وثائقي «نتفليكس» الجديد «داخل الموساد» (Inside the Mossad) منتج فنّي وفكري شاحب يؤنسن مجموعة من القتلة السايكوباثيين المتقاعدين ويقدّم دعاية أيديولوجيّة فجّة ومبتذلة عن أسطورة اليهوديّ «القبضاي». هل لدى الإسرائيليين بالفعل أشياء يبيعونها للعالم سوى الأساطير؟
لندن | بغضّ النظر عن كون «نتفليكس» جزءاً لا يتجزأ من أدوات السيطرة الإعلاميّة الأميركيّة الممسكة بخناق هذا الكوكب، وأنها لن تتورّع بالطبع عن الاصطفاف الموضوعي في كلّ ما تعرضه من مواد إلى جانب السرديّة الصهيونية دائماً بحكم التشابك البنيوي والعقائدي والتاريخيّ بين إسرائيل الكبرى، أي الولايات المتحدة، ومدللتها غير الشرعيّة إسرائيل الصغرى المزروعة في شرق المتوسط، فإن المنصة السيبيريّة الأشهر – ومثيلاتها الأصغر حجماً مثل HBO ـــ التي غيّرت جذريّاً طريقة مشاهدتنا للأعمال التلفزيونيّة والسينمائيّة والوثائقيّة، لديها كذلك أسبابٌ عمليّة تفسّر هذا السيل الدافق من الأعمال الدراميّة والوثائقيّة المتتالية التي تتغنّى ببطولات جهاز الاستخبارات الخارجيّة الإسرائيلي (الموساد) ـــ كما شقه الداخليّ (الشين بيت) ــ أكانت «نتفليكس» هي التي تنتجها أم تقتني حقوق عرضها الحصريّة، وتوفرها دانية لملايين المشاهدين عبر العالم. تحتاج صناعة الأفلام والمسلسلات دائماً إلى البحث عن أبطال خارقين جدد وحكايات مبهرة، سيّما أن نماذج جيمس بوند وأبطال رابطة العدالة (سوبرمان، وباتمان وبقيّة الشّلة) تبدو على نحو متزايد كأنها استنفدت طاقتها الحكائيّة ولم يعد في مقدورها تقديم إبهار كاف للجيل الجديد من المشاهدين. لذا، كأن «نتفليكس» ــ وشقيقاتها ـــ وقعت على كنز ثمين باكتشافها الأعمال الإسرائيليّة عن بطولات مزعومة لأجهزتها الأمنيّة التي تحوي عناصر التشويق الدراميّ كلّها، وثنائيّة الكاوبوي والهندي الأحمر التبسيطيّة التي تناسب عقليّة مستهلك المنتج البصري الأميركي. يضاف إلى ذلك بالطبع، القدرة على تقديم حشد من الحسناوات الممشوقات والشبان السمر الوسيمين لإبقاء جانب الجاذبية الجنسيّة فاعلاً في خلفيّة الحكايات. لقد تحوّل الموساد الإسرائيلي في يوم وليلة إلى «رابطة عدالة» جديدة تنتج لنا على يد «نتفليكس» وأخواتها أبطالاً خارقين لكنهم بشر، مخلصون لقيم الخير لكنهم مضطرون إلى القيام بمهام قذرة أحياناً، فيما يمارسون أدوارهم النبيلة هذه، وهم يعانون توترات إنسانية مرهفة وعميقة بشأن الحب والحياة والصداقة والواجب والموت.
لا تكاد المؤسسة الأمنية الإسرائيليّة بدورها تصدّق حظّها السعيد بهذا التوظيف التجاري المكثّف لرموز العمل الاستخباري الإسرائيلي من قبل كبريات منصات (الستريمنغ) الرقميّ في العالم. فذلك يساعد حتماً على إبقاء جذوة ماكينة الدعاية الصهيونيّة الموجهة إلى الاستهلاك المحلّي مشتعلة كأداة توحيد أيديولوجي لمجتمع ملفّق من شعوب وأعراق عديدة متنافرة. أداة تخدم أغراض نحت عقليات المراهقين والشبان اليهود في «إسرائيل» والعالم، لمصلحة العمل في خدمة الدولة العبريّة. وفوق ذلك كلّه، تكرّس الصورة التي عملت إسرائيل مطولاً على رسمها في ذهن العالم حول أسطورة «اليهوديّ القبضاي». ذلك الكائن البشري ـــ السوبرمان، ذو اليد الطويلة القادرة التي لا تغفر ولا تنسى، والتي ستلاحق الأشرار (نازيين، وفلسطينيين، وعرباً وإيرانيين) وتقضي عليهم كما القدر المحتوم.
هذه الصورة المؤسطرة تحديداً لم تكن بالنسبة إلى الكيان العبري المفتعل مسألة علاقات عامّة فحسب، بل واحد من أعمدة استراتيجيّة البقاء الثلاثة التي تعاقبت القيادات الصهيونيّة على إدارتها منذ بدء المشروع الاستيطاني في فلسطين عام 1882. تمثّلت هذه الأعمدة في ضمان تفوّق نوعي عسكري وتكنولوجي ومعرفيّ للمجتمع الإسرائيلي على جواره الإقليمي عبر التشبيك مع الإمبراطوريات الغربيّة (بريطانيا ثم فرنسا قبل الذوبان في المشروع الأميركي)، وبتوظيف الإرهاب المجاني لتحقيق أغراض الهيمنة السياسية (مذبحة دير ياسين نموذجاً)، فضلاً عن بناء سمعة أسطوريّة الأبعاد عن قدرات جهاز الموساد الإسرائيلي، تكرّس شعور شعوب الإقليم بالدونيّة أمام «اليهودي القبضاي» على نحو قد يردع بعضهم عن فكرة التصدي للمشروع الصهيونيّ، بينما قد يدفع البعض الآخر إلى التماهي معه والانخراط في خدمته.
هذه المقدّمة الطويلة أساسيّة لفهم موضوع السلسلة الوثائقيّة الجديدة «داخل الموساد» التي شرعت «نتفليكس» في عرضها عبر العالم، بما فيه الشرق الأوسط (مع توافر ترجمة بالعربيّة) في بداية الشهر الماضي. تتكوّن السلسلة من أربع حلقات تصل مدّة كلّ منها إلى ساعة واحدة، وتعتمد فيها صيغة إجابات عن أسئلة يلقيها المخرج الإسرائيلي ذو الأصول العراقيّة، دوكي درور، من وراء الكاميرا على 24 من كبار قادة وضباط جهاز الموساد الإسرائيلي المتقاعدين (أبرز كتاب السيناريو يوسي ميلمان، مستر «موساد» في صحافة العدو).
وبين الحين والآخر، تمرّ في الخلفيّة مقاطع أرشيفيّة وصور فوتوغرافيّة عتيقة ترافق بعض الوقائع التي يصفها المتحدّث.
من الواضح أن هدف السلسلة هو منح عجائز الموساد فرصة للمساهمة في تجديد الأسطورة الاستراتيجية عن جبروت جهازهم الخارق. يتمّ فيه تقديم وجه مؤنسن وحالم عن مجموعة من القتلة السايكوباثيين الذين ينبع ندمهم الوحيد من أنهم لم ينفذوا عمليّة قتل أخرى هنا أو هناك قبل بلوغهم سن التقاعد (الإمام الخميني مثلاً، إذ رغم طلب الشاه منهم ذلك رسمياً، إلا أنهم تجنبوا إغضاب المخابرات الأميركيّة والفرنسيّة التي كانت تدير الحالة الإيرانية وقتها). عمليات تضاف إلى مجموع الضحايا الذين سقطوا على أيديهم، سواء في صفوف الأعداء (الشريرين الغامضين المظللين بالسواد)، أو حتى من بين العملاء الذين لم يسعفهم الحظّ وانتهوا إلى ميتات بشعة، إلى جانب تذكير العملاء المحتملين بأن أسهل طرق التجنيد في الموساد تكون عبر التواصل مع إحدى السفارات أو القنصليّات الإسرائيلية المنتشرة في العالم. بغير ذلك، فإن السلسلة لا تحوي تقريباً أي خبر جديد، لا على الصعيد الاستخباري أو السياسي، ولا حتى عن هيكلية الجهاز وتركيبته الاجتماعية.
يسرد القتلة المتقاعدون قصصاً مزعومة حول إنجازات الموساد التقليديّة تاريخياً منذ تأسيس الجهاز بصيغته المعاصرة عام 1950. تغطيّ القصص العمليات الأشهر، منها خطف ايخمان إلى إسرائيل، وبطولات كوهين في دمشق، وتجنيد أشرف مروان، واغتيال أبو حسن سلامة والشيخ ياسين وعماد مغنيّة ومحمّد الزواوي ومحمود المدبوح، وتصفية خبراء الصواريخ النازيين الألمان، وتهريب يهود الفلاشا عبر السودان، ومساندة عملية المخابرات المغربيّة لتعذيب وإعدام المهدي بن بركة في باريس، إضافة إلى محاولة اغتيال خالد مشعل. هناك أيضاً عمليات غير معروفة على نطاق واسع، مثل التخلص من الطيار ألكسندر إسرائيلي الذي عمل للمخابرات المصريّة، أو العميل راعي الأغنام اللبناني الذي لقي حتفه مع فدائيين متسللين نحو الضفة الغربيّة. لكنّ تقديم هذه الأحداث يتبع حرفيّاً النسخة الرسميّة للموساد من دون أن تسلط عليها أضواء جديدة. رغم أنها روايات محشوّة بالأكاذيب ومجتزأة من سياقها لتلميع بطولات الموساد، إلا أنها لم تفقد ربّما تأثيراً ممكناً على الجيل الجديد الذي قد لا يعرف خلفيات تلك الأحداث.
خذ مثلاً عمليّة اختطاف أيخمان من الأرجنتين. الرجل لم يكن سوى موظف بيروقراطيّ متوسط في الماكينة النازيّة الألمانيّة، وهو على الأغلب خطف من أوروبا لا من الأرجنتين، وكان يعيش وحيداً معتزلاً بلا ترتيبات حماية. لكن كان مهماً في ذلك الحين خلق أسطورة مكمّلة لأسطورة الهولوكوست عن انتقام «اليهودي القبضاي» من أعداء الشعب المختار، وإخضاعهم للعدالة الإسرائيلية مخفورين، من دون ذكر تغاضي السلطات الغربيّة عن تهريب الرجل حياً عبر المطارات. كوهين؟ كل إنجازه في دمشق قبل إعدامه أنه افتتح ماخوراً للدعارة كان يستضيف فيه سوريين لكنه لم يرسل من هناك معلومة واحدة ذات قيمة إلى تل أبيب. تجنيد أشرف مروان؟ الرجل كان مضطرباً نفسياً ومصاباً بعقد دفينة، وهو الذي طارد الإسرائيليين كي يقبلوا بتجنيده، ولما انعدمت فائدته كشفوا أوراقه للعوام. حتى معلوماته التي يدّعي الموساد أنها ساعدت على تجنيب إسرائيل هزيمة تامة في حرب الـ1973 كانت متوافرة بالكامل من الملك حسين الذي طار إلى إسرائيل عشية الهجوم السوري – المصري وأعلم غولدا مائير بتفاصيله، إضافة بالطبع إلى صلات السادات المعروفة بالمخابرات الأميركية منذ أيّام ناصر. اغتيال أبو حسن سلامة بعد عمليّة ميونيخ 1972؟ الرجل كان صبيّ عرفات ولم يكن على صلة أبداً بمنظمة «أيلول الأسود» التي نفذّت العمليّة. ويعتقد أنه كان ضابط اتصاله مع المخابرات المركزيّة الأميركية، ولذلك أمكن الوصول بسهولة إلى أرفع مسؤول أمني فلسطيني في منظمة التحرير وقتله بغرض رفع معنويات الإسرائيليين بعد «عملية الأولمبياد» المؤلمة. تهريب يهود الفلاشا؟ كل شيء تم بالترتيب مع جعفر النميري وأزلامه وليس فيه أعمال «بطوليّة» إلا الغدر باليهودي الذي اكتشف بخبرته العسكريّة السابقة أن نادي الغوص على شاطئ بورسودان يديره الموساد. خالد مشعل؟ على الأغلب كانت تلك مسرحيّة مفتعلة شديدة الرداءة نسقت بعناية مع الأردنيين لتلميع زعيم إخواني، وجعله زعيماً للفلسطينيين إعداداً لمرحلة ما بعد خفوت نجم الزعيم الختيار (الملمّع السابق) عرفات. محمود المدبوح؟ استعراض ممل لسلطات الأمن الإماراتيّة التي اكتفت بعرض أشرطة مصورة بكاميرات مراقبة، كان قد مرّرها الجانب الإسرائيلي نفسه إلى الدولة الغارقة حتى أذنيها في التعاطي مع الدّولة العبريّة ولم تسفر عن اعتقال أحد أبداً. اغتيال عماد مغنية؟ الرجل كان مطارداً لعشرات السنين من أجهزة الاستخبارات الأميركية والسعوديّة والمصريّة والكويتية، وكان اغتياله (كما العلماء الإيرانيون وكذلك الزواوي على الأرجح) على أيدي عملاء محليين مستأجرين، تولى الموساد دعمهم مالياً ولوجستياً فحسب. وهكذا.
يتحدثون عن دعم الأقليات لتخريب العالم العربي: الأكراد في العراق، والمسيحيون في جنوب السودان والكتائبيون في لبنان
يتحدث الضيوف بأريحية بالغة عن إنجازاتهم في دعم الأقليات لتخريب العالم العربي: الأكراد في العراق، والمسيحيون في جنوب السودان والكتائبيون في لبنان، الذين لجأوا إلى إسرائيل للمساعدة. لكن الطريف أن الموساد يرى أنه كان يجدر بالسياسيين الإسرائيليين ألا تصل طموحاتهم إلى حد احتلال عاصمة عربيّة وتنصيب بشير الجميّل رئيساً والتوقيع على اتفاقية سلام مع إسرائيل، إذ لم يكد الرئيس الجديد يحتفل بمنصبه حتى تولت سوريا قتله ـــ حسب الوثائقي ـــ وتمّ إسقاط اتفاقية السلام ودعم المقاومة حتى اضطرت الجيش الإسرائيلي إلى الانسحاب ذليلاً. لقد كان ذلك سوء تقدير دفع مئات الآلاف ثمناً له، لكن ذلك لم يستحق حتى الذكر.
إذا تركت الجانب التاريخي للعمليات المزعومة جانباً، وخرجت كمشاهد من ربقة الحدث السياسي الذي ربما يعنيك من موقعك على نحو ما، فإن ما قدمه المخرج درور تقنياً وفنياً ودعائياً كان دون التوقعات. لقدت بدت اعترافات العجائز المتقاعدين مملة ورتيبة ومدّعية، ولم تتوافر في الحلقات مادة ارشيفيّة استثنائيّة، بينما فشلت الموسيقى والتشكيلات البصريّة المفتعلة والمقتبسة من أعمال أخرى في خلق مناخ تشويقيّ يساعد على إبقاء المشاهد مشدوداً إلى الحلقات. ظهر القتلة كأبطال كاريكاتوريين بلداء ومنحرفين نفسياً ومشوّهين عقلياً، ومجرد أدوات عديمة التفكير ضمن جهاز قتل أعمى. هذا ما يؤكّد كذلك طبيعة الأدوار الشديدة الابتذال والهامشيّة التي توكل عادة إلى مجندات الموساد. وحتى دعائياً، فإن لهجة الانتصار الفارغ بأن السيّد حسن نصر الله يعيش في ملجأ تحت الأرض خوفاً من يد الموساد الطويلة، لم تعد مقنعة لأحد، بعدما أصبح الشيخ المجاهد وثلّة مقاتليه ورجال استخباراته الشجعان هاجساً للمجتمع الإسرائيلي كلّه من أعلى مستويات السلطة إلى رجل الشارع العادي.
في الحقيقة، فإن هذا الوثائقي أظهر الموساد في صورة تكاد ـــ أقلّه للعارفين ـــ تبدو هزليّة وأقرب إلى الشكل الكوميدي الذي كان سجّله الأديب الإسرائيلي (المنشق) غيلاد أتزمون في روايته الشهيرة عن الجهاز My One and Only Love. ربّما كان الأجدر بـ«نتفليكس»، إذا كان لا بدّ من أن تجرّعنا أعمالاً عن الموساد، تحويل تلك الرواية إلى عمل ملحميّ يستجلب الضحكات ويعبق بالمشاهد الحميمة لمجندات الموساد، بدلاً من الثرثرة الفارغة المملة للقتلة العجائز المتقاعدين.