منذ أعلن جيش العدو الإسرائيلي إطلاقه عمليّة «درع الشمال» للبحث عن «أنفاق عابرة للحدود» قد يستخدمها حزب الله في أيّ حروب مُقبلة، لم تتوقّف الحرب الإعلامية الإسرائيلية المنهجية ضد المقاومة، وعلى الجانب العربي منها تغريدات المتحدث باسم جيش العدو، أفيخاي أدرعي. في المقابل، لم يُعلّق الحزب، أقلّه رسمياً، على كل ما صدر؛ الصمت لم يأتِ نتيجة ضعف، إنما هو موقف سبق أن استعمله الحزب مع الإسرائيلي فيما مضى، وربّما يستمر حتى انتهاء العمليّة.
قضيّة أنفاق حزب الله أثارها العدو قبل سنوات، وقد يكون المهم الآن هو توقيت إثارة القضيّة مجدداً، خاصة أنّها جاءت بعد وقت قصير على التحريض على أهداف مدنيّة من على منصة الأمم المتحدة. والأهم من ذلك ما سبق العملية الحالية ويتبعها من حروب نفسيّة هدفها التأثير في الرأي العام، وإضعاف روحه المعنويّة وضرب جبهته الداخليّة، ليقلّل قدرتها على المقاومة. من البديهي معرفة أنها «حرب معلومات»، فلكي تنجح هذه الحرب، من يملك المعلومة ويحسن استخدامها، له الفرصة الأكبر في الانتصار. التأثير في الخصم ليس عشوائياً، بل يخضع لدراسات تبحث في الدوافع النفسيّة وغيرها من الجوانب الاجتماعية.
لذا، ليس مستغرباً أن يصف تقريرٌ لـ«معهد أبحاث الأمن القومي» في «جامعة تل أبيب» الحضور في مواقع التواصل الاجتماعي بأنه «ذخر استراتيجي لدولة إسرائيل»، وأن «العمل في هذا الفضاء المفتوح يتطلّب مهارة تنطوي على تحليل الجماهير المستهدفة، لكي يكون بالإمكان شنّ حملات مؤثّرة فيها». هكذا، يجمع العدو من منصّات التواصل الاجتماعي معلومات ضخمة من جمهور المقاومة، فيدرسها، ويحلّلها، ويستخدمها في الحرب عليه. من حيث يدري أو لا يدري، يقدّم الجمهور المعلومات إلى العدو على «طبق من ذهب».
ليس خافياً توظيف العدو فرقاً كبيرة للعمل على تويتر وفايسبوك، ومن ضمنها الحسابان الخاصان بأدرعي. هدفهما التفاعل المباشر مع مؤيّدين للمقاومة، واختراقهم، ومناقشتهم. والمشكلة تقع في وجود استخفاف كبير بهذا الدور، حتى لدى من يدّعون أنهم يعرفون خطورته، إلى درجة أن يصف أحد مناصري المقاومة أدرعي بـ«المهضوم». لمَ العجب؟ هو أصلاً يسخّر طاقاته كي نراه كذلك، إذ يعمل على جميع النواحي: يتحدّث في الشأن العام والفنّ اللبنانيين، يمدح فيروز ويعشق أم كلثوم، ينشر آيات قرآنيّة ويبارك للمسلمين يوم الجمعة، يشارك في حملات شهيرة («كن مثل بلال»، أنموذجاً)، يناقشهم في طعامهم المفضّل (هو يحبّ التبولة!) ويحتفل معهم في أعيادهم. إلى حدّ ما، يمكن القول إنه أفلح في جذب شباب إليه، خاصّة من الفئات «الرماديّة»، فضلاً عن تفاعله مع العرب من مختلف البلدان، إذ يشتمونه فيتلقى الشتائم «بطيب خاطر».
مع ذلك، جزءٌ من هذا الجمهور يعمل بجهد ودقة لاستفزاز العدو والتأثير فيه. على سبيل المثال، استطاع مراسل قناة «المنار»، علي شعيب، أن يشنّ حرباً بمفرده، وأن يُزعج الجيش الإسرائيلي بصور نشرها مستهزئاً به، فيضطر أدرعي إلى الظهور مُستفَزَّاً للردّ عليه. رغم ذلك، قد يكون الحلّ أحياناً في «الصمت الذكي» الذي يُثير فضول العدو من دون الإفادة من معلومات يطلقها الخصم في حالة من ردّ الفعل. إذاً، على الجمهور أن يعرف أكثر قواعد الحرب، كمقاومته، ألا يُغرّد بعيداً عنها، خاصّة أنه هو الذي تراه واقفاً على الحدود غير آبه بعدوّه المدجّج بالسلاح، مستكمِلاً حياته على النحو، في حين أن الطرف الآخر يضطرب عند سماعه صوت حفريات، ويُطلق الرصاص في الهواء عند مرور دوريّة روتينية للجيش اللبناني. كما يخشى حركة المزارعين، أو زرع شجرة على الحدود. يحسب كلّ حركة صغيرة أو كبيرة عليه. يمكن ببساطة استغلال حربه ضدّه. يستطيع جمهور المقاومة بما لديه أن يكون على قدر المسؤولية والجهوزية ليكون جيشاً «ناعماً» صلباً.
يتطلّب هذا النوع من الحروب كفاءات دفاعيّة تضاهي العمليّات العسكريّة، ومن المهمّ الخروج فيها من «مرحلة الدفاع» إلى «الهجوم» لإنهاك الخصم، ما يستلزم من الطرف المقابل امتلاك معلومات كافية عن عدوه وثقافته وطبيعة تفكيره، لترجمتها إلى أدوات فعّالة في سياق المعركة. وبالعودة إلى لبنان، وجمهور المقاومة تحديداً الذي لديه أمين عام كالسيّد حسن نصر الله، قائد الحرب النفسيّة الذي استطاع بخطابه التلفزيوني الشهير إبان حرب تموز ٢٠٠٦ سجن المستوطنين في الملاجئ لأسابيع، وإجبار العدو قبل عام على نقل خزانات الأمونيا بعد تهديده بقصفها، نحن أنفسنا، يجب ألا نُخطئ في فهم الحرب النفسيّة، ومنها الإلكترونيّة، ومفاعيلها، فندّمر ما بنيناه في سنوات بعيدة من المقاومة والتضحيّة وبذل الدماء. أيُعقل أننا، الذين صبرنا على طائرات تمطرنا بالصواريخ وعلى تدمير منازلنا، أن نكون جزءاً من الحرب النفسية على أنفسنا؟ الحرب الدعائيّة التي يستخدمها العدو احترافية. لكننا أيضاً لا ينقصنا شيء لخوض حرب مشابهة متماسكة بكل ما لدينا من قدرات. تبدأ هذه المواجهة من لحظة مقاطعة حسابات العدو كافة، وتجنب التفاعل معها أو الترويج لها تحت أي عنوان، وتنتهي بالهجوم لا بالدفاع.
ايمان محمد بشير
صحافية لبنانية