كان اعتقال 1988 يريد أن يمسح سنوات 1969- 1973 التي كان عزيز السيد جاسم يتعاون فيها مع القيادي البعثي الراحل عبدالخالق السامرائي لإيجاد امتزاج محتمل ما بين الفكر الاشتراكي العلمي والفكر القومي الذي مازال ولغاية تاريخ لاحق ضبابياً مسكوناً بالشعارات وكذلك بالمتطلبات الآنية التي تمليها ذرائعية الظروف .وضاعت المحاولة مع اعتقال عبدالخالق السامرائي في صيف 1973 ومن ثم تصفيته وهو في السجن مع مجموعة كبيرة متضامنة مع أفكاره سنة 1979 تمهيداً للدخول في حرب مع إيران وإعلان حتمية القائد الوحيد الأوحد في ضوء ما اتفق عليه القائد الأوحد مع مجموعة مثقفية الجدد بقيادة طارق عزيز وعضوية عبدالجبار محسن وآخرين .وكانت ثمرة مجهود النخبة الجديدة (نظرية العمل البعثية) التي تعنى أولاً وأخيراً بالمتطلبات المستجدة وبما يراه (القائد الضرورة) من مستلزمات لإدارة الحكم .وستكون تسمية (القائد الضرورة) هي الختم النهائي على أيّة حوارات فعلية داخل التنظيم أو الدولة.
تنظيف البيت
مع هذا المشروع جرى حذف ما جرى من قبل، ومسح مجهودات عبدالخالق السامرائي .وكان أن منعت كتب عزيز السيد جاسم، ووضع بعضها في دائرة التداول المحدود لدى المكتبة الوطنية حصراً .ومنع ما عداها .وأصدرت دائرة رقابة المطبوعات أمرا بهذا الصدد سنة 1977 .ومثل هذه العتبة مهمة، لا لأن كتاب رقابة المطبوعات سيكون من بين (أوليات) التحقيق سنة 1988 في مبنى مديرية الأمن العامة (الطابق الثاني، الشعبة الخامسة) مقابل القصر الأبيض، شارع النضال المتفرع من ساحة الأندلس ببغداد .ولكن لأن الأمر الرقابي يفصح عن الذعر الذي طال وزارة الإعلام إزاء تحديات الدوائر الأمنية التي تريد أيضاً إدانة الجهاز المعلوماتي برمته .فكان أن دافعت الوزارة عن نفسها بإعلان نظافتها من هذه الكتب .إن (نظافة) المؤسسة من الكتاب يعني ضمناً (نظافة) الخطاب من أيّ ترسبات محتملة خلّفها الفكر السابق.
كان عزيز السيد جاسم يذكر في أوليات التحقيق لعام 1988 (أي الأوراق التي تعد أمام لجنة التحقيق) تاريخه السابق، وعبثاً أشار إلى السنوات التي وضع فيها دراسات مهمة كانت بمثابة مسار اختطه الحزب الحاكم منذ سنة 1968، وأيده وشارك فيه المفكر الراحل عبدالخالق السامرائي .وعبثاً جرى ذكر (الدليل في التنظيم) الذي وضع الخطة العملية لإيجاد حزب ثوري خال من التطلع الفوقي والانتهازية السياسية.
.و لم تكن لجنة التحقيق تريد ذلك، إنها تريد منه تبيان كيف التحق بالحزب الشيوعي ليتسنى تجريمه على ما كتبه سنة 1988 .جاءت قطيعته مع الحزب الشيوعي1961 .وكانت جريدة “اتحاد الشعب” الناطقة بلسان الحزب قد بدأت تنشر مجموعة من الردود القصيرة معنونة (إلى الرفيق موريس)، ترد فيها على ما تعدّه توجهاً يمينياً يعيد التفكير الأممي إلى خانة ضيقة من الوطنية والقومية .
المذكرة القاتلة
لكن لجنة التحقيق ليست معنية بذلك، إذ كانت تتخذ من التهم التي أوردتها مذكرة مدير المخابرات العامة الدكتور فاضل البراك دليلاً في التحقيق، وكان الدكتور البراك يريد تجريم عزيز السيد جاسم بموجب أمرين: الماضي الشيوعي، والكتابة في (الممنوعات) والمحرمات، ومنها كتابه (علي بن أبي طالب: سلطة الحق) .لم يقرأ الدكتور فاضل البراك ولا اللجنة هذا الكتاب .لكنهم أخذوا بالعنوان وظنوه متحيزاً إلى فئة واختصر عزيز السيد جاسم لهم ما يريدون قوله: تعلمون أني لم أكن معنياً بمثل هذه الترهات وحساب الطوائف .أنا أريد أن نقرأ التاريخ بموجب المادية التاريخية .ولم يفهموا ما يعنيه .لكن الظروف سارت في طريق آخر عندما انهارت إمبراطورية الدكتور فاضل البراك في أثناء ذلك الصيف من عام 1988 ومعه التهم والمتابعات التي طالت عزيز السيد جاسم.
ولكن من الوهم أن نظن أن التحقيق ومن ثم توقيف 1988 حزيران/تشرين الثاني، كان منقطعاً عن اعتقال عبدالخالق السامرائي وتصفيته .ففي عام 1977 كتب عزيز السيد جاسم مذكرته إلى صدام حسين عقب ما حلّ بالجبهة الوطنية والقضية الكردية .ويذكر الشاعر محمد جميل شلش الذي شغل قبل حين مدير عام الدائرة الثقافية، أن عزيزاً كتب في المذكرة ما يعني أن الثقافة في العراق آخذة بالاضمحلال والانحطاط والتحول إلى صحافة ساذجة غارقة في السطحية .وحمّل مجموعة من القياديين، أبرزهم وزير الثقافة والإعلام طارق عزيز، مسؤولية التسطيح .وصلت المذكرة إلى السيد النائب آنذاك صدام حسين، وتم تشكيل لجنة تحقيق يرأسها سكرتير صدام العقيد علي العبيدي .ويروي محمد جميل شلش أنه كان جالساً في بهو مبنى التحقيق، ولم يزل عزيز السيد جاسم مع لجنة المحققين التي ضمت أيضاً وزير الشباب آنذاك وخرج علي العبيدي من الغرفة ليتناول قرصاً مهدئاً، فسأله شلش عسى أن يكون السبب خيراً: كيف ذلك وعزيز السيد جاسم يجيب بأن البرهان الأمثل على انحطاط الثقافة هو وجود لجنة تحقيق عسكرية .ويضيف العقيد العبيدي أنه يقول ألا يكفي دليلاً أن تكون أنت العقيد من يحقق مع المثقفين؟
سنوات الاعتقال
ولكن، لنعد إلى سنوات الاعتقال الأولى في مطلع الستينات، فبقدر ما كانت تلك السنوات تقرّب بين عزيز وبعض قادة البعث من أمثال نعيم حداد وصلاح عمر العلي، منذ 1963، فإنها نفعته في التباعد عن الاحتراف السياسي وجادته التنظيمية .وكانت قراءاته الواسعة قد تزايدت حينذاك .وغالباً ما كانت الكتب الممنوعة تصله مهربة .وأخذ يلتقي الشباب المثقف من بغداد الذين أخذوا بالتقاطر على مدينة الناصرية، وناحية النصر مسقط رأسه .كان أبرز هؤلاء الشاعر عبدالرحمن طهمازي .كان منزل ملاّ رشيد، في مدينة الناصرية هو ملاذه أيام الأزمات، وفي أغلب الأحيان يتخذ من فندق الأمة لابن ناحية النصر شريف المعيوف مقراً له في الذهاب والإياب .أما مصادره في المعلومات والأخبار فكانت عديدة، أطرافها أبو أحمد صاحب مقهى صغير قبالة فندق الأمة ولكن على يساره بأمتار .كانت القراءات تكتنز أكثر فأكثر، وغالباً ما كان يتحاور مع هذه القراءات تذييلاً وملاحظةً أو دراسةً.
وينهل في هذه الكتابات من تجربته العملية، ولهذا فالمطالع لمقالاته منذ 1963 في الصحف وفي مجلات الآداب البيروتية والطريق اللبنانية، والكلمة العراقية وكذلك الأقلام التي كانت محافظة في بداية نشأتها سنة 1964 يدرك أن عزيزاً أخذ يختط طريقاً مستقلاً، فيه انتمائية إيجابية للوجودية فلسفةً .ولم تجمع إلا بعض هذه المقالات لتظهر في كتاب عام 1970 بعنوان “دراسات نقدية في الأدب الحديث” (بغداد: مطبعة الإدارة المحلية) .كان العراقيون قد تركوا السجون والمعتقلات يأكلهم الألم وتأنيب الضمير .إذ كان موسم البراءات طويلاً امتد منذ أيام الزعيم عبدالكريم قاسم سنة 1962 ولم ينته في عام 1964 .كان لا بد من نشر براءة دبجتها مديرية الأمن العامة منذ أيام مديرها ابن الناصرية المدير بهجت عطية الذي ساءت سمعته كثيراً بين العراقيين جراء احترافه لمهنة المتابعة السياسية وملاحقة الخصوم والتسلل في صفوفهم .تقول تلك الديباجة: إن الشيوعية فكر هدام وإنها كفر وإلحاد، وأن الموقع يتبرأ منها لهذا السبب .كانت البراءة بعباراتها الجديدة عن الكفر والإلحاد تتمة واستجابة لما أعلنه المرجع الشيعي الأعلى آنذاك حجة الإسلام السيد عبدالمحسن الحكيم الذي نشر فتواه في كل مكان سنة 1960، واعتمدها الزعيم قاسم في ملاحقة الحزب الذي استمر مدافعاً عنه حتى صبيحة 8 شباط 1963!
كان الخارجون من السجون يشعرون بالضعف والخجل، فالأقوياء ماتوا تحت التعذيب .وكان شعور الناس أن الذين تبقوا منهم لم يعودوا قادرين على حماية أنفسهم من أنفسهم، من تقريع الضمير وعيون الاتهام التي كانت تواجههم في منازلهم وبين أهليهم.
هذا الظرف السياسي سيطال البعثيين سنة 1964، ولهذا علينا أن نقرأ ثقافة العراقيين في ضوء مشكلات أخذت بالتوالد منذ سنة 1958 عندما أدركت القوى السياسية أنها قادرة على الإعلان عن نفسها وكشف تنظيماتها .لكن الذي لم تدركه أن قيادتها بقيت (مثقفة) عاجزة عن تأمل الواقع الاجتماعي والعرقي والديني للمجتمع العراقي.
الشخصية العراقية
كانت ثلة من مثقفي العراق تسعى لبلوغ ذلك الواقع والكتابة عنه .وكان عزيز أحد هؤلاء وظهرت مقالته في هذا المجال سنة 1965 في مجلة (الأقلام) ليناقش فيها عالم الاجتماع الدكتور على الوردي ونظريته المشهورة حول ازدواجية الشخصية العراقية .من المنطقي أن يعارض عزيز ثنائيات الوردي التي اعتمد فيها على ما كان شائعاً لدى أنثروبولوجيي جامعة شيكاغو في الأربعينات من القرن الماضي .أما بالنسبة إلى عزيز السيد جاسم، والذي لم يزل شاباً عجنته التجربة وعركته المعتقلات ولجان التحقيق، فإن الثنائية البنائية لا تستقيم أمام المكونات المتعددة للشخصية لا سيما في مجتمع مبني على مجموعة تعددية هائلة تجعل اختزاله ما بين بداوة وحضارة أمراً مجحفاً وإن بدا مستساغاً ولذيذاً لما فيه من لوم وتقريع تستقبله الجماعات المقموعة بتلذّذ بينما تجد فيه الفئات النافذة تعويذة الخلاص من المسؤولية الإدارية والسياسية والاقتصادية.
وليس مستغرباً أن تبدو (الوجودية) مدخلاً لحرية الإنسان وديمقراطية العلاقات والبنى، وظهرت مقالاته تباعاً عن الانتماء والوجودية والالتزام ومسؤولية الشاعر، وكولن ولسن، وكامو، وسارتر، وغيرهم .ومن تلك الزاوية أيضاً كانت قراءة المكّون الشعري في قصائد جماعة الستينات والخمسينات من القرن العشرين من أمثال بلند الحيدري وسعدي يوسف وآخرين .وظهرت أيضاً دراساته في الغربة والاغتراب في مجلة الآداب في الستينات من القرن الماضي .وتميزت تلك السنوات بالكثافة في النشر، وضاعت عشرات أخرى في أدراج جريدة صوت العرب البغدادية، ومن بينها بالإضافة إلى المقالات الأدبية، ثلاثون حلقة من “مذكرات عربنجي”، أي عربكي، احتفظ بها رئيس التحرير فوزي عبدالواحد في درج مكتبه لحين أن يرى ما الذي يفعله بشأنها حتى جاء موعد تأميم الصحافة وغلق الجريدة وضياع ما لديها من مقالات .وظهرت إثر ذلك صحف المؤسسة العامة للصحافة، ومنها جريدة الثورة العربية التي ترأس تحريرها في نهاية 1967 الأستاذ حازم مشتاق وكان مدير تحريرها الأستاذ معاذ عبدالرحيم، من مؤسسي البعث في الناصرية .وكان معاذ قد ترك العمل السياسي، ووجد فيه القوميون إمكانية صحفية نافعة .وظهرت مقالة لعزيز السيد جاسم عن أهمية الجبهة الوطنية وماهية القوى السياسية الفاعلة .وكان لا بد من أن يهمل تماماً الأحزاب التي أخذت بالظهور في نهاية حكم عبدالرحمن عارف، ومنها الحزب الثوري الذي يديره عبدالرزاق النايف مدير الاستخبارات العسكرية والرجل المتنفذ في عهد عبدالرحمن عارف والند الفعلي لعارف .وضم الحزب آنذاك البعثيين السابقين من العاملين في الصحافة ومن بينهم تحسين السوز وسامي فرج وكلاهما من أبناء محافظة الناصرية .وكان الحزب الثوري منزعجاً من الدعوة للجبهة، ولم يدر بخلد أحد أنه، أي الحزب، كان يخطط لانقلاب قادم.
محطة جديدة
وجاء انقلاب 1968 الذي شارك فيه البعث والنايف بمثابة محطة جديدة في تاريخ العراق، فالنخبة (اليسارية) داخل البعث رأت الفرصة قادمة لتغيير مسار 1963 .وكان عبدالخالق السامرائي يقود ذلك بهدوء (الملا) كما كانوا يسمونه لما عرف عنه من عفة وتقشف ووعي ذهني حاد وإخلاص مفعم بحب الناس وتمييز الخبيث من الطيب .كان (أبو دحام) الصديق المناسب الذي يبحث عن صديق مماثل، كان لقاء عزيز وعبدالخالق أهم نقطة عمل وتحول في تاريخ الاثنين، وكذلك في تاريخ الحركة السياسية .تم ذلك سنة 1969 بعدما دعا عبدالخالق وصدام عزيزاً رسمياً للقدوم إلى بغداد .كان اليسار العراقي يسمع عن عبدالخالق السامرائي، ولكنهم ليسوا على اطلاع كافٍ بالذهنية الجديدة التي جاء بها عبدالخالق السامرائي بعد 1963 ولعل من مصادفات الأحزاب المعروفة أن يتحول المريد ضد أستاذه، كما فعل صدام إزاء عبدالخالق .ولكن علينا أن ندرك أن صداماً تلبّس حينذاك حلةً لينينية، كما تبين بعد حين .أما عبدالخالق السامرائي فكان تحوله الفكري عميقا خلال فترة عكف فيها على قراءة الفكر العربي والثقافة والتمعن في خصوصية العراق .كان عزيز قد أعلن تحوله من (الأممية) نحو قومية- ماركسية معنية بالماهية الاجتماعية والعرقية للتكوين العراقي والعربي، ومنذ سنة 1961 (أي انشقاقه النهائي عن الحزب الشيوعي العراقي) كان عضو اللجنة المحلية في الناصرية قد عاش مرحلة فكرية جديدة، سيحافظ عليها كثيراً بعد حين، ويسبغها على كل أفكاره التي بدت تتخذ مسحة (صوفية) بعد حين .كان عبدالخالق من الجانب الآخر مأخوذاً بكيفية تحويل (البعث) من ضبابية الفكر والشعار إلى حزب ثوري طليعي .التقى الاثنان سنة 1969، وتحديداً في مطلع ذلك العام، وبدأ اللقاء يتخذ منحى يومياً، كلاهما يتخفف إزاء الترف المادي وبيروقراطية الإدارة، كلاهما يرفض أن يضع ربطة عنق أو يتشبه بالأفندية .وكانت المقالات التي تظهر في تثقيف البعثيين تحمل بصمات الاثنين، وهي تشدد على الطهارة الثورية، والعفة، الطليعية الثورية، وحرية الرأي، والديمقراطية المركزية في التنظيم .بقي عزيزاً شريكاً لعبدالخالق في كل ما أنتج وهو غفل من اسم. علينا أن نتذكر أن صدام حسين كان آنذاك يطرح نفسه كمثقف طليعي، ثوري، حتى أنه كتب مقالة نشرتها مجلة الغد التي يرأس تحريرها عزيز بعنوان “خندق واحد لا خندقان” كان مأخوذاً بالفكر اللينيني، لكنه لم يكن قادراً على تقبل الآخرين .واتصل مرة بعزيز السيد جاسم ليطلب منه لزوم تعليم البعثيين المركزية، لأنهم لم يألفوا الدولة العصرية بعد.
وظهرت فعلاً على صفحات المجلة الداخلية للبعث (الثورة العربية) مقالة بعنوان “المركزية الديمقراطية” .ويذكر عزيز أن عبدالخالق لم يكن راضٍياً عن ذلك، لأنه، وهنا بيت القصيد، كان يرى رغبة صدام حسين الدفينة في الاستئثار التدريجي بالسلطة .كان صدام يذكر لعزيز السيد جاسم أن البعث لم يرق بعد إلى (الديمقراطية المركزية) وهو بحاجة إلى (مركزية أشد) .لم يكن عزيز منخرطاً في البعث .وعندما عرض عليه عبدالخالق عضوية شرف كجواز مرور مؤقت رفضها عزيز بعد حين، أي بعد سجن عبدالخالق في نهاية ربيع 1973 .إذ اتصل به مسؤول المكتب الشاعر كمال الحديثي الذي تشكل على أنقاض عبدالخالق، عارضاً عليه الاجتماع .أجابه عزيز “لم أكن عضواً ولم أجتمع يوماً” .وبالفعل كانت لقاءات عزيز ذات طبيعة رهبانية مع عبدالخالق السامرائي، ويكفي أن نشير في التدليل على العلاقة المتينة بين الاثنين، عبدالخالق وعزيز، أنه ليلة اعتقال عبدالخالق لم تجد عائلة السامرائي من تلجأ إليه للسؤال عمّا جرى غير عزيز، ولم يكن لدى عزيز ما يقوله للزعيم ناجي (رفيق عبدالخالق) وسائقه وابن أخته .إذ كان ينتظر خروج عبدالخالق من الاجتماع، وكان في سيارة مع الدكتور إلياس فرح، عندما علما أن عبدالخالق اعتقل أثناء اجتماع القيادة القطرية!
لم يكن هناك ما يقال، لكن عزيزاً ذكر لاحقاً هواجس عبدالخالق من حركة مريبة جارية .وكان ناظم كزار يتكرر على مختلف المرافق الرئاسية والقيادية .وكان وثيق العلاقة بصدام .وأغلب الظن، وهو ما تذكره الوثائق الروسية، أن الطبخة كانت معدة للخلاص مع طاقم كبير من العسكريين، ومعهم الرئيس أحمد حسن البكر .أما لماذا زج عبدالخالق السامرائي في ذلك، فلأنه اطّلع على سر التواطؤ بين صدام وكزار (مدير الأمن العام) للخلاص من العسكريين .لم يكن عبدالخالق يقبل بأي أسلوب اختراق عدا ما يقرر داخل الاجتماعات القطرية التي يعدها سبيلاً للحوار .وعندما سئل عبدالخالق في مرة من المرات لماذا نشر مجموعة مقالات بتوقيع (رفيق)، قال: إنه لم يحصل على موافقة الحزب على هذه المقالات ليكتبها باسمه.
لم تكن معرفة عبدالخالق بميل صدام للاستحواذ والسلطة جديدة، لكن السنوات الأولى بعد انقلاب 1968 تكشفت عن أمور كثيرة .وعلى خلاف ما يعتقد، كان السامرائي وعزيز على علاقة حسنة تماماً مع أحمد حسن البكر والذي كان يطمئن إلى رأي الاثنين بشأن:
1- التأميم المرحلي لمنع الاختناق المادي وظهور نزعات استئثارية تقود إليها الوفرة المادية السريعة، ومن بينها الغرور والصلف والعسكرتارية.
2- المضي التدريجي في التحول الاشتراكي، والإصلاح الزراعي، والتصنيع.
3- بناء هيكلي للدولة يضمن الثبات المؤسساتي ويحمي المواطن والمجتمع المدني.
أما على الصعيد العام، فيتلخص المشروع المتفق عليه بـ:
1- اعتماد الجبهة الوطنية التقدمية جادة طريق وغاية.
2- منح الأكراد حقهم الطبيعي في الحكم الذاتي.
3- احتضان الوحدة العربية مفهوماً اقتصادياً قبل أن تكون مشروعاً سياسياً، والسعي لإيجاد سوق عربية مشتركة تتكامل فيها الاحتياجات العربية.
- السعي نحو الوحدة السورية-العراقية.
ولهذا كانت اجتماعات القيادة القطرية تتجه نحو هذه الأفاق، بينما كانت مقالات (الثورة العربية) تتقصى الممكن في تحويل ثقافة البعثيين من بقايا مفاهيم صدامية مقاتلة للشرائح الوطنية إلى أخرى تحتضن أفكار الآخرين وآمالهم .لم يكن مدير الأمن العام ناظم كزار يؤمن بكثير من هذه الأفكار، وكان يعتقد بأن هذه مصيرها إلى الانتهاء .ولهذا مارس قمعاً دموياً حاداً للأطراف السياسية .وبلغت الاغتيالات مستوى جديداً لم يألفه العراقيون .وطالت هذه الاغتيالات مثقفين، وأساتذة جامعيين، وقيادات عمالية، وشخصيات دينية مرموقة.
من الجانب الآخر أخذت فئة الثقافة الجديدة داخل حزب البعث “تأتلف”، وترى لزوم الوحدة مع سوريا، وكان البكر موافقاً على ذلك .وضمت هذه الفئة كافة الوجوه القيادية والكوادر المعروفة التي أقدم صدام على تصفيتها نهائياً سنة 1979 تمهيداً للحرب مع إيران وشن العداء العلني على سوريا.
كانت تلك مرحلة مهمة لأنها العلامة الفارقة في تاريخ الثقافة العراقية وفي تاريخ العراق السياسي، بانتهائها منذ 1973 وتقهقرها التدريجي لغاية 1977 ومن ثم موتها سنة 1979 وابتلاعها ومعها رصيد العراق المادي في حرب إيران يكون العراق قد بدأ عداً تنازلياً.
ومرة أخرى، فإن الفكر العراقي لم يشف أبداً من تلك المحنة .ولم يكن قد أسس لنفسه تكوينات واضحة منذ 1958 .ويخطئ من يظن أن الأدبيات المختلفة تمكنت من تكوين مسارات فعلية قاطعة، كتلك التي تجعلنا نرسم بسهولة مسار النهضة الأوروبية، أو عصر التنوير أو الثورة الصناعية الأولى .وعندما يخلط المثقفون ودارسو التاريخ ما بين المؤسسات والبناءات الفعلية وسلالات نسبها وما بين الفورات الرومانسية، فإنهم يضعون على عيونهم ستاراً يحجب عنها الرؤية الدقيقة، فالنهضة في العراق لم تقم فعلياً منذ قرون .وما بدا تكويناً برلمانياً وسعياً تربوياً في التعليم وتطوير المدن وتوسيعها كان بعضاً من الأداء البريطاني وبالإفادة من طاقات عراقية طموحة .ولم ترتق تلك إلى درجة الرسوخ المؤسساتي والممارسة المنظمة للحياة المدنية .ولأن لهذا الأمر علاقة بما يدفع عزيز السيد جاسم لكتابة نصوصه السبعينية، دعونا نتوقف عند الملامح الشعبية والفكرية والاجتماعية السائدة في العراق لغاية انهيارات الأنظمة منذ 1963، وانتهاء باحتلال 2003 وتبعاته في الهدم النهائي للبنية العراقية.
ضبابية الفكر
غالباً ما يجري الخلط بين التخطيط التربوي للنظام التعليمي في العراق والذي شارك فيه، مع التباين في الاتجاه ساطع الحصري، فاضل الجمالي، سامي شوكت، وبين الفكر التربوي .إذ بقي الفكر التربوي مشتناً لا تجمعه نظرية أو سياقات واضحة المعالم ..وعلى الرغم من قدوم العديد من الموفدين من الخارج إلا أن الفكر التربوي بقي ضبابي الملامح .ومثله الفكر الاقتصادي على الرغم من أن عبدالفتاح إبراهيم وضع كتابه “الطريق إلى الهند” في الثلاثينات من القرن العشرين على أمل أن يتبنى حزبه (الوطني الديمقراطي) خطة واضحة اقتصادياً تضع البلاد على طريق التنمية ما بعد الكولونيالية .ولكن فكره وفكر محمد حديد، وكامل والجادرجي كان (ليبرالياً)، بمعنى الانفتاح على ثقافة السوق واقتصادياته، وهو ما سيجعل التناقض قابلاً للانفجار بين هذا الحزب والحزب الشيوعي العراقي .وأثمرت مساعي (مجلس الأعمار) في وضع خطة إعمار متكاملة لمشاريع إروائية واقتصادية سنة 1957، على أساس أن تكون إيرادات النفط المتوقعة قادرة على تلبية المشاريع المذكورة .كانت تلك الخطة إيذاناً مهماً باحتمالات تكاتف الفكر والتخطيط في إرساء قواعد تنمية ومؤسسات عراقية تحول دون بقاء محافظات العراق متفاوتة في حياتها الاجتماعية والمؤسساتية والاقتصادية .وظهرت، كتب مهمة في هذا الاتجاه، وهي كتب جاءت لسوء الحظ بعد انتكاس ذلك المشروع .ويبدو أن جميع ما أنجز أيام عبدالكريم قاسم وكذلك في بداية السبعينات من القرن الماضي كان بمثابة تحقيق جزئي لمخطط مجلس الإعمار المذكور .كان الاقتصادي العراقي محمد سلمان حسن هو الأبرز في وضع تصور لاقتصاديات النفط .وكان علي الوردي الأكثر ذيوعاً في قراءة مشكلة العراق الاجتماعية .لكنه لم يكن يقدم مشروعاً بديلاً، كما فعل مثلاً في كتبه في الخمسينات من القرن الماضي عندما ناقش “أسطورة الأدب الرفيع» و”وعاظ السلاطين” أما على صعيد الأدب، فقد تميز العراق بشعراء مبرزين معروفين جرت الكتابة عنهم دون تساؤل جاد في الأسباب الداعية إلى نهضة شعرية وفنية وقصصية دون مقومات أخرى واضحة المعالم الفكرية والثقافية .سيبقى السؤال مفتوحاً، ومعه أسئلة أخرى ستزداد حدة في السنوات القادمة.
فمع وأد (طليعية) بداية السبعينيات من القرن العشرين والاستئثار التدريجي لنظرية (العمل البعثية) وكذلك أسطورة (القائد الضرورة) يكون العراق قد عاد دورة أخرى إلى الوراء على الرغم من احتمالات النهضة في تكوين الدولة كمؤسسة قوية على حساب أفرادها .ومع ولادة هذه الأسطورة، ظهرت ثنائية التناقض ما بين (الدولة) كمؤسسة وما بين مفهوم (الجيش) المحارب .كانت ثنائية التناقض خطيرة لأنها تعني استحالة الجمع بين الاثنين، فآلة الحرب هي آلة خارجية، أي طارئة، على التكوين الداخلي للمؤسسة؛ وليس غريباً أن تنهار هذه البنية في أيّ صراع ثانٍ أو ثالثٍ، لسبب بسيط هو فقدان مرتكز هذه الآلة داخل الدولة .ويخطئ من يقارن ذلك بالإمبراطوريات التي تنشأ على أساس الجيوش المسلحة وتجارة الأسلحة .فالأخيرة تبني حضورها على أساس فعلها الخارجي (التوسع، الأسواق، صفقات السلاح، احتلال منابع الثروة)، وليس على أساس التكوين الداخلي للدولة الذي تحتاج إليه الدول الناشئة والوطنية.
فما الذي يفعله مثقف نذر نفسه للجمع بين الفكر (القومي) و(الماركسي) في مساقات لها أصداء لينينية ونفحات تروتسكية طارئة؟ كانت سنوات ما بعد 1977 هي سنوات حصاره، إذ أحيل على التقاعد بعدما نقل إلى وزارة الزراعة، كما نقل قبله الشاعر سعدي يوسف إلى وزارة الري .كانت العزلة المفروضة عليه منذ 1977 هي الوحدة الرهبانية التي جعلته يراجع مشروعه الفكري، وينقله إلى مجموعة من الآفاق المستجدة .إذ ترك جانباً ما كتبه عن مشكلات ثورات التحرر الوطني، وتطلعات فانون في فضح مشكلات البورجوازية الوطنية .فكل ما كتبه في الإصلاح الزراعي والمسألة الفلاحية والتأميم وعثرات الأحزاب (ثورية مراهقة، انتهازية، بيروقراطية ..إلخ) بدا شارات ولادة زائفة .وكان لا بد من مراجعة أخرى، لكنها مراجعة تبني على كتابين أساسيين من كتبه السابقة:
- الحرية والثورة الناقصة (1971).
2- مجموعته القصصية “الديك وقصص أخرى”؛ وكذلك رواية (المناضل) التي طلب السكرتير العام للحزب الشيوعي عامر عبدالله من عبدالخالق السامرائي إيقاف عزيز من نشر بقية أجزائها، وكان الحزب الشيوعي قد كلف رسمياً الناقد وعضو الحزب المتقدم آنذاك فاضل ثامر بنشر قراءة تكفيرية (على الصعيد السياسي) للرواية .وظهرت مطالعته في مجلة ألف باء التي يرأس تحريرها حينذاك الشاعر سامي مهدي.
والناصية مهمة لأن الأحزاب التقليدية، وقبيل اندفاعة الأحزاب الدينية، تمسكت بالمنظومة الذرائعية للحرب الباردة، فبدا مستهجناً أن يتحول المفكر ويعيد ترتيب أولوياته في ضوء المستجدات المحلية والقومية والعالمية .ولا غرابة أن يبدو هربرت ماركوز وروجيه غارودي وآخرين متهمين لخروجهم على التحجر والبيروقراطية التي نالت من الفكر الماركسي .ولم يَزل بعض مثقفي الأحزاب يعجزون عن فهم التحول الفكري الذي كان ينبغي أن يصبح المحرك الفعلي للعمل الثقافي والسياسي.
كان عزيز يتوقع مثل هذا التنكر بين صفوف (مثقفي) الأحزاب السياسية عندما كتب عن الموضوع في كتابه (الحرية والثورة الناقصة-الصادر سنة 1971) .يقول في الإشارة إلى ضعف الثقافة ما بعد الستالينية “هكذا، وبتحجر الثقافة أوقفت الإبداعات السوفيتية وعطلت الإمكانيات بميلاد فيلسوف سوفييتي .وكأن الفلسفة قد انتهت باللينينية .(راجع “الحرية والثورة الناقصة”، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1971، ص 61.) .ويضيف أن طرائق الخروج على التحجر عند الفلاسفة الاشتراكيين استبعدت تماماً حينذاك، مذكراً كيف أن ألتوسير أراد لفت الانتباه إلى المحنة من خلال مراجعة داخلية للفكر الاشتراكي .يقول “وعلى أهمية رأي (ألتوسير) بضرورة التعامل مع (لينين) كما تعامل (لينين) مع (ماركس)، فالوضع الراهن للثقافة داخل الاتحاد السوفييتي لا يسمح بذلك فحسب بل لأنه يندد بإعدام أي اتجاه أو بادرة تقود في طريق الرأي المذكور .ويضيف في تفسير ظاهرة (الخروج الفكري)، “وما حصل في بعض أوروبا الشرقية من اتجاهات لتكسير الحواجز المسماة (ستالينية) هو الظاهرة الطبيعية التي تعني الانزلاق مجدداً في انحدار الموجات البورجوازية والمتولدة بسبب الحجر الثقافي الواسع الذي يعني حجر المجموع داخل إطار متكلس وليس حجر الشواذ\’،.
كان ديدن عزيز في (الحرية والثورة الناقصة) وكذلك في القصص والرواية وما يليها من روايات (الزهر الشقي، والمفتون) هو إعلاء مفهوم الحرية .فلا ثورة، ولا فكر بدون رصيد مهم من الحرية، بكل مساقاتها وشروطها .وليس مستغرباً أن ينحاز المفكر المغربي عبدالله العروي في كتابه (مفهوم الحرية) إلى هذا الكتاب وهو يتأمل استرجاع عزيز لما يعده العروي انحيازاً لماركس الشاب .لربما كان الأمر كذلك، لكن عزيزاً كان مسكوناً بالحرية التي قد تذبح تحت شتى الشروط والأعذار والمسببات وسيعيد عزيز خلاصة أفكاره في حوار موسع أجراه معه الراحل فاروق البقيلي ولم يعثر عليه ثانية إلا في عام 1995 عندما نشر تقديماً عنه مشفوعاً بقصائد صوفية .بينما ظهرت أربع حلقات منه في جريدة البيان في دبي (الخميس 21 تشرين الثاني/نوفمبر 1996، ص 30) .كانت عتبة الحوار تقول:
(لقد ذبح الكبش فداءً
لإسماعيل ولكن لو ذبح
إسماعيل فما قيمة أن يذبح الكبش).
تحطيم الصنم
كان التساؤل يعيد مفهوم (الحرية) إلى بديهيات الفعل الفكري والسياسي، ويضع اللوم على السلطات التي تحول دون تغير فعلي في منظومة الدولة وشروط نجاحها في عالم تديره المعرفة والرأسمال .وبغض النظر عن البعد الأيديولوجي للعتبة المذكورة، فلأن تأصيلها لمفهومية الطقس الديني (طقس الفداء) لا ينبغي أن يغيب، إذ أن الطقس يسقط تماماً عند انقلاب المعادلة، وهو انقلاب تحقق فعلاً في ظل سلطة القمع قديماً وحديثاً .ولهذا يكتب في تقديم ملف أعدته عنه مجلة الأقلام العراقية سنة 1990 “من الأمور الأساسية التي لعبت دوراً مهماً في تخفيف المنهج المادي التاريخي الذي تأثرت به سابقاً ..شعوري بقيمة الحرية، وبخاصة حرية الفكر” (عزيز السيد جاسم، ملف خاص، مجلة الأقلام، تموز 1990، ص 111) . فبدون الحرية لا ينشأ الفكر، وعندما ينشأ معارضاً فإنه سيكون مثقلاً بهاجس المعارضة المبطنة التي تمنع عليه الإعلان وتلجئه إلى الاستعارة والمجاز .وهذا ما سيكون عليه كتابه عن دار النهار “ديالكتيك العلاقة المعقدة ما بين المادية والمثالية” .كان الكتاب قراءة للعقلاني والمعجز، جادات الافتراق والالتقاء .ويحشد عزيز السيد جاسم في ذلك الكتاب الذي صدر قبيل اشتعال سعير الحرب على لبنان وموجه احتلال إسرائيل للجنوب وبيروت سنة 1982، كافة الأدلة والشواهد التي تشير إلى التباس خطابي النهضة والتنوير الأوروبي، وصعوبة اعتمادهما كلية في الخارطة الفكرية لا سيما في بلدان لم تزل تتلمس طريقها الاقتصادي والسياسي .وخلف هذا الحشد والجدل المفعم كان يجري تحطيم (الصنمية)، كما يسميها، أي ظهور القائد الفرد، القائد الضرورة، والذي لا بد من هدمه كما فعل النبي الشاب إبراهيم وهو يكسر الأصنام .لا يمكن لأيّ رسالة أن تظهر تحت سطوة الصنم المعبود .هنا يكمن رابط الوصل ما بين كتابه “الحرية والثورة الناقصة” و”ديالكتيك العلاقة المعقدة”، وما القصص إلاّ تنويعات مجازية متعددة على مشكلة الحرية والثورة .وكانت قصته (السيد س) هي الإعلان عن اختناق الفرد الكافكوي في مصائد السلطة (عزيز السيد جاسم، الديك وقصص أخرى، القاهرة، الهيأة المصرية العامة للكتاب، 1987، صفحات 8-26) .نشرت في مجلة (المعرفة السورية، العدد 209، تموز 1979) .ويرى عزيز السيد جاسم، وعلى خلاف دارسي أصول الحكم، أن مشكلة أنظمة الحكم منذ عصر الراشدين لم تعان من الفساد كعلة أساسية، بل من (التوثين) .إذ أن الوثنية التي جعلت الحكم والحاكم مقدسين هي أصل الداء .لقد أسقطت الخلافات المتعاقبة على نفسها قداسة تصادر رأي الآخر بينما تغرق نفسها بكل ما يناقض أيّ قداسة سماوية (عزيز السيد جاسم، جدل العلاقة المعقدة بيروت: دار النهار1982)، وكذلك د .محسن الموسوي، الاستشراق في الفكر العربي، عمان، المؤسسة العربية 1993).
وناصية (التوثين) التي يدينها السيد جاسم تعد مرتكزاً أساسياً في الأنظمة والأفكار التي يعرض لها تحليلاً وتفكيكاً، وحتى عندما يجري تفريقاً بين المكونات الوجودية، ويسعى للفصل ما بين كامو وسارتر كما يفعل في مقالته “نظرات في الأدب الوجودي”، فإنه يريد أن يضع اليد على ما يسميه في مقالة نشرتها مجلة الآداب سنة 1967 جوهر الكتابة الوجودية، تشخيص الشيء الجوهري، لدى الوجودية أي وضعها اليد على محرك الوجود وقبطانه أو الإنسان كذات وكمجموعة بشرية “وإذا بكل مقدس (لا يطال) ينتقل إلى مرحلة جديدة من الفحص والاختبار وإثبات أو نفي المشروعية” (أعيد نشرها في كتابه، دراسات نقدية في الأدب الحديث بغداد، الإرشاد، 1970)، (ط .ثانية، القاهرة-الهيئة المصرية العامة للكتاب، سنة 1996، ص 191
.
وهذه العتبة المهمة في فكر عزيز السيد جاسم تبقيه انتقائياً لصياغة أفكاره، فهو مثلاً يتفق مع المفكر المصري أنور عبدالملك بشأن رفض فلسفة الانتحار عند كامو ( يراجع ملف مجلة الأقلام ،1990، ص 108)، لكنه يتفق مع سارتر في أن “لا سبيل إلا الحرية إلا بمقاومة الغاصب” (راجع حميد سعيد، “بعيداً عن مصادر الأحادية الشعرية”، ملف مجلة الأقلام ، تموز 1990، ص 121) .وبدل أن يبقي عزيز السيد جاسم رهانه الفكري في نطاق الاختبارات المذكورة، كان يبني لنفسه جادته الثقافية والفكرية .وكان الشاعر حميد سعيد، الذي رافقه في بداية السبعينات ، يقول عنه في ملف الأقلام 1995 “إن اليقين عنده منطقة جد نائية لا يصل إلى تخومها إلا عبر عذابات الشك وحرائق الأسئلة” (حميد سعيد المرجع السابق) .وقراءة عزيز السيد جاسم المبكرة للفكر الوجودي تتميز بهذا التفريق، لكنه التفريق الذي يتعمد اختراق الخيارات نحو تكثيف مغاير لجادة الإنسان وبحثه عن الحرية .فهو مثلاً يقول عن كامو في تلك الدراسة التي نشرها في مجلة الآداب أن كامو “لم يلتزم الالتزام من دون أن ينكره” .وهذا ما لا يقوله عن سارتر لأن الأخير جاء بـ “مزاوجته الوجودية مع ديالكتيكية علمية تاريخية” (راجع “دراسات نقدية في الأدب الحديث، ص 194) .ولكن هذه الملاحظة ليست طارئة على فكر السيد جاسم .ولنتوقف قليلاً عند مؤاخذاته على كتابة جيل الستينات من القرن الماضي من العرب، وبضمنهم كتّاب الجيل السابق كمطاع صفدي في روايتيه “جيل القدر” و”ثائر محترف”، فهو يرى أن الوجود الفردي الحر قد ضاع في (قفزات مبدعة)، ينقصها “وعي أصيل مدرك لشروط التاريخ وصيرورة الأشياء وكينونتها وحيويتها” .ويضيف “إنها لم تصدر عن بصيرة ثابتة متطلعة مستطلعة كاشفة تعتمد في متحها وعطائها على نضوج فكري مخصب تنشطه التجربة والعمل (المصدر نفسه، 195) .وكذلك (د .محسن الموسوي، النخبة الفكرية والانشقاق: تحولات الصفوة العارفة في المجتمع العربي الحديث، بيروت، دار الآداب، 2001، ص 60-69).
وعند هذه الناصية يحيل السيد جاسم إلى سياقين: أولهما السياق العملي (التجربة والعمل) الذي ميز حياته الشابة في الريف والمدينة في آن واحد، وفي التنظيمات الطلابية والفلاحية، وثانيهما، التجذير الماركسي لفكره .وهذا يعني ضمناً مزاوجة عسيرة تسعى لردم الهوة بين تناقضين: التاريخ والحرية .إذ يقول في كتابه “الحرية والثورة الناقصة 1971»، “التاريخ هو تحقيق الحرية حسب شرطي الفهم الصحيحين الهيغلي والماركسي، ولكن صحة التاريخ ونشاطيته تبقى معلقة مادامت الحرية مفتقدة وباقية كموضوع مجاهدة”.
ولهذا نرى أن عبدالله العروي يحار في تفسير مدخل عزيز السيد جاسم حول موضوع الحرية، فيكتب قائلاً عن المؤلف وكتابه “التناقض موجود بالفعل عند ماركس الشاب، وحتى عند هيغل الشاب”، لكن السبب الذي جعل المؤلف (أي عزيز السيد جاسم) يعي هذا التناقض اليوم هو أنه يستعمل مفهوم التاريخ كالماركسيين ومفهوم الحرية كالوجوديين .لو بقي في نطاق ماركسية أنجلس مثلاً لما أحس أبداً بهذا التناقض لأنه بكل بساطة سيرجئ الحرية الفردية المطلقة إلى ما بعد نهاية التاريخ .طلبه الإبقاء على الحرية في نطاق التاريخ كما يعيشه الإنسان الآن هو طلب الوجوديين منذ أن ثار كيركغارد ضد مفهوم الموضوع، أي مفهوم التاريخ عند هيغل (راجع عبدالله العروي، مفهوم الحرية، بيروت، المركز الثقافي العربي 1993، ص 78.).
ولا أدري إن كان عزيز السيد جاسم قد اطّلع على رأي عبدالله العروي .لكنه وفي المقالات الأخيرة التي نشرتها جريدة العراق الكردية (6 كانون الثاني/يناير 1991) قبيل اقتياده من الشارع والبطش به ليلة 15/4/1991، في هذه المقالات أراد أن يعيد إلى الأذهان موقفه من تكوين رؤية فكرية تستوعب التجربة والخصوصية والفكر لا الإحالة السلبية على الفكر العالمي .ولهذا كان يقول بعنوان “النخبة والفكر”، “لقد ازدهرت الوجودية في باريس، لكن ثمارها الأخيرة كانت تمضي إلى الفاتيكان .ولم يكن سارتر إلا محاولة عبقرية أخيرة للالتفاف على مسيحية هايديغر وكيركغارد وفنومولوجيا هوسرل”، ولذلك تحوط من الماركسية بادعاء الصلة بها باعتبارها الفلسفة الأم (أعيد نشرها في كتاب محسن الموسوي، النخبة الفكرية، الملحق، 111-116).
بالون معلق
ولأجل تقريب صورة النخبة من القراء، لم يكن متسامحاً أبداً مع المثقفين، والمهنيين، الذين بدوا كخراف معدة للذبح يقول في المصدر نفسه “يجوز لنا أن نشبه النخبة الفكرية في البلدان الآسيوية والأفريقية ببالون معلق خارج حدود تسميات المكان والزمان فهي مقطوعة عن الماضي، مقصومة عن الحاضر والمستقبل .لقد تقربت هذه النخبة كثيراً إلى فرنسا باسم تمجيد الثورة الفرنسية، وإلى روسيا باسم ثورة أكتوبر السوفييتية، ولكن فاتها أن البلدين هجرا ثورتيهما منذ زمن بعيد وأنهما مندمجان بآلية الركب العالمي للإمبريالية بصورة أو بأخرى” .ومثل هذا الاستخلاص لم يأت جزافاً ذلك لأن السيد جاسم أبقى نصب عينيه أهمية “التركيز على الخصوصية التاريخية للتطور القومي من قبل النخب الفكرية واستيعاب كافة الدروس العالمية التي تحمي نهج الاستقلال القومي من الفكر والاقتصاد معاً” .وكان يدعو جاهداً إلى تبين سلالات نسب الفكر العالمي وانتهائه إلى ما هو عليه الآن، ولهذا يكتب ما يعد ملاحظة أخيرة لتأكيد مقولات سابقة بهذا الشأن “لقد كانت الموجات الفكرية لأوروبا في ما بعد القرون الوسطى ترسل الطيور الملونة إلى العقول الفتية للعالم الثالث ولم تستطع الرؤية الوطنية للنخبة الفكرية إدراك جدل أوروبا الصاعدة .كانت أوروبا باهرة وابتدأ ازدهارها الفكري بعصر التنوير أولاً، ثم بالاشتراكية ثانياً، ثم بالوجودية ثالثاِ .وكان ينبغي أن يتوصل المثقفون الوطنيون إلى إدراك الحقيقة الساطعة، وهي أن الوجودية كانت نهاية العصر الذهبي للفكر الأوروبي، وهو يفضي إما إلى الموت أو بدء عصر مسيحي جديد”.
وليس خفياً ولا خافياً أن هذه الاستنتاجات تخفي خلفها ما بذل السيد جاسم جهداً في إيضاحه عندما قرر الانكباب على آليات التثقيف الاجتماعي، فجدله في كتابه “ديالكتيك العلاقة المعقدة” الصادر عن دار النهار عشية الاجتياح الإسرائيلي، أراد وضع اليد على الخصوصية المعتقدية، تلك التي تجتمع عندها الفلسفة العقلية بالإيمان الديني وحواشيه في المعجز والمقدس والسحري والنبوئي والحلمي، وكذلك على الظواهر المتوالدة في برزخ هذا الرس المعتقدي، تلك التي جاءت بوثنية المعبود ليتربع على السلطة .وكان أن دأب على معالجة ما أعده مشكلات اجتماعية لا تثير الريبة، ولهذا انكب على قضية المرأة في كتابين هما “حق المرأة” و”المفهوم التاريخي للمرأة” .كلاهما صدرا أثناء الحرب العراقية الإيرانية .وبعدهما ظهر كتاب “الحضارة والاغتراب” ليعيد الانتباه ثانية إلى توالد الغرباء والغربة، ليشفعه بقراءة الشريف الرضيّ مغترباً، ولهذا كان كتابه “الاغتراب في شعر الشريف الرضي”، وجاءت كتبه تتويجاً لهذا الاهتمام بالتوالدات المغايرة داخل الثقافة منذ فجر الإسلام .وكان كتابه “محمد: الحقيقة العظمى” بمثابة مسعاه في رحلة الابتداء لإعادة تكوين الفكر التاريخي العربي الإسلامي، ليرفده بكتاب “علي بن أبي طالب: سلطة الحق” .لم يكن في هذه الكتب معنياً بإعادة المدونة التاريخية أو اعتماد المؤرخين في رسم المسار التسلسلي للزمن الإسلامي .كان همه لفت الانتباه إلى خصوصيات التجربة، تلك التي يقرنها دائماً بالهمّ الآني، (همّ الاستقلال القومي المعاصر اليوم) كما يسميه في المقالات الأخيرة التي ظهرت في جريدة العراق.
يقول “إن مشروع الاستقلال القومي المعاصر اليوم، يقوم، أول ما يقوم، على أساس البناء الذي يشكل المواطن الحر المحترم قوامه الرئيس .فالاستقلال القومي وحرية الإنسان أمران متلازمان بصورة جوهرية”.
يعيد عزيز السيد جاسم فكرة التلازم ما بين حرية المواطن والاستقلال القومي بعد سنوات من نشره مجموعة كتبه الرائجة، ومنها “جدل القومية وتطبيقه في السياق التاريخي لنشوء الأمة العربية”، ومن ثم “سقوط مدرسة هيكل” سنة 1987 و”مقتل جمال عبدالناصر” سنة 1985 .وهو في كل هذه الكتابات لم يغفل هذا التلازم حتى عندما كان يتقصى السمات المضيئة عند ناصر وفي تجربته .وعلى الرغم من مؤاخذاته على التجربة الناصرية، كم يتبين ذلك في كتابه “مقتل جمال عبدالناصر” (1985) وبعده في كتاب “سقوط مدرسة هيكل”، إلا أن تلك التجربة مثلت له مشكلات الانفراط في التلازم المذكور، وهو ما يراه بشكل ساطع في التجربة العراقية .أي أن كتابه عن عبدالناصر كان إدانة ضمنية للتجربة العراقية وصعود القائد الأوحد، وهو ما يعده رس الشمولية وسر سقوطها القريب .وأما مقالات 1991 فهي بمثابة ترسيخ لما كان يقوله من قبل بشأن التلازم الذي لا بد منه من أجل أن تكتمل الثورات .أي أنه أحال إلى الفكر الوجودي والماركسي لا بقصد الركون إلى ما فيهما، ولكن بقصد استخدامهما انتقائياً لبلورة مفاهيم خاصة بالأمة العربية، وبالعراق .وإذا كان الوجوديون قد لجأوا إلى السرد والرواية تحديداً لتقديم أفكارهم، فإنه هو الآخر استعان بالرواية والقصة، وألِفَ الشعر، وكتب “مناجيات السبعين” التي تستكمل مسحة التصوف البادية في أبرز كتبه الإسلامية كـ”محمد الحقيقة العظمى” و”علي بن أبي طالب: سلطة الحق” (نشرها فاروق البقيلي سنة 1995 وأعدت نشرها في: “عزيز السيد جاسم، نحو تحريفية أوسع للفكر القومي”، عمان، المؤسسة العربية للدراسات، 2004) .والغرض من مسحة التصوف هو استدعاء الطهارة الثورية، تلك الطهارة المستحيلة عندما تحين ساعة التعامل مع الواقع .وكما قلت في “الاستشراق في الفكر العربي”، فإن المثقفين العرب عنوا كثيراً بموضوع (المثقف العضوي) الذي يشير إليه هشام جعيط في “أوروبا والإسلام”، ذلك لأن هذا المثقف يمكن أن يكون الصوت أيضاً للإطلالة على مأزق الدولة القومية، لأنه “بقوته التكاملية” و”بالوصل الذي يقوم به بين التاريخ الماضي والتاريخ المستقبلي، وبين المقال الاجتماعي والواقع الاجتماعي، لا كأيديولوجي لنظام اجتماعي معين، بل لسان حال حضارة مستقبلية (هشام جعيط، أوروبا والإسلام، بيروت: دار الحقيقة 1980، 146-147).
مؤثرات فكرية
وعندما نريد أن نضع عزيزاً في دائرة المثقفين العرب الذين بلوروا فكراً له خصوصيته وفرادته النظرية، يمكن أن نرصد مجموعة المرتكزات التي تجعل منه وعبدالله العروي وهشام جعيط ومحمد أركون والطيب تيزيني ومنح الصلح وآخرين شركاء فعليين في تكوين فكر عربي، زاد عليه ووسع آفاقه جيل لاحق .وكما ذكرت بهذا الصدد في “الاستشراق في الفكر العربي”، “إن هؤلاء، يعون مخاطر الدولة القومية الضيقة على الفكر والواقع، كما أنهم يدركون الأهمية المتزايدة للمثقف العضوي الذي يعي ضرورات العصرانية من جانب، لكنه يلتمس استجماع مكونات الهوية القومية، الثقافية تحديداً، في قراءة نقدية للماضي والحاضر واعتماد تاريخانية التحديث التي ترفض التمجيد وإسقاطات القداسة بهدف رؤية ما هو ايجابي والمسك بالحقائق قيد التكوين التي تتيح (دينامية) جديدة في الحاضر، كذلك تتخطى كل ما هو أحادي وضيق وهامشي وذرائعي وتلفيقي”.
لكن عزيزاً وضع تفصيلاً مبكراً عن مفهومه للمثقف العضوي، منطلقاً من أفكار غرامشي في سنة 1971 ليتوسع في ذلك سنتي 1976-1977 عندما كانت الثقافة العراقية والعربية تتوجه أكثر نحو القائد الضرورة، وتسعى لربط الثقافة بهذا المفهوم .فهو يكتب سنة 1971 قائلاً “عندما طرح (غرامشي) موضوعة الحزب كمثقف جماعي كان يعني الأهمية الفائقة للتعالي على الأصول التنظيمية مع عمليتها، فالأصول التنظيمية وجدت لربط الأعضاء داخل بناء الحزب الذي لا وجود له بدون الأعضاء وروابطهم .فهي أصول تعاهدية تتناقض مع ضرورة أن يكون الحزب وحدة جماعية، وحدة ثقافية وعملا إنسانيين” (الحرية والثورة الناقصة، ص 72) .ويضيف أن ذلك يعني أن يكون الحزب “صورة المجتمع المستقبلي، الحلم الآتي كفعل وواقع».
ولكن هل يمكن للأصول التنظيمية التغير في رهان التحولات؟ يجيب على ذلك قائلاً “أما الأصول التنظيمية فهي تعاقد أولي يسعى من أجل إنهاء ديالكتيك معين، ديالكتيك السيطرة الإقطاعية أو البورجوازية مثلاً بديالكتيك ينقد تكريسات سابقة” (المصدر السابق).
وينوه حينذاك بالمخاطر التي تعترض ممارسة الديالكتيك الجديد، مشيراً إلى ظاهرة الانغلاق والخشية من التيارات الفكرية، وبروز الظاهرة الصنمية .يقول “وعبادة الفرد ظاهرة متممة” لرفض ديمقراطية العلاقة بالقوى الأخرى؛ ومن شأن الظاهرتين “استمناء العبودية العظمى” .(المصدر السابق).
ولا يرى عزيز السيد جاسم إمكانية تخطي الخطرين تحصيل حاصل؛ ذلك لأن المثقف يمكن أن يكون قادراً على مواجهة ذلك، من خلال ممارسة أوسع للدور الثقافي داخل المؤسسة والمجتمع .ولهذا فعندما يعود إلى الموضوع ثانية سنة 1977، تكون الأوضاع السياسية في العراق قد أخذت تنحو باتجاه (التوثين)؛ وكان السيد النائب (قبل أن يكون رئيساً) لم يزل يزاول دور الناقد للمؤسسات، دون أن يعلن نقده لمؤسسات القطاع العام ما هو إلاّ خطوة للقضاء على هذا القطاع وتوسيع القطاع الخاص، وذلك ضمن اتفاقات غير معلنة مع الجهات الدولية لممارسة دور أوسع في المنطقة .وكما أشير من قبل، كانت إدارة الثقافة تتجه نحو تسطيح الأمور وجمعها باتجاه (التوثين) استعداداً لحملة 1979 المعروفة بتصفية الكادر القيادي والمتقدم وإعلان الخصومة مع الشيوعيين والديمقراطيين والأكراد.
ولهذا عندما يكتب عزيز السيد جاسم في (موضوعات عن وحدة النشاط الأدبي والفكري والسياسي) يكون قد وضع نصب عينيه احتمالات المحنة .لكن ما شجعه على الكتابة يمكن أن يكمن في بوادر لملمة الكادر المتقدم لأفكاره باتجاه تحول فعلي كالذي تصوره عبدالخالق السامرائي من قبل، فيقول “إن علاقة النشاط الأدبي بالنشاطين الفكري والسياسي تقررها التفاعلات الخصبة لجوانب العملية الحياتية؛ بمعنى أنها ليست علاقة مفتعلة أو افتراضية .وابتداءً تجب الإشارة إلى أن غنى الحياة هو الينبوع الذي ينطوي على تدفقات متنوعة ولكن منسجمة في الفكر والسياسة والأدب، وفي كافة ضروب المعرفة” (راجع: الحرية والثورة الناقصة، ص 72).
الثقافة والثورة
وعندما يتدارس قضية الثقافة والثورة يوافق على أن الثورات يمكن أن تلحق الأذى بالفن والأدب مستعيناً برأي تروتسكي، الذي أشار إلى أن “واحدة من النتائج المباشرة لأكتوبر موت الأدب، فقد صمت الشعر والأدباء” (استقصاءات نظرية عن طبقية الفن) في “منطلقات اشتراكية”، 159.) .وهو يفسر ذلك في ضوء جدلية الحرية والإبداع، وليس في ضوء الحدث لوحده .إذ يقول “الإبداع في مضمون من مضامينه، هو الانبثاق الروحي للشخص المبدع، حيث تتجاوز الحرية الداخلية الحدود الموضعية للجسد، في لحظة عبقرية لا يمكن لجمها” .وهو إذ يستعيد ما قاله من قبل عن غرامشي، يضيف “نعم، إن هذه الحرية ذات أصل جماعي، وذات مغزى اجتماعي .إلاّ أن الأصل، والمغزى يتآلفان في سيرورة ذاتية، تنطوي على قدر عظيم من الحرية، هو قدر الانتفاضة الروحية البليغة التي تجسد الصوت الخافي رغم عمومية الأساس» (المصدر السابق).
ويحذر من تأليه المجتمع والطبقة في الفورات والطفرات الثورية، ويرى المثقف صمامة أمان محتملة إذا ما مارس دوراً في لجم هذه الاندفاعة، لأن “حرية الفرد شرط حرية المجتمع، وحرية المجتمع شرط حرية الفرد حيث تشغل حرية الفرد موقعاً متميزاً أو أساسياً” (المصدر السابق).
أما الصوت الخفي لدى عزيز مفكراً فهو ذلك الذي لا يني يطالب بالحرية، وهو ذلك الصوت في قصته “محضر ناقص عن مقتل عصفور”، بين قصصه المجموعة في “الديك وقصص أخرى” .والقصة التي تقول أن كاتبها يسعى لإتمامها منذ زمن مسكونة بفكرة بسيطة “عندما يقتل البريء تقتل معه العصافير والورود والأشياء الجميلة” (“محضر ناقص عن مقتل عصفور”، عزيز السيد جاسم، الديك وقصص أخرى، ص 225-240 .القاهرة: الهيئة المصرية العامة، 1987).
والصوت الخفي هو ذلك الذي سيظهر تباعاً ومنذ (ديالكتيك العلاقة المعقدة بين المادية والمثالية) ساعياً إلى تكوين رؤية صوفية تتعالى على الواقع لتكشف هناته ومحنة مؤسسات الدولة وكارثة (التوثين) .ولم يكن التاريخ بمنأى عن هذه النظرة التي ضمّنها كتبه التالية “محمد الحقيقة العظمى”، “علي بن أبي طالب: سلطة الحق”، “الحضارة والاغتراب”، “الاغتراب في شعر الشريف الرضي”، “التصوف والالتزام في شعر البياتي”، “الرصافي الخالد”، و”متصوفة بغداد”.