توازياً مع الاستعدادات التي كانت جارية لإطلاق قناة «MBC العراق»، اشتغلت السعودية على استمالة مديري صفحات إلكترونية مؤثرة، ستتولى القناة رعايتهم بهدف الاستفادة من خدماتهم في اللحظة السياسية التي تراها الرياض مناسبة. خطوة تمثل استكمالاً لـ«الحرب الناعمة» التي تخوضها المملكة في هذا البلد، والتي جاء مخاض ما بعد الانتخابات النيابية ليعزز اقتناع السعوديين بأهميتها.
«الجيوش الإلكترونية». مصطلح بات يحتلّ مرتبة متقدمة في القاموس السياسي والإعلامي في العراق. ثمة ارتباط عضوي بين تلك الجيوش ومشغّليها من جهة، والعملية السياسية من جهة أخرى. ارتباطٌ ينعكس بشكل مباشر على الرأي العام أوّلاً، ومن ثم على سيرورة الأحداث ثانياً. تخصّص القوى السياسية للجيوش الإلكترونية ميزانيات ضخمة وصلت الى حدّ نصف مليون دولار شهرياً قبل إجراء الانتخابات النيابية الأخيرة (أيار/ مايو 2018). ومع أن هذا الإنفاق تراجع لدى تشكيل حكومة عادل عبد المهدي أواخر العام الماضي، إلا أنه لا يزال قائماً لـ«حاجة عملية» وفق ما يقول بعض المسؤولين عنه، وخصوصاً أن عدد مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي في العراق «بلغ 19.6 مليون شخص، أي 48% من عدد سكان البلاد»، بحسب «مركز الإعلام الرقمي».
ترى أوساط سياسية في افتتاح «إم بي سي» محاولة لاختراق الساحة العراقية
مثّلت «الحرب الإلكترونية» معلماً رئيساً من معالم المواجهة مع تنظيم «داعش» على مدار السنوات الأخيرة، غير أنها ــــ بعدما استعيدت المناطق العراقية من قبضة التنظيم ــــ دخلت طوراً جديداً أبطاله القوى السياسية نفسها. هذا الكباش دفع بـ«المرجعية الدينية العليا» (آية الله علي السيستاني)، غير مرة، إلى التحذير من «الافتراء وتلفيق الأخبار التي تنشر على الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي، لما لها من تأثير خطير على المجتمع»، والدعوة إلى «القضاء على هذه الظاهرة». وإلى جانب تأثيراتها على الرأي العام، كانت لظاهرة الجيوش الإلكترونية انعكاساتها السلبية على «وسائل الإعلام التي تواجه خطراً جدياً» وفق عدد من الصحافيين المحليين، على اعتبار أن المال السياسي بات مُوجَّهاً إلى تلك الجيوش وكل ما يتعلّق بها.
عوامل الاستعار
جاء تأجيل موعد الانتخابات المحلية حتى أواخر العام الجاري ليفتح الباب على حملات متضادة ربما تكون أكثر شراسة مما شهدته الفترة السابقة للانتخابات البرلمانية. وهي حملات قد لا تقف تداعياتها عند حدود ما آلت إليه «مناوشات» محدودة سابقاً، كما المواجهة الأخيرة بين «عصائب أهل الحق» و«تيار الحكمة».
هذا الاحتمال تضاف إليه سيناريوات أخرى ترسمها تحذيرات البعض من إمكانية تكرّر تظاهرات البصرة التي انفجرت في وجه رئيس الوزراء السابق، حيدر العبادي، أواخر أيام ولايته. إذ، وفي أعقاب نيل حكومة عبد المهدي الثقة، وبروز تفاؤل بتطورات إيجابية في المرحلة المقبلة، نبّه مسؤولون محليون في البصرة إلى أن «المحافظة ستشهد موجة احتجاجات كبيرة خلال الصيف المقبل، جرّاء تردي الوضع الخدمي والصحي، وخاصة في ما يتعلق بالكهرباء»، عازين ذلك إلى «استمرار العجز الحكومي عن تقديم حلول استراتيجية لمشاكل المحافظة».
إذا ما صحّت تلك التوقعات، واستمرّ الوضع على ما هو عليه، فإن أي حراك متجدد في المحافظة الجنوبية يمكن أن يشكل تربة خصبة لتفعيل عمل الجيوش الإلكترونية في اتجاه معين، ترغب به أطراف خارجية مثلاً. في هذا الإطار، يبدو لافتاً أن لكلّ من السفارة الأميركية في بغداد، والقنصلية الأميركية في أربيل، صفحات إلكترونية مؤثرة هي جزء من عدّة الشغل ضد «النفوذ الإيراني».
تحذيرات من «فتنة»
إلى جانب الحضور الأميركي، ثمة لاعب آخر يستعد لاقتحام ساحة هذه المواجهة في محاولة لاستعادة تأثيره على الساحة العراقية، وخصوصاً بعدما تبينت له خلال الانتخابات الأخيرة وما أعقبها هشاشة قدرته على فرض معطيات لمصلحته. من هنا، تبحث الرياض ـــ في إطار «حربها الناعمة» في العراق ـــ عن بدائل تستطيع من خلالها استرجاع ذلك التأثير، وخصوصاً داخل «البيت السني» حيث لكلّ من منافسَيها، تركيا وقطر، حضورهما.
هذه المساعي السعودية تسير على خطين متوازيين: الأول يتمثل في إطلاق محطة «أم بي سي العراق»، أما الثاني فشراء صفحات فاعلة ومؤثرة على شبكات التواصل الاجتماعي. القناة التلفزيونية، التي انطلقت مساء أمس، كانت قد أعلنت في بيان أنها «تسعى إلى تقديم منتج إعلامي عراقي من خلال فنانين عراقيين ذوي شهرة واسعة على المستويين المحلي والعربي»، إلا أن أوساطاً سياسية تقرأ في ما وراء افتتاح القناة محاولة لاختراق الساحة العراقية.
في هذا الإطار، تفيد معلومات حصلت عليها «الأخبار» بأن المعنيين في إدارة «أم بي سي» تواصلوا أخيراً مع عدد من مديري الصفحات الفاعلة، واتفقوا معهم خلال لقاء انعقد في بيروت على قيام القناة بتحمّل تكاليف منتجات تلك الصفحات، مقابل تعهّد مديري الأخيرة بـ«الالتزام الكامل برؤية القناة، والتعهد بمواكبتها في اللحظة السياسية المناسبة». ويكشف مصدر أمني، في حديث إلى «الأخبار»، أن مديري الصفحات المذكورة وافقوا على «العرض السعودي»، محذراً من سيناريو مشابه لـ«فتنة البصرة» قريباً، حين دعت صفحات «مجهولة» إلى «إحراق مقار الأحزاب الإسلامية الصيف الماضي… وهو أمرٌ كاد يدفع البلاد إلى المجهول».
نماذج من الحروب الافتراضية
ثمة تعريفات عدة للجيوش الإلكترونية، غير أن المشترك في ما بينها أنها «مجموعات مدربة تعمل وفق أجندة خاصة هدفها اختراق مواقع الخصوم، والترويج لوجهة نظر معينة عبر مختلف منصات الإنترنت، وإسكات وتشويه سمعة المناوئين». في العراق، تنقسم حسابات تلك الجيوش إلى ثلاثة أنواع: وهمية، حقيقية، وموثقة (قد يتجاوز عدد متابعيها مئة ألف). بعض هذه الحسابات يعمل من داخل العراق، فيما ينشط بعضها الآخر من الخارج، وتحديداً من السعودية وتركيا والأردن. وفيما يُعنى قسم منها بيوميات الشارع العراقي، ينشأ قسم آخر لهدف محدّد وفي توقيت معين بما يخدم مصلحة جهة سياسية ما. غير أن الجامع بينها أنها تبحث عن نقاشات/ إشكاليات/ تناقضات… أو حتى قواعد عمل جديدة، من شأنها تحقيق أكبر قدر ممكن من التفاعل. على المستوى المحلي، برز في الفترة الماضية دور المقربين من رئيس الوزراء السابق، حيدر العبادي، في الترويج لأهدافه ورؤيته بعد إعلانه «الانتصار العظيم» على تنظيم «داعش»، في مقابل نشاط سلفه نوري المالكي في مهاجمة العبادي، على رغم انتمائهما إلى الحزب نفسه. وقبيل الانتخابات وبعدها، نشأت صفحات مؤيدة لفصائل «الحشد الشعبي»، في حين كانت أخرى تتبادل الهجمات داخل «البيت السني»، وثالثة في الوسط الكردي.