قضية جمال خاشقجي وفّرت لوكالة المخابرات المركزية الأميركية فرصة الانتقال إلى الهجوم لوقف تهميشها في عملية صناعة السياسة الخارجية الأميركية، ولانتزاع ملف العلاقات السعودية ـــ الأميركية من أيدي جارد كوشنر
سبق للرئيس الأميركي قبل وصوله الى السلطة تأليف كتاب بعنوان «فن عقد الصفقات» اعتقد البعض أنه سيتخذه دليلاً خلال مسار بلورة سياساته الداخلية والخارجية، الذي يتخلله حوار وتشاور وتفاوض مع الأطراف المعنيين بهذه السياسات داخل المؤسسات الأميركية وخارجها. سياسة ترامب في الشرق الأوسط زادت من صدقية هذا الاعتقاد، لأن أهم قراراته المرتبطة بها، كنقل السفارة الأميركية إلى القدس والتصعيد ضد إيران ومشروع «صفقة القرن»، هي أولاً نتاج لصفقات مقايضة عقدها مع تيارات وكتل كالمسيحيين الانجيليين اليمينيين والمحافظين الجدد ومجموعة من أصحاب المليارات الصهاينة المتطرفين حصل فيها على دعمهم الانتخابي والمالي والسياسي مقابل تبنّي توجهاتهم بالنسبة إلى قضايا المنطقة. هذا الميل إلى عقد الصفقات مع أطراف جلّهم خارج مؤسسات النظام لم ينسحب على علاقته بالمؤسسات نفسها. ينبغي عدم نسيان أن خطابه التعبوي خلال حملته الانتخابية وبعدها تأسّس على التشكيك في تمثيلها للأميركيين «الحقيقيين» بسبب سيطرة «النخب المعولمة» عليها، التي لم تعد تدافع عن المصالح الوطنية، معتبراً أن إحدى مهامه الحيوية هي تطهيرها واستبدال «المعولمين» بالوطنيين الحقيقيين. وجاء التعامل الفعلي لترامب معها، وبينها الاستخبارات المركزية، ليظهر ميلاً متزايداً لتجاهل توصياتها والتعدي على صلاحياتها وتهميشها. يقول المصدر الأميركي إن «الاستخبارات المركزية قدّمت لترامب مجموعة تقارير تمثل تقديرها للموقف في عدة قضايا متصلة بالشرق الأوسط، لكنه تجاهلها تماماً. هي حذرت من مغبة نقل السفارة الأميركية إلى القدس باعتباره عملاً استفزازياً سيؤدي إلى مضاعفة احتمالات انفجار الأوضاع في الأراضي المحتلة وسيستغل من قبل خصوم الولايات المتحدة، وهو لا يشكل ضرورة حيوية، لا بالنسبة إليها ولا إلى إسرائيل، ولم يلق هذا التحذير آذاناً صاغية في البيت الأبيض. الأمر نفسه ينطبق على حرب اليمن؛ فالوكالة ترى أن استمرارها وتصعيدها لن يسمحا بحسمها سريعاً ولهما نتائج وخيمة على صورة وسمعة، وربما مصالح، الولايات المتحدة باعتبارها شريكاً في الحرب. لم يلتفت أحد إلى هذا التنبيه إلى أن وقعت جريمة اغتيال خاشقجي وباتت إحدى السبل المحتملة للسعي لتوصل الادارة الى تفاهم ما مع الكونغرس لتليين موقفه المعارض للتعامل مع ابن سلمان هو الضغط عليه لوقف حرب اليمن. لكن الأسوأ بنظر الوكالة هو تعدّي جارد كوشنر، بمباركة من ترامب، على صلاحياتها بخصوص العلاقات مع المملكة العربية السعودية».
المصالح الخاصة والعلاقات الشخصية أضحت تشجّع من هم في رأس هرم السلطة في الولايات المتحدة على رسم سياسات البلاد انطلاقاً من أولوية هذه المصالح والعلاقات على غيرها من الاعتبارات، والتعاطي مع المؤسسات كأنها عقبات تعترض طريقهم يجب تجاوزها. «نحن أمام سياسة خارجية فاسدة، بمعنى أنها محكومة بالمصالح الخاصة قبل المصالح الوطنية. لقد عمل جارد كوشنر عبر علاقاته الخاصة المميزة مع محمد بن سلمان، وبينها مصالح تجارية ومالية، على احتكار العلاقة مع المملكة. فقدت الوكالة بعد إزاحة الأمير محمد بن نايف حليفاً وثيقاً يعتمد عليه، وبدأ الأشخاص الذين يعتبرون أهل ثقة من قبلها بالتعرض لأشكال من المضايقات، وهناك شكوك في أن كوشنر قد كشف أسماء بعض منهم، وبينهم أشخاص من العائلة المالكة، لوليّ العهد، على الرغم من المخاطر المترتبة على ذلك بالنسبة إليهم. وبشكل عام، لا تنظر الوكالة بعين الارتياح إلى التدخّل المستمر والآخذ في التصاعد للسعودية ودولة الإمارات في السياسة الداخلية الأميركية، وقيامهما بإغداق الأموال على أعضاء الكونغرس والمسؤولين ومراكز الدراسات ووسائل الاعلام وما ينتج عنهما من تأثير على عملية صناعة السياسة الخارجية التي تأتي غير منسجمة أحياناً مع المصالح الاستراتيجية البعيدة المدى للولايات المتحدة. صحيح أن جماعات الضغط، بما فيها تلك المرتبطة بدول أجنبية، هي أداة من أدوات العمل السياسي التي يسمح بها النظام الأميركي، للدفاع عن مصالح معينة وإظهار انسجامها مع المصالح الأميركية العليا، لكن قيام هذه الدول بالسعي إلى شراء قطاعات بعينها من النخب السياسية لخدمة مصالحها ومصالح حكامها أمر خطر على المصالح الأميركية. محمد بن سلمان وفريقه مجموعة متهورة ومنفصلة عن الواقع وتعقيداته، وبالتالي عديمة الكفاءة ولا يمكن للولايات المتحدة صياغة سياستها على قاعدة أنه شريكها الرئيسي كما يريد جارد كوشنر. أظن أن الوكالة تريد تحجيم دوره وانتزاع ملف العلاقات السعودية ـــ الأميركية من بين يديه»، يضيف المصدر.