تتردّد على ألسنة المسؤولين الإسرائيليين والسعوديين، فضلاً عن الملحقين بهم، مجموعة من المقولات التي تهدف إلى توفير غطاء تبريري لمخطط التطبيع الذي يتصدره النظام السعودي، وإلى حرف بوصلة الصراع عن فلسطين باتجاه عناوين مختلقة. من أبرز هذه المقولات أن الخطر الإيراني هو الذي دفع السعودية إلى التقرب من إسرائيل وإقامة علاقات سرية وعلنية معها. ومما يستهدفه الترويج لهذه المقولة أيضاً تصدير الانتقال إلى المرحلة العلنية في العلاقات مع الاحتلال الصهيوني على أنه دفاع عن النفس. ويندرج في السياق نفسه الحديث عن المصالح المشتركة مع الاحتلال على قاعدة مواجهة الخطر نفسه. ويذهب قادة العدو أيضاً ـــ ومعهم بعض أتباع النظام السعودي ــــ في تزويرهم للحقائق إلى حدّ الحديث عن «تقارب سني ـــ إسرائيلي» في مواجهة «المحور الشيعي»، محور المقاومة.
وعلى رغم سخف فكرة «التحالف السني ـــ الإسرائيلي» في مواجهة «المحور الشيعي»، إلا أن هناك من يروّج لها عملياً من دون التجرؤ حتى الآن على تبنيها رسمياً وعلناً، على رغم أن لا مشكلة لديه في أن يصبّ منطقه وأداؤه في الترويج لهذا المفهوم. في المقابل، يتردّد المعنى نفسه بشكل مباشر عبر قنوات رسمية ومعاهد أبحاث ووسائل إعلام إسرائيلية. لكن مشكلة تل أبيب والرياض أن الانتماء المذهبي لأغلب سكان فلسطين يُحجِّم من مفاعيل ما تقومان به. كذلك، يمكن القول إن جزءاً من خلفيات الحملة السعودية العدائية ضدّ فصائل المقاومة الفلسطينية التي تحظى بدعم إيران، إلى جانب الدافع الأساسي المتمثل في تبني خيار المقاومة والمستند إلى التمسك بحق الشعب الفلسطيني في كل فلسطين، هو أن استمرار المقاومة ورفض الحلول الاستسلامية يربك هذا المخطط ويقوّضه.
ولكي لا يتم اللعب على ذاكرة الأجيال الجديدة، من المهم التذكير بحقيقة أن اندفاع بعض العرب نحو التطبيع مع إسرائيل بدأ قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران. وإحدى أهم المحطات المفصلية في هذا المسار كانت زيارة الرئيس المصري السابق، أنور السادات، إلى إسرائيل، في تشرين الثاني/ نوفمبر 1977، والتي أدت لاحقاً إلى اتفاقية «كامب ديفيد» في أيلول/ سبتمبر 1978، بينما انتصرت الثورة الإسلامية في إيران في شباط/ فبراير 1979. وهو ما يؤكد بالدليل الملموس أن قضية الانفتاح على الاحتلال الإسرائيلي لم يكن منشؤها ما يسمى اليوم بـ«الخطر الإيراني»، بل هي خيار أصيل لدى العديد من الأنظمة والقيادات في العالم العربي، تختلف سياقاته ودوافعه من نظام إلى آخر.
ليس صدفة أن السعودية وإسرائيل وُجدتا في الحيِّز الإقليمي ذاته
ومع ذلك، يصرّ النظام السعودي والمدافعون عنه، في محاولاتهم خداع الرأي العام الخليجي والعربي والإسلامي، على ربط التخلّي عن فلسطين والاستعداد للاعتراف بإسرائيل، بالحاجة إلى التحالف مع قوى إقليمية في مواجهة الخطر الإيراني. لكن الحديث عن مصالح مشتركة مع إسرائيل يكشف في الواقع عن حقيقة التموضع في الصراع ضدها، وانكشافه في لحظة العثور على هذه المصالح مع الكيان الذي يواجه محور المقاومة، ويرى فيه تهديداً استراتيجياً على أمنه القومي، وتهديداً وجودياً على مستوى المستقبل. وإلا، لماذا لم تجد هذه الأنظمة مصالح مشتركة مع محور المقاومة على قاعدة ما يخدم تحرير فلسطين، ووجدت مصالح مشتركة مع الاحتلال في مواجهة مَن يقاومه؟ هكذا يتضح أن المنطق السعودي، بدلاً من أن يشكل تبريراً مقنعاً، ينطوي على إقرار ضمني بالارتباط العضوي بوجود إسرائيل وأمنها وتفوقها.
ومن المحطات الأساسية التي تكشف زيف ادعاءات النظام السعودي في تبرير الاندفاعة نحو أحضان إسرائيل، أن تاريخ أول مبادرة سعودية للسلام مع إسرائيل يعود إلى العام 1981، في الوقت الذي كان فيه النظام الإسلامي في إيران يخوض معركة وجود، وكانت الرهانات الإسرائيلية والأميركية والخليجية على إسقاطه مرتفعة، ولم يكن حينذاك حزب الله ولا محور المقاومة قد تشكلا، وعُرفت المبادرة آنذاك بمشروع الأمير فهد، الذي أصبح ملكاً في مرحلة لاحقة. تضمّن المشروع وقتذاك الدعوة إلى الاعتراف بوجود إسرائيل الآمن تحت عنوان «تأكيد حق دول المنطقة في العيش بسلام»، إلى جانب عناوين أخرى تتصل بالدولة الفلسطينية، وحقوق الشعب الفلسطيني، وأراضي الـ67، ولكن تحت سقف حق إسرائيل في الوجود والأمن.
وبعيداً عن التدقيق في المواقف الترويجية السعودية، والتي تهدف أيضاً إلى التسلّل من خلف الشعب الفلسطيني وعلى حسابه، فإن نظرة خاطفة إلى موقع كلّ من الكيان الإسرائيلي والنظام السعودي، منذ تأسيسهما وإلى الآن، توضح أنهما كانا ولا يزالان يتموضعان في المعسكر الدولي والإقليمي نفسه، وأن أولوياتهما تقاطعت في أكثر من محطة تاريخية. وليس صدفة أنهما وُجدا في الحيِّز الإقليمي ذاته، وفي المرحلة التاريخية عينها، وعلى يد الدولة الاستعمارية ذاتها، بريطانيا، ويتظلّلان حالياً بالمظلّة الدولية نفسها، الولايات المتحدة. ويتقاطع الطرفان السعودي والإسرائيلي في هذه المرحلة التاريخية إلى حدّ التطابق في تحديد الأعداء الإقليميين. وما مؤتمر وارسو قبل أيام إلا مناسبة لرفع مستوى التنسيق والارتقاء به إلى المرحلة العلنية، كتمهيد لخطوات أكثر جرأة في فترات لاحقة.