ليس خافياً على كلِّ المتابعين ما للصحافة منذ نشوئها في أوربا بعد الثورة الصناعيَّة من دورٍ كبيرٍ في التأثير في كلِّ المجالات لا سيما السياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والثقافيَّة، بل تجاوز أثرها إلى الإسهام في نشوب الحروب وتوتير العلاقات بين الدول ونشوب الأزمات، واستخدامها في الحرب النفسيَّة بين الأقطاب المُتحاربة، وأجلى مثالٍ على ذلك استخدامها في الحرب الباردة بين قطب المحور الرأسماليِّ المُتمثِّل بالولايات المتحدة الأمريكية وقطب المحور الشيوعي المتمثل بالاتحاد السوفيتي.
ونظرة خاطفة على تاريخ الصحافة الاستقصائية في القرن العشرين يتبيَّن من خلالها الدور الذي قامت به في فضح ملفات فساد كبيرة أو جرائم مقترفة أو فضائح سياسية أطاحت برأس أعظم دولة والمتصدرة لقيادة العالم الرأسمالي، الرئيس الأمريكي، “ريتشارد نيكسون” بعد إدانته هو وكبار معاوينه عام 1974، في القضية التي اشتهرت بفضيحة ووتركيت، وأشهر المحررين الذين قاموا بالتغطية الاستقصائية الخاصة بهذه القضية، كلٌّ من Bbwood ,Ward Cary Bernstein , بجريدة الـ واشنطن بوست.
لكن الأمر الذي يشكل محوراً أساسياً في وجود صحافة استقصائية حقيقية من عدمه هو وجود النظام الديمقراطي الذي يكفل الحريات التي تمثل الصحافة وحرية التعبير فيها وإتاحة المعلومات من أجلى مصاديقها؛ لذا نلاحظ عدم وجود صحافة استقصائية في دول العالم الثالث عموماً والبلدان العربية خصوصاً، إلا ما ندر وفي بلدان حديثة العهد بالديمقراطية.
إن التحوُّل الذي حدث في العراق بعد عام 2003 من نظام دكتاتوري شمولي إلى نظام ديمقراطي أتاح لظهور صحافة مستقلة عن الدولة، حتى رأينا كماً هائلاً من تلك الصحف والمواقع الإلكترونية والفضائيات والإذاعات، وقد تناولت تلك الوسائل الإعلامية الكثير من الملفات لا سيما ملفات الفساد الإداري والمالي؛ حتى ليتبين أن الفساد الإداري والمالي لم يكن موجوداً في حقبة النظام البائد؛ وذلك بسبب عدم وجود صحافة مستقلة في تلك الحقبة، وتوفرها وانفلاتها بعد 2003.
إن تأسيس هيئة لمكافحة الفساد بعد العام 2003 بعنوان (هيئة النزاهة) كان ضرورياً بعد أن لمس المجتمع ومؤسسات الدولة حجم الفساد الذي استشرى في كل مفاصل الدولة، وإن الكشف عن الفساد بات ضرورة اجتماعية ينبغي أن يسهم فيها جميع فئات المجتمع، وبما أن الصحافة تمثل السلطة الرابعة – كما يعبرون – وتستطيع بما لها من أدوات أن تكون عين الشعب على المؤسسات ومساعداً للجهات الرقابية في كشف الخروقات وشبهات الفساد؛ لذا كان لزاماً أن تستعين تلك المؤسسة الفتية (هيئة النزاهة) بالصحافة ووسائل الإعلام المختلفة، وحسب علمي فإن النزاهة بعيد تأسيسها استحدثت تشكيلاً إدارياً يعنى برصد الأخبار والتقارير والتحقيقات والمقالات حول شبهات الفساد الإداري والمالي وتضخم الأموال والكسب غير المشروع وإساءة استعمال السلطة التي تنشر في وسائل الإعلام المقروءة والمواقع الإلكترونية، وقد اتخذت الكثير من الإجراءات تجاه تلك المواد الصحفية لتتحول إلى بلاغات وإخبارات ومن ثم إلى قضايا جزائية تعرض على القضاء العراقي ليصدر قرارات الأحكام المناسبة حسب قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969 واستعراض تقارير النزاهة السنوية التي توزعها على وسائل الإعلام يتبين ذلك بشكل جلي، ولا أبالغ إن قلت إن عدد المواد الصحفية التي رصدتها وحدة الرصد في النزاهة منذ تأسيسها حتى الآن يربو على 20 ألف مادة صحفية إن لم أقل أكثر تتوزع بين الأخبار والتقارير والتحقيقات والأعمدة والمقالات الصحفية، وقد عقدت النزاهة مؤتمرات وورش عمل وندوات عن الصحافة الاستقصائية ودورها في ملاحقة ظواهر الفساد والمؤسسات الحكومية التي ينتشر فيها، وقد شاركتُ في أكثر من فعالية بحضور كبار أساتذتنا في كلية الإعلام في جامعة بغداد.
لكنَّ الذي أثارني أمران، الأول: ما سطرته النزاهة في تقريرها السنوي من رفعها لمشروع قانون حقِّ الاطلاع على المعلومة والحصول عليها إلى أعلى الجهات للتصويت عليه من قبل السلطة التشريعية، وما يترتب على ذلك من اتساع الفرصة أمام الصحفيين لا سيما ممن يمتهنون الصحافة الاستقصائية وتمكينهم من حرية التحرك لاستقصاء بعض المعلومات والتقصي عنها ممن يندرج في قائمة هموم المواطن من تلكؤ للمشاريع وتدني الخدمات وتفشي مظاهر الفساد الإداري والمالي، والثاني ما أعلنت عنه هيئة النزاهة من استحداث صفحة للرصد التلفزيوني ينشر فيها مجموعة المقاطع الفديوية المقتطعة من نشرات الأخبار والبرامج التلفزيونية التي تناولت قضية من القضايا التي تهم النزاهة حسب قانونها النافذ من منع الفساد ومكافحته، واعتماد الشفافية في إدارة شؤون الحكم على جميع المستويات، عبر التحقيق في قضايا الفساد وتنمية ثقافة في القطاعين العام والخاص تقدر الاستقامة والنزاهة الشخصية واحترام أخلاقيات الخدمة العامة، واعتماد الشفافية والخضوع للمساءلة والاستجواب، فإدراج الهيئة لأسماء البرامج والقنوات الفضائية ومواضيعها المتعلقة بالفساد والجهات المحال إليها في موقعها الإلكتروني يُمثل نوعاً من أنواع الشفافية ودافعاً لوسائل الإعلام لتأخذ على عاتقها الجد والاجتهاد في سبر مكامن الفساد وكهوفه وفضح عمليات الفساد في العقود والمشاريع المتلكئة والهدر بالمال العام والإضرار بمؤسسات الدولة؛ لأن عمل النزاهة هذا – نشر الرصد – يمنح تلك الوسائل الطمأنينة والثقة بالهيئة على أنها تأخذ بنظر الاعتبار كل ما ينشر في وسائل الإعلام مما يمكن أن يعد شبهات فساد أو مخالفة لأخلاقيات الوظيفة العامة والسلوك الوظيفي، وكل ذلك يصب في خدمة الوطن والمواطن إن كثفت النزاهة تحقيقاتها في ذلك.
لكن المؤاخذة التي يمكن أن تشخص على الرصد التلفزيوني– على الرغم من إدراجه الجهات المحال إليه – هو إغفال الإجراءات المتخذة بصدده من قبل دوائر النزاهة، فالمواطن والصحفي يريدان أن يطمئن من أن القضايا التي تفتح في تلك المخالفات المشخصة في الرصد لا تذهب ادراج الرياح، بل تخضع لإجراءات التحري والتحقيق وملاحقة الفاسدين، لكن مما يهون الخطب أن الكثير من إجراءات التحقيق تتسم بالسرية على وفق قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم (23) لسنة 1971، وخضوع ذلك تحت إشراف القضاء الذي يلزم المحققين بعدم تسريب أي جزء من مجريات ومحاضر التحقيق، بيد أننا كإعلاميين نريد عرض ما يسمح به القانون من الإجراءات لنتلمس شفافية إجراءات الأجهزة الرقابية.
رزكار آزاد