللافت في مضمون التصريحات التي أوردها رئيس وفد الإنجيليين جويل روزنبرغ، نقلاً عن ابن سلمان، هو وصف الأخير العلاقات بين الرياض وتل أبيب بـ«الدافئة»، معزّزاً بذلك الحديث عن أنه يرى في التقرب من إسرائيل «القشّة» التي ستنقذه من ورطة خاشقجي.