ما تعجزُ إسرائيل عن تحقيقِه في الحرب والعدوان تحقَّقُه بالدعاية والتهويل. العدوّ يعاني من معضلة في تعاطيه مع لبنان، وهذه المعضلة لم تزدْها هزيمة تمّوز ٢٠٠٦ إلا تفاقماً. اعتادَ العدوُّ أن يردَّ على تنامي القدرات العسكريّة لأعدائه بالعدوان والقصف المستمرّ ضدّه، بالإضافة إلى الاستعانة بالحكومة الأميركيّة للحدّ من تسليح أعداء إسرائيل. قبل الحرب الأهليّة اللبنانيّة، كان العدوّ يتمتّعُ بتواطؤ مُذهل من كل رؤساء الجمهوريّة (من الاستقلال حتى أمين الجميّل) من أجل الحدّ من قدرات الجيش اللبناني ولضرب قدرات المقاومات التي مرّت على لبنان، من لبنانيّة وفلسطينيّة.
العدوّ عملَ على سكّتيْن: ١) الاعتماد على عملائه وأعوانه في السلطة اللبنانيّة ـــــ وعلى أعلى المستويات ـــــ لتعطيل أي محاولة لمدّ الجيش اللبناني بالسلاح النوعي الرادع (والوثائق الأميركيّة المنشورة تؤكّد أن سلطة سليمان فرنجيّة رفضت أموالاً عربيّة طائلة في اجتماع للجامعة العربيّة في أوائل السبعينيّات من أجل تجهيز لبنان بصواريخ مضادة للطائرات، وهي رفضت العرض بالتفاهم مع أميركا)، وأعوانُ العدوّ في لبنان ـــــ بالمال وبالمجّان ـــــ ساهموا في ضخّ ثقافة الانهزاميّة والضعف كسلاح ضد إسرائيل (أي الاستسلام بأسماء أخرى)، ٢) ساعد العدوّ أن السلطة اللبنانيّة آنذاك لم تكن تعترض كثيراً على عدوان إسرائيل على لبنان من الخمسينيّات حتى بداية الحرب.
على العكس من ذلك، كان هناك تفاهم بين الرئاسة اللبنانيّة والعدوّ (ومع فؤاد شهاب في الستينيّات عندما كان رئيساً سابقاً) من أجل ضرب المقاومة الفلسطينيّة بتسهيل ـــــ وأحياناً مشاركة من ـــــ الجيش اللبناني، أي أن الساحة اللبنانيّة كانت مفتوحة على الدوام للعدوان. وحتى الساعة، يحتاج دور إسكندر غانم، كقائد لمنطقة بيروت ثم كقائد للجيش اللبناني، دراسة مستقلّة لما لعبه من دور يبقى مشبوهاً في قصف مطار بيروت (عندما تجاهل تحذيراً وصله قبل الحادث)، ثم في نيسان ١٩٧٣ عندما سَرحَ جيش العدوّ ومرحَ في شوارع بيروت يُمعن قتلاً واغتيالاً. لكن صلابة مقاومة أهل لبنان الجنوبي عطّلت الاستراتيجيّة السابقة للعدوّ وكبّلت يده.
إن الجامع المشترك في تاريخ عدوان إسرائيل على لبنان هو تمتّع العدوّ بفريق يقوم بالتناغم معه (المباشر أو غير المباشر، لا هَمَّ، مع أن التنسيق المباشر هو الغالب) في حملاته ضد المقاومة في لبنان؛ في سنوات ما قبل الحرب كان اليمين اللبناني (خصوصاً في إطار «الحلف الثلاثي» اليميني الذي صعدَ بقوّة في انتخابات ١٩٦٨، إذ لم تكن أميركا بعيدةاً عن جمعهم ودعمهم) يشنّ أعتى الهجمات الدعائيّة ضد المقاومة الفلسطينيّة ويضع اعتراضاته في إطار السيادة اللبنانيّة (الطريف في خطاب اليمين اللبناني الرجعي في سنوات ما قبل الحرب أنه زعم أن إقامة حواجز على أبواب المخيّمات الفلسطينيّة ـــــ وهي كانت ولا تزال ضروريّة لما توصّل إليه العدوّ، في الأمس واليوم، من اختراق للساحة الداخليّة وعلى كل المستويات ـــــ تشكّل خرقاً فظيعاً للسيادة، فيما لم تشكّل غارات العدوّ المستمرّة أي خرق للسيادة). والأمس مثل اليوم: الذين يعترضون على جهوزيّة المقاومة هم الصامتون أبداً عن خروق العدوّ المنتظمة للسيادة (تبلغ حسب التعداد الحكومي نحو ١٥٠ خرقاً في الشهر الواحد).
العدوّ يستطيع أن يستعين بأعوانه في لبنان للتهويل على سلاح المقاومة، وأن يرفع الصوتَ حول دور حزب الله في لبنان وهو يحظى في ذلك بمعين من حليفه السعودي العريض في لبنان (بات النظام السعودي أقوى حليف للعدوّ في الشرق الأوسط برمّته). لكنه لا يستطيع أن يُغير على لبنان أو أن يفتحَ معركة ضد الحزب رغم إغراءات الخيار لبنيامين نتنياهو الواقع في ورطة قانونيّة وسياسيّة. المقاومة تردع العدوّ على مدار الساعة كما لم يُردع من قبل. وهذه الحقيقة يجب أن تكرّرها كل وسائل الإعلام لأن أي منطق مغاير يخدم العدوَّ.
يكرّرُ قائد الجيش اللبناني الحالي، كما كرَّرَ من قبله ميشال سليمان وجان قهوجي، أن الجيشَ «على جهوزيّة كاملة» لمواجهة أي عدوان من إسرائيل. لكن هذا غير صحيح؛ لقد قالَ هذا الكلام من قبل ميشال سليمان قبل عدوان تموّز، واختفى سليمان عن السمع ـــــ وعن الجبهة ـــــ بمجرّد نشوب الحرب، أي أنه خدعَ الشعب اللبناني ولم يُصدِقه القول. واليوم، يكرّر قائد الجيش نفس المقولة؛ الجهوزيّة ليست رغبة أو عاطفة إنما هي عمليّة معقّدة من التدريب والإعداد والتسليح. طبعاً، التسليح غير وارد لأن الحكومة الأميركيّة تمنع اليوم ـــــ كما منعت في السنوات الماضية ـــــ أي تسليح قوي ورادع للجيش لأنها تريد للعدوّ أن يحفظ قدرته على التجسّس على لبنان وعلى ضربه متى أرادَ.
يمكن لـ«إل. بي. سي» و«إم. تي. في» وغيرها وصل صفحاتها على «تويتر» مع المتحدث باسم جيش العدوّ
لا، لقد تجاوز جوزيف عون خطاب ميشال سليمان عندما صرّحَ للزميل نقولا ناصيف في هذه الجريدة قبل أسابيع أن سبب نقص السلاح الرادع للجيش هو ثمنه وليس الفيتو الأميركي. إذا كان قائد الجيش غير عالم بالسياسة الأميركيّة الرسميّة حول الموضوع وبالمداولات العلنيّة في الكونغرس حول تسليح الجيش، فهذا يعني أن زياراته الثلاث إلى واشنطن لم تكن مفيدة له بتاتاً، وأنه يفتقر إلى حدّ أدنى من معرفة السياسة الخارجيّة للدولة التي يعتمد عليها للتسلييلح الانكشاري للجيش اللبناني. إن سياسة منع السلاح القوي عن الجيش (من أميركا ومن أي كان بالنسبة إلى أميركا) هي سياسة رسميّة ومعلنة.
ولنفترض أن الثمن هو السبب، فكيف يقول عون للشعب اللبناني إن الجيش «على جهوزيّة» ضد أي عدوان إسرائيلي (وهو يتحدّث عن ذلك بالعربيّة فقط وليس بالإنكليزيّة أثناء زياراته إلى واشنطن) بغياب السلاح الرادع؟ هل الجهوزيّة تكون برشاشات «إم. ١٦» أم بطائرات رش المبيدات التي تمنحها الحكومة الأميركيّة ويهلّل لها الجيش بصورة مبالغ فيها كثيراً؟ إن الحديث عن جهوزيّة الجيش يُضلِّل الشعب اللبناني ويساهم في دعاية العدوّ وراعيته الأميركيّة أن سلاح المقاومة لا جدوى منه ويجب نزعه. وهل يظن قائد الجيش أن أميركا ستسمح للبناني باقتناء طائرات مقاتلة لو كان ثمن هذه الطائرات بحوزته؟
هناك حرب دعائيّة إسرائيليّة جارية وهناك مساهمات لبنانيّة محمومة فيها. هناك وسائل إعلام لبنانيّة، مثل محطة «إل. بي. سي» و«إم. تي. في» و«ليبانون ديبيت» و«ليبانون فايل» وغيرها، تتعامل مع دعاية العدوّ على أن عند نتنياهو ـــــ لا جهينة ـــــ الخبرُ اليقين. وصفحات هذه الوسائل وغيرها من وسائل الإعلام اللبنانيّة تنقل كل زعم إسرائيلي له علاقة بلبنان أو فلسطين فوراً ومن دون تدقيق أو تريّث أو تمحيص، أي أن العدوّ الذي كان يعتمد في دعايته ضد لبنان في سنوات الحرب على «صوت لبنان» وجريدة «العمل» (كانت وسائل الإعلام تلك تعمل بإشراف إسرائيلي مباشر كما بتنا نعلم اليوم) بات اليوم يعتمد على وسائل إعلام لبنانيّة متعدّدة تنقل أكاذيبه ومزاعمه على مدار الساعة. يمكن لـ«إل. بي. سي» و«إم. تي. في» و«ليبانون ديبيت» وصل صفحاتها على «تويتر» مع صفحة المتحدث باسم جيش العدوّ لأن التغريد متطابق بينهما عن لبنان وحدوده الجنوبيّة.
لكن هناك ما هو أخطر: هناك جهد خبيث لجعل المتحدث باسم الجيش العدوّ باللغة العربيّة (الذي لا يجب أن يكون اسمه معروفاً بيننا والذي يجب التعامل معه بالتجاهل المطبق حسب أصول بديهيّات المقاطعة) شهيراً ومؤثّراً. تحتاج محطة «أو. تي. في»، التي تجاهر بالعداء ضد إسرائيل وتناصر حق المقاومة، أن تجري تحقيقاً في إمكانيّة حدوث خرق خطير في طاقم إعداد نشرتها الإخباريّة لأن هناك فيها مَن يحرص على نقل يومي كامل لكل ما يصدر، بالصوت والصورة والفيديو، عن هذا المتحدث الصفيق للعدوّ. هذا النقل، لو بغرض الدحض، هو مساهمة أكيدة في نشر دعاية العدوّ الحربيّة.
لكن ما حدثَ على مدى الأسابيع الماضية كشفَ ليس التعاون الذي تقوم به أجهزة إعلام لبنانيّة وفريق سياسي لبناني لا يمانع في مدّ العدوّ بما يحتاج إليه من خطاب مترافق ضد المقاومة فقط، بل كشفَ أيضاً تواطؤ قوّات «يونيفيل» في خدمة الاحتلال. من المعروف أن فكرة «يونيفيل» بحدّ ذاتها لم تكن نصراً لبنانيّاً من بنات أفكار غسّان تويني الديبلوماسيّة في سنوات عمله في الأمم المتحدة حينما زها بالقرار ٤٢٥ الذي لم ينقذ لبنان يوماً. إن فكرة نشر قوّات أجنبيّة على أرض لبنان كانت إسرائيليّة ــــ أميركيّة وتهدف إلى وضع عقبات أمام عمل المقاومة في جنوب لبنان. وفي الأسابيع الأولى لنشرها في ١٩٧٨، اغتالت قوّات فرنسيّة الرفيقيْن، «إيهاب» و«راجي» من «جبهة المقاومة الشعبيّة لتحرير لبنان من الاحتلال والفاشيّة»، التي كان «حزب العمل الاشتراكي العربي» قد أطلقها بعد اجتياح ١٩٧٨. إن هدف هذه القوّة الأجنبيّة، التي تتسرّب تقاريرها بعفويّة شديدة إلى العدوّ، هي التجسّس على أهل الجنوب ومقاومته ورصد محاولة تشكّل قوى مقاومة ضد العدوان. أما في المقلب الآخر، فإن هذه القوّة لم تعرف تجربة واحدة في ردع العدوّ أو حتى إدانته والتنديد بخروقاته المتواصلة في الجنوب. وقد مرَّ خبر مساهمة قائد القوّة السابق لـ«يونيفيل» في احتفال رسمي في دولة الاحتلال دون ردود فعل قويّة في لبنان.
لقد شكّلت «يونيفيل» شبكة من العلاقات والمصالح الماديّة والتجاريّة في جنوب لبنان ـــــ بعضها في حركة «أمل» وبعضها خارجه ـــــ وهذه الشبكات تساهم في ديمومة دور هذه القوّة وعرقلة أي محاولة لمساءلة دورها وتنسيقها وتعاونها مع جيش الاحتلال. لقد أخطأ لبنان عام ١٩٧٨ بقبوله هذه القوّة، لكن الحكم آنذاك، أي حكم إلياس سركيس، كان متعاوناً بالكامل مع «القوّات اللبنانيّة» وراعيتها في تل أبيب (كان الحاكم الفعلي أمنيّاً وعسكريّاً في العهد هو جوني عبده الذي حوّل بيته خارج بيروت إلى نزل ضيافة لأرييل شارون، كما أن خبر زيارته مزرعة شارون في النقب المحتل تسرّب أخيراً بعد نشر أجزاء من ملحق تقرير «لجنة كاهان»). لقد سارعت «يونيفيل» في غضون ساعات قليلة هذا الأسبوع إلى تأكيد صحّة مزاعم العدوّ عن وجود أنفاق على الحدود اللبنانيّة. أي أن القوّة التي لم تؤكّد مرّة واحدة أخبار الخروقات التي تفوق المئة والخمسين في الشهر وجدت ضرورة في تأكيد مزاعم الأنفاق. ثم كيف عرفت تلك القوّة أن تلك الأنفاق لم تكن من عمل العدوّ من أجل تعبئة الرأي العام العالمي (وبعض اللبناني) ضد المقاومة في لبنان؟
أما عن الأنفاق، فيحقّ للشعب اللبناني أن يزهو بوجود أنفاق ضروريّة للدفاع عن لبنان في حالة الحرب، كما أن الأنفاق من ضرورات أي عمل عسكري للمقاومة أو لأي جيش. وينطبق على الأنفاق (كما على سلاح المقاومة) نظريّة الصراصير، أي مقابل كل صرصور تراه، هناك مئات الصراصير القريبة أو البعيدة. ومقابل كل نفق يجده العدوّ هناك مئات الأنفاق لا يراها. والعدوّ يضرب في دعايته كل بديهيّات المنطق والعمل العسكري. لقد استعانَ «غيتو» وارسو بالأنفاق ضد الجيش النازي ولم يحكم أي من المؤرّخين على تلك التجربة بأنها شكّلت حالة من الإرهاب العالمي. لكنْ هذا عدوّ يشيطن طائرات الورق والبالونات ويسمّيها بالإنكليزية «أجهزة حارقة».
التعامل اللبناني مع الدعاية الإسرائيليّة المحمومة تراوح بين الضعف والتواطؤ، وقد أحسن حزب الله في تجاهل دعاية العدوّ لأن هذا هو واجب دولة تعاني من احتلال وعدوان دولة إسرائيل. كان يجب على الحكومة اللبنانيّة أن تتعامل مع الدعاية بالتجاهل نفسه. سعد الحريري استنكر «لهجة» إسرائيل—اللهجة فقط. وهل العدوان والاحتلال ليسا مشكلة وباتت المشكلة في لهجة إسرائيل؟ ماذا لو أن سياسيّاً فرنسيّاً استنكر «لهجة» ألمانيا النازيّة في سنوات احتلال فرنسا في الحرب العالميّة الثانية بدلاً من التنديد بالاحتلال بحد ذاته؟ وكيف أصبحت مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وقرية الغجر نسْياً منسيّاً في الحياة والخطاب السياسي اللبناني؟ (على العكس، إن فريق ١٤ آذار وتوابعه في الإعلام يصرّ على إهداء مزارع شبعا إلى العدوّ بحجّة أنها سوريّة. حسناً، لننسَ شبعا، ماذا عن قرية الغجر وتلال كفرشوبا؟ كان فؤاد السنيورة قد وعد أن انسحاب العدو من قرية الغجر سيتم بالنضال الديبلوماسي، وهو جارٍ على قدم وساق!).
لقد قدّم لبنان شكوى ضد العدوّ في الأمم المتحدة كما أن جبران باسيل ذكّر بخروقات العدوّ اليوميّة ضد لبنان، لكن حجّة باسيل ضد إسرائيل باتت ضعيفة بعد تصريحه الشهير لـ«الميادين» بأن تيّاره لا يكنّ «أيديولوجيّة عداء» ضد إسرائيل. والرئيس اللبناني بات وحيداً بين كل الحكام العرب في التذكير الدائم بجرائم إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني. لكن تصريح ميشال عون الأخير أن لبنان لا يريد العدوان ضد إسرائيل لم يكن مناسباً في الرد على تهديد إسرائيل. إن لبنان بلدٌ محتلّ وهو يجاور بالجغرافيا القسريّة دولة احتلاليّة لم تتوقّف عن ارتكاب جرائم حرب ضده منذ ١٩٤٨. إن كنَّ لبنان للعداء ضد إسرائيل هو واجب وطني، كما أن العداء الفرنسي ضد ألمانيا النازيّة كان واجباً وطنيّاً بعد أيّام فقط من الاحتلال، فما بالك بعدوّ يجثم باحتلاله منذ ١٩٤٨؟ إن خطاب التهدئة التي تريده الدولة لا يجب أن يترافق مع خطاب نفي العداء ضد إسرائيل.
شكّلت «يونيفيل» شبكة من العلاقات والمصالح الماديّة والتجاريّة في جنوب لبنان لاستمرار ديمومتها
وهناك مَن زاد على خطاب العدوّ بأن طالب (كما القوى الانعزاليّة المنضوية فيما كان ١٤ آذار) بالتحقيق في وجود الأنفاق وبالردّ على مزاعم العدوّ (هناك من نفى أن تكون دوافع نتنياهو سياسيّة فيما تحدّثت الصحافة الإسرائيليّة والأميركيّة، وبعض ساسة العدوّ، عن دوافع سياسيّة لرئيس حكومي متورّط في فضائح فساد). ثم هل لبنان يجب أن يخجل من الأنفاق؟ لو أن المقاومة الفلسطينيّة أعدّت العدّة لاجتياح ١٩٨٢ ـــــ وهي التي كانت تعرف بحتميّة قدومه ـــــ،ما كان التقدّم الإسرائيلي آنذاك بهذه السرعة (خلقت حركة ١٤ آذار تاريخاً وهميّاً عن أداء المقاومة العلمانيّة في حينه من أجل نسب إنجازات المقاومة الهائلة إلى الدور الصغير نسبيّاً الذي لعبته الأحزاب اليساريّة والقوميّة في الثمانينيّات، بعد أن كانت قوى الحركة الوطنيّة قد انهارت على مستوى القيادة والقاعدة ــــ يكفي أن تنظر إلى المواقع السياسيّة الحاليّة لمعظم قادة الحركة الوطنيّة كي تدرك حجم المبالغات عن دور المقاومة العلمانيّة ـــــ على أهميّته وبطولته). لو أن لبنان الذي كان يعلك (بالتشارك مع ١٤ آذار) مقولة الشعب-الجيش-المقاومة أجابَ عن تساؤلات الأنفاق بالفخر بها وبحقه بالاستعداد لمواجهة محتملة مع العدوّ، لكان فوّت فرصة الدعاية الصهيونيّة. والذين يردّون بالطلب من المقاومة «عدم تقديم الذرائع» إنما يكشفون عن دورهم الحقيقي في عوْن العدوّ. كانت القوى الانعزاليّة في سنوات الحرب تردّد مقولة «عدم تقديم الذرائع للعدوّ» كأن العدوّ بحث يوماً عن ذرائع وهو الذي يخلق الذرائع متى يشاء. ثم لماذا يجهد كل صف الفريق الذي كان في ميلشيات إسرائيليّة في سنوات الحرب (واصبح في المجلس النيابي اليوم) في الطلب لعدم تقديم ذرائع للعدوّ؟.
لقد أصبح اسم محمد قرياني منتشراً على مواقع التواصل الاجتماعي وزها به لبنانيّون ولبنانيّات يسعين للبطولة في بلد تعزّ فيه البطولات في الوسط السياسي. وقرياني عبّرَ بعفوية عن شعور بالعنفوان يشعره كثيرون في الجيش اللبناني. لكن الاحتفال بهذه الحادثة (أو برشق الرصاص في حادثة العديسة الشهيرة التي حوّلها ميشال سليمان في تحدّ للعلم العسكري إلى استراتيجيّة دفاعيّة للبنان) يضلّلُ اللبنانيّين ويشوّهُ طبيعة عمل المقاومة وعمل الدفاع عن لبنان. يستحق لبنان أن يزهو بكل عمل بطولي فردي من عناصر وضبّاط الجيش اللبناني الذين تربّوا على عقيدة عسكريّة مضادة للعقيدة التي تركها فؤاد شهاب والتي كان ملؤها الذل والمهانة والاستكانة والاستسلام بوجه العدوّ. لكن الاستراتيجيّة الفعّالة ليست عملاً فرديّاً، وهي تحتاج لتضافر جهود في مختلف القطاعات العسكريّة وتحتاج أيضاً إلى تعبئة شعبيّة ليست موجودة حاليّاً في لبنان، كما تحتاج إلى تعاون مُعلَن مع المقاومة. وخطاب القيادة في الجيش، خصوصاً الاحتفاليّة المفرطة عند وصول طلقات رصاص أو ذخيرة للجيش اللبناني من الحكومة الأميركيّة، يُشوِّه طبيعة المعركة المنشودة ويخلق بديلاً وهميّاً عن عمل المقاومة التي أثبتت جدواها في أكثر من مفصل، والتي كان أداؤها في حرب تمّوز أفضل مواجهة مباشرة بين أي جيش عربي ـــــ والمقاومة ليست جيشاً ـــــ وبين جيش العدوّ.
قبل أيّام فقط تبجّح نتنياهو بالقول: «يتم هنا تطوير صواريخ هجوميّة تستطيع أن تصل إلى أي مكان في المنطقة وإلى أي هدف. هذه هي القوّة الهجوميّة التي تمتلكها إسرائيل». ووزير في حكومته أكّدَ أن تدمير لبنان لا يعني حزب الله فقط بل يطاول البلد وأهله. وقادة العدوّ درجوا على تهديد لبنان بالعودة إلى التاريخ السحيق. وقد جدّد سفير دولة العدوّ تهديده من منبر مجلس الأمن. والجامعة العربيّة التي تسارع إلى الاجتماع بأمر أميركي لتحريم وتجريم كل حركات المقاومة لم ترَ أنها معنيّة بتهديدات نتنياهو التي تتعلّق بكل دولة عربيّة وبأمنها. والحكومة اللبنانيّة تظنّ أن التهدئة تتطلّب تجاهل تهديدات صفيقة موجّهة إلى لبنان وشعبه. لكن التهويل الإسرائيلي دليل ضعف أكثر مما هو دليل قوّة؛ هو ليس دليلاً على وجود خيار عسكري حربي بل العكس. والأنفاق لا يجب أن تثير القلق بل الارتياح، لأن هناك من يستعدّ للمواجهة متى خطرَ للعدوّ أن يعتدي على لبنان: «عمِّق الحفرة، يا حفّار».
اسعد ابو خليل
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)