لم تأتِ استقالة محمد جواد ظريف من عدم. هي تأخرت. ارتبطَ اسم ظريف بالاتفاق النووي الذي لم يستمرّ أكثر من أشهر معدودة في الإدارة الجديدة.
لكن النظام الإيراني في عهد روحاني بات شبيهاً بعهد رفيق الحريري في لبنان: ينصرف روحاني – ظريف إلى التفاوض مع الغرب من أجل التوصّل إلى اتفاق نووي يزيل عن كاهل إيران عبء العقوبات الثقيلة، فيما يندرج ملف المقاومة ومتطلّباتها في اختصاص الحرس الثوري الإيراني والفريق المرتبط به في الحكم (لكن هناك مفاوضات تدور بين الطرفيْن، وصراعات، مثل ملف إلقاء القبض على البحّارة الأميركيّين الذين خرقوا المياه الإقليميّة لإيران في عام ٢٠١٦، وكان ظريف يريد إنهاء الملف بسرعة ومن دون إذلال أميركا). وكان رهان روحاني – ظريف، مثل رهان الحريري، على أن الرخاء والبحبوحة ستقوّض من شعبيّة الجناح الآخر. أي إن التذاكي كان يفترض أن الغرب لن يقبل بإضعاف الفريق المُراهِن على التفاهم مع الغرب، وأن الغرب لا يريد إلا إنهاء الصراع.
إن مقولة أن التفاوض مع الغرب يحتاج إلى أشخاص درسوا وعاشوا في الغرب أثبتت بطلانها في مسار المفاوضات العربيّة مع الغرب على مرّ العقود. لقد اختار ياسر عرفات ومحمود عبّاس أفراداً تخرّجوا من جامعات الغرب وقرّبوهم من سلطة صنع القرار من أجل تحقيق المزيد من المكاسب في المفاوضات ومن أجل فهم «عقلية» الغرب. لكن الذين انتزعوا من الغرب تنازلات في التاريخ المعاصر كانوا الأقلّ تأثّراً وانبهاراً به، مثل جمال عبد الناصر وصدّام حسين (في الثمانينيّات) أو ثوّار فيتنام الأبطال. خرّيجو جامعات الغرب – في مسار مفاوضات مصر أو السلطة الفلسطينيّة أو الأردن أو السعوديّة – هم الأكثر رغبة في نيل إعجاب الغرب، والأقلّ حرصاً على التمسّك بثوابت سياسيّة. كانت حركة التحرّر الوطني الفلسطيني أكثر استقلالية قبل أن تدخل في مفاوضات تنازليّة مع دول الغرب.
تتردّد تساؤلات متكرّرة على مواقع التواصل الاجتماعي في أميركا من قبل خبراء في السياسة الخارجية عن سبب عداء ترامب الشديد لإيران وودّه الشديد نحو كوريا الشمالية. السبب في ذلك أن حاكم كوريا الشمالية تودّدَ بدوره لترامب ودخل معه في مفاوضات بدأت سريّة وتحوّلت إلى مفاوضات علنيّة. إيران لم تبدأ بالمفاوضات السريّة مع ترامب بعد ولم يتودّد حكّامها في العلن لترامب. ومن المعروف أن أميركا تحتفظ تاريخيّاً بخط مفاوضات سرّي مع كل أعدائها. كانت المخابرات الأميركيّة، مثلاً، صلة وصل بين الحكومة الأميركيّة وبين «منظمة التحرير الفلسطينية» فيما كان القانون الأميركي (وُلد ملحق سريّ في مفاوضات سيناء ٢ في ١٩٧٥ بإصرار من كيسنجر) يحرّمُ أي تواصل بين أي مسوؤل أميركي وأي مسؤول أو «عضو» في منظمّة التحرير، كأنه كانت هناك عضويّة في المنظمة. إن حالة العداء والإهانات المتبادلة بين ترامب وكيم جون أون وصلت إلى حدّ لم يصله الخطاب بين أي رئيس أميركي وأي رئيس إيراني. لقد هدّدَ كيم أميركا بالسلاح النووي وردّ ترامب على كيم بتهديد نووي أكبر. والقناة السريّة بين كوريا الشمالية وأميركا فُتحت حتى في خضمّ التهديدات، واستعان ترامب بمدير المخابرات الأميركيّة (يومها) مايك بومبيو لبدء التفاوض الرسمي بدلاً من وزير الخارجيّة (يومها) الذي لم يكن يثق به بتاتاً.
إيران تتكيّف مع متغيّرات الإدارة الأميركيّة عبر العقود، وهي صبرت على إدارة بوش لا بل تعاملت معها في حسن نيّة بعد خطاب ٢٠٠٢ عن «محور الشرّ»
ارتكب الثنائي روحاني – ظريف سلسلة من الأخطاء في المفاوضات مع إدارة باراك أوباما. لم يكن مُرشد الجمهوريّة يعبّر عن ثقة في تلك المفاوضات لكن خيارات النظام في ظلّ العقوبات الصارمة والوحشيّة كانت، – ولا تزال – محدودة، وأعداء إيران منخرطون في حروب سريّة مُعلنة ضد النظام. وزاد التبادل المالي الإلكتروني والصرامة الأميركيّة في التطبيق والملاحقة (يعلم ذلك مَن أرسل أو تلقّى مئة دولار عبر «وسترن يونيون» بعد ١١ أيلول) من فعالية العقوبات الأميركيّة حول العالم والتي تخيف الحكومات والشركات والأفراد على حدّ سواء. بعد ١١ أيلول، جالَ مندوبٌ (صهيوني حكماً) عن وزارة الخزانة الأميركيّة والتقى بمعظم أثرياء فلسطين في الشتات وحذّرهم من مغبّة التبرّع بفلس لمنظمّة التحرير أو لياسر عرفات. توقّف التبرّع فوراً. «البورجوازيّة الوطنيّة» أحرص على الربح من حرصها على الوطن. والمُفاوض الإيراني، بالرغم من الأخطاء، أفضل بكثير من تجارب عربيّة في المفاوضات (بصرف النظر عن الموقف من هدف هذه المفاوضات) من حيث الإصرار على تفاصيل في المفاوضات وعلى المشاركة الفاعلة في وضع أجندة المفاوضات: المفاوض المصري في كامب ديفيد أو الفلسطيني في كل مسار مفاوضات أوسلو وما تلاها بقيت في العموميات وتركت التفاصيل لإصرار المفاوض الإسرائيلي (أما المفاوض الأردني فقد كان الشوق للتوقيع عند النظام كبيراً إلى درجة أنه لا يمكن لنا الحديث عن مفاوضات، لا مضنية ولا سهلة).
إسرائيل ـ إيران ـ الولايات المتحدة
لكن الثنائي روحاني – ظريف تفاوضَ مع أوباما في آخر سنتيْن من حكمه. هما المعتدّان بمعرفتهما بالغرب، كيف يتفاوضان مع رئيس في آخر ولايته فيما يُسمَّى هنا بمرحلة يتصف بها الرئيس بـ«البطة العرجاء»، في إشارة إلى ضعف الرئيس في آخر ولايته؟ والثنائي لم يصرّ على رفع مرتبة الاتفاقيّة أميركيّاً إلى «اتفاقيّة رسميّة» حيث تحتاج إلى موافقة ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ. والقانون الدولي في أميركا أدنى دائماً من القانون الأميركي، حتى في اتفاقات جنيف لوضع الأسرى وجرائم الحرب. عدم تحويل الاتفاق النووي إلى اتفاقية أميركيّة رسميّة هو الذي جعل ترامب قادراً على التملّص منه بسهولة، أو خرقه، بالأحرى، لأن الاتفاق أصبح جزءاً من القانون الدولي بعد تبنّيه ليس فقط من حكومات الدول الست بل أيضاً من مجلس الأمن. وأوباما لم يخض في الاتفاق النووي مع إيران ولم يسارع إليه في ولايته الأولى لأنه أراد ضمان إعادة انتخابه وهو علم أن الموضوع كان يسهل استخدامه ضدّه من قبل الجمهوريّين. أي أن أوباما خاض غمار المفاوضات عندما كان أضعف في رئاسته لأنه لم يعد هناك ما يمكن أن يخسره. لكن، مجلس الشيوخ كان تحت سيطرة الجمهوريّين ولم يكن ممكناً ضمان أكثريّة الثلثيْن في حال عرض الاتفاقيّة عليه في عهد أوباما، لأن زعيم الأكثريّة في مجلس الشيوخ، ميتش أوكنل، كان صريحاً جداً في بداية عهد أوباما عندما قال إنه لن يدع أوباما ينجح في ولايته وإنه سيعرقل له مشاريعه. وهل كان على الثنائي الانتظار حتى الولاية التالية قبل إتمام الاتفاقيّة؟
استثمر النظام الإيراني منذ التسعينيات، في عهد رفسنجاني، في علاقة حسنة مع الولايات المتحدة. تعاونت إيران، أو هي لم تعرقل، الحرب الأميركيّة على العراق في ١٩٩١. قد يُقال إن الحرب كانت في صالحها، لكنها أيضاً لم تدعم الانتفاضة الشعبيّة في جنوب العراق، وهي نالت ثناء أميركيّاً على ذلك. ثم إن إيران تتكيّف مع متغيّرات الإدارة الأميركيّة عبر العقود، وهي صبرت على إدارة بوش لا بل هي تعاملت معها في حسن نيّة بعد خطاب بوش الشهير في ٢٠٠٢ عن «محور الشرّ». والخطاب أتى بعد تنسيق بين إيران وأميركا (عبر وسطاء) حول أفغانستان، حيث كانت إيران متعاونة مع الإدارة الأميركيّة ضد عدوّ مشترك. ويروي كنيث بولاك في كتابه عن تاريخ العلاقات الأميركيّة الإيرانيّة، «الأحجية الفارسيّة: الصراع بين إيران وأميركا»، أن إيران تعاونت أيضاً مع أميركا في العراق خصوصاً في مرحلة الإعمار بعد غزو ٢٠٠٣ (ص ٣٥٤-٢٥٥).
وقد شعر النظام الإيراني بخطر أميركي – إسرائيلي وشيك بعد خطبة «المهمّة أُنجزت» التي ألقاها بوش في أيّار ٢٠٠٣ من على متن حاملة طائرات أميركيّة. وبعد أيّام فقط من الخطبة، تقدّمت إيران في مشروع شامل ورسمي (وغير مُعلن) باقتراحات لتحسين العلاقات مع أميركا. وقد أعدّ صادق خرازي مسودّة الاقتراح وراجعها محمد جواد ظريف (كان سفيراً في الأمم المتحدة في نيويورك آنذاك) ونالت موافقة المُرشد الأعلى. وحمل السفير السويسري إلى طهران هذه المقترحات إلى واشنطن. وتفاصيل هذه المقترحات ضمّنها ترسا بارسي في كتابه «خسارة عدوّ: أوباما إيران وانتصار الديبلوماسيّة» عن المسار التفاوضي الذي قاد إلى الاتفاق النووي. ويرأس بارسي «المجلس الأميركي – الإيراني الوطني» في واشنطن، وهو أصدح داعية للسلام بين إيران وأميركا، ويتمتّع بعلاقة جيّدة مع خبراء السياسة الخارجيّة في واشنطن (وبعض المسؤولين الديموقراطيّين)، وقد لعب دوراً في ترطيب العلاقات بين البلديْن (وكان على تواصل في عمله مع ظريف، كما كُشف في دعوى ذمّ تقدّم بها بارسي ضد شخص اتهمه بالعمل للوبي المباشر بالنيابة عن الحكومة الإيرانيّة.)، وقد استخدم إعلام النظام السعودي كتاب بارسي الأوّل (المبني على أطروحة دكتوراه تحت إشراف فرانسيس فوكوياما في «مدرسة الدراسات الدوليّة المتقدّمة» في جامعة جونز هوبكنز)، بعنوان «التحالف الغادر: التواصل السرّي بين إسرائيل وإيران والولايات المتحدة»، لأن المؤلّف – لأسباب سياسية تتعلّق بعمله في المجلس المذكور أعلاه – يبالغ في التقليل من دور الأيديولوجيا في صنع القرار ويجعل من البراغماتيّة – أي مصلحة الدولة والنظام – عنصراً أوحد في تقرير السياسات الإيرانيّة. طبعاً، لا يمكن عزل عنصر عن الآخر في تقرير السياسات، كما أن عنصر البراغماتيّة يرتفع أو ينخفض بناء على العلاقات الدوليّة والوضع الإقليمي وبناء أيضاً على شخصيّة المسؤولين الإيرانيّين (كان رفسنجاني مثلاً أكثر براغماتيّة من أحمدي نجاد).
هل هناك من يظنّ أن ترامب قرأ ــ أو قرأ عن ـ الاتفاق النووي السابق أو أن اعتراضه كان على مضمونه وليس على الشكل وعلى اسم أوباما؟
أما مضمون المقترحات الإيرانيّة التي قُدِّمت إلى إدارة بوش فلم تستثنِ موضوعاً، من حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي إلى الصراع العربي – الإسرائيلي والبرنامج النووي. يقول بارسي إن إيران «وضعت كل أوراقها على الطاولة» («خسارة عدوّ»، ص ٥٣). صحيح أن إيران – خلافاً لأسلوب تفاوض الأنظمة العربيّة – أصرّت على تفاوض أنداد وباحترام، لكن التنازلات الإيرانيّة المُقدَّمة تعارضت مع ثوابت في السياسة الخارجيّة الإيرانيّة. عرضت إيران وقف دعم «حماس» و«الجهاد الإسلامي» والضغط عليهما لوقف «الهجمات على إسرائيل» (ص ٥٤)، كما عرضت تأييد نزع سلاح حزب الله وتحويله إلى حزب سياسي محض. وعرضت أيضاً التعاون في محاربة «القاعدة». ويقول بارسي إن إيران قدّمت أيضاً غصن زيتون إلى دولة الاحتلال من خلال عرض لقبول «المشروع العربي» للسلام مع العدوّ. وفي المشروع النووي عرضت فتح المنشآت النووية كاملةً أمام لجان تفتيش والتوقيع على الملحق الإضافي لمعاهدة منع انتشار السلاح النووي. (وكانت إيران آنذاك لا تملك أكثر من ٢٠٠ جهاز طرد مركزي، مقابل ٢٢,٠٠٠ بعد عقد واحد). مقابل كل ذلك طلبت إيران إقامة علاقة طويلة المدى مع أميركا ورفع كل العقوبات واحترام حقوق السيادة والأمن لدولة إيران. لم تُبهر الوثيقة إدارة بوش المنتشية حينها بنصر وهمي في العراق، مع أن كولن باول وكوندوليسا رايس رأيا فيها تنازلات مهمة تستوجب النظر فيها. قطع دونالد رمسفيلد وديك تشيني في الموضوع. كانت الإدارة متيقّنة في حينه أنها في طريقها إلى تغيير النظام السوري والإيراني بعد نصرها في بغداد.
لم تقدّم طهران عرضاً كهذا لإدارة أوباما. كان موقفها التفاوضي أقوى بكثير لأن موقع أميركا الاستراتيجي في الشرق الأوسط كان أضعف بكثير من ٢٠٠٣ والحديث عن تغيير سهل للأنظمة كان قد خفتَ بعد الهزائم التي مُنيت بها أميركا في العراق وأفغانستان ولبنان. عرضت إدارة أوباما، ربما في محاولة لاستعادة العرض الإيراني من عام ٢٠٠٣، إضافة موضوع القضايا الإقليميّة والسياسة الخارجيّة إلى ملف المفاوضات حول البرنامج النووي لكن الحكومة الإيرانيّة كانت قاطعة برفض ذلك. لكن الثنائي روحاني – ظريف، بالإضافة إلى عنصريْ الضعف المذكوريْن أعلاه (غياب مرتبة «الاتفاقيّة الرسميّة» للاتفاق والتفاوض مع إدارة «بطة عرجاء») لم يضعْ في متن الاتفاقيّة أي ضمانات أو مكافآت لإيران في حال تملّصت الإدارة المقبلة من تعهّدات كانت قد قطعتها. كان يمكن للمفاوض أن يطالب بمكافآت مالية كبيرة مقابل انسحاب أميركا منها، مثلما تضمّنت الاتفاقيّة عقوبات فوريّة على إيران في حال عدم تنفيذها لبنودها.
عهد ترامب ولعبة «حافة الهاوية»
لعب الحاكم الكوري الشمالي مع ترامب لعبة «حافة الهاوية» بنجاح. ليس هذا الحاكم بتهوّر الدعاية التي تضخّها عنه مخابرات كوريا الجنوبيّة (وتنقلها بلا كيف وسائل إعلام لبنان والعالم العربي). لقد جَرَّ الرئيس الأميركي إلى مفاوضات الندّ-للندّ ونجح في رمي ملف «حقوق الإنسان» (الذي كان في صلب الخطاب – فقط الخطاب – الأميركي الرسمي ضد كوريا الشمالية). وفي موضوع عنوان «نقض المسيرة النوويّة» (هذه ترجمة صعبة لمصطلح «دينيوكليرايزيشن» الذي تستعمله كوريا الشمالية بذكاء في مفاوضاتها مع أميركا)، فإن كوريا الشمالية ترفض منح هذا التنازل بالكامل مرّة واحدة، بل تصرّ على جعله تنازلاً على مراحل مرتبطاً بتقديم تنازلات متوازية من قبل الحكومة الأميركيّة. لو أن إيران أصرّت على هذا العنصر في نزع القدرة التسليحيّة النووّية لكان موقعها التفاوضي مع أميركا أقوى. إيران، خلافاً لكوريا، سارعت إلى تنفيذ شرط إزالة القدرة التسليحيّة النووّية بعد وقت قصير من التوقيع الرسمي. (يجب من باب الإنصاف في المقارنة بين كوريا الشمالية وإيران التذكير بأن كوريا الشمالية تملك ما يُقدّر بـ٣٠ سلاحاً نووياً – أو أكثر أو أقل – مقابل صفر سلاح نووي عند إيران، أي إن القدرة التفاوضيّة الكوريّة أقوى بوجود هذا السلاح).
تتعامل الحكومة الإيرانيّة مع رئيس أميركي من طراز مختلف. هذا رئيس يهتم للإطراء (لشخصه) والإفراط في التودّد نحوه أكثر مما يكترث لثوابت الأمن القومي الأميركي. وهذا قد يكون في صالح إيران، كما كان في صالح كوريا الشمالية على مدى الأشهر الماضية. الرئيس الذي هدّد كوريا الشمالية (التي فقدت – للتذكير دائماً – أكثر من ٢٠٪ من سكّانها نتيجة الحرب الأميركيّة الوحشيّة عليها في الحرب الكوريّة) بـ«النار والغضب (الإلهي)»، بات يشير إلى كيم بـ«صديقي كيم». ليست المفاوضات الأميركيّة هي الخيار الإيراني الوحيد، لكن إيران تصرّ على الالتزام باتفاق نووي فقد جدواه بمجرّد خروج أميركا منه، ليس لأنها هي وحدها تملك عناصر المكافأة بل لأنها تستطيع أن ترهب الخصوم والحلفاء للابتعاد عن إيران. والتعويل الإيراني على إنقاذ أوروبي للاتفاق لم يؤدِّ إلى نتيجة بعد. صحيح أن الاتحاد الأوروبي توصّلَ إلى استحداث مالي بديل كي تتمّ المقايضة بالتبادل مع إيران، لكن الشركات الأوروبيّة هربت من إيران بسرعة بمجرّد أن خرجت أميركا من الاتفاقيّة. والدول الأوروبيّة باتت تنطق باعتراض الحزب الجمهوري على الاتفاقيّة، أنها لم تتضمّن حظر النشاط الإقليمي لإيران أو تسليح «حماس» و«حزب الله» أو اختبار وصنع الصواريخ البالستيّة (إدارة ترامب قرّرت من عندها أن صنع الصواريخ هو مخالفة للاتفاقيّة التي لم تمنع صنع إيران للصواريخ البالستيّة).
يمكن للنظام الإيراني أن يدخل في مفاوضات مع أميركا، إذا كان الأمل بإنقاذ الاتفاقيّة يتفوّق على أي خيار إيراني آخر. والعدوّ الإسرائيلي يسعى حثيثاً لاستدراج إيران إلى مواجهة عسكريّة في سوريا في حقبة لن تمنع فيها الإدارة الأميركيّة أي مستوى من التصعيد من قِبل إسرائيل (لم تمنع إدارات سابقة التصعيد الإسرائيلي لكن هناك مستوى جديد من التغطية الأميركيّة لعدوان إسرائيل). تتحاشى إيران المواجهة لأن العدوّ يريدها لأغراضه، لكنها لن تستطيع تحاشيها في ظلّ تعطّش إسرائيلي دموي للمواجهة، وفي ظلّ تجاهل – أو تغطية – روسيّة للعدوان الإسرائيلي على سوريا. إن ترامب أكثر قدرة من أي من أسلافه على رفض توجّهات الإجماع العسكري – الاستخباراتي للإمبراطوريّة الأميركيّة وقد أثبت ذلك في الانسحاب (المزمع) من أفغانستان وفي الانسحاب (المزمع) من سوريا. وهذه القدرة قد تكون في صالح إيران الذي ألمح أكثر من مرّة إلى أن إيران يمكن أن تنال أفضل مما ناله أوباما. هذا رئيس لا يدخل في تفاصيل الاتفاقات – كما أنور السادات-. ترامب لا يريد إلّا دغدغة غروره والحصول على نوبل لـ«السلام» ومهر اسمه خالداً على اتفاقيّات دوليّة. هل هناك من يظنّ أن ترامب قرأ – أو قرأ عن – الاتفاق النووي السابق أو أن اعتراضه كان على مضمونه وليس على الشكل وعلى اسم أوباما الذي ارتبط به؟
وافقت إيران على نقل ٩٧٪ من اليورانيوم المُخصّب خارج إيران وعلى منع التسليح النووي حتى عام ٢٠٣٠. أي إن التزام إيران بالاتفاق – من دون وجود مكافآت على الالتزام، أو بوجود مكافآت صغيرة جداً – يقلّل من قدرتها على التفاوض وعلى الصمود بوجه التهديدات الإسرائيليّة والأميركيّة. قد يكون خيار الخروج من الاتفاقيّة أفضل من البقاء فيها في غياب بديل أوروبي فعلي عن الاتفاقيّة ناقص أميركا. باتت الاتفاقيّة مثل تطبيع أنظمة الخليج مع العدوّ: التطبيع والسلام مقابل لا شيء. وإيران تلتزم بها مقابل لا شيء تستحقّه. الخيارات الإيرانيّة ليست محصورة بالالتزام الذي أصبح مجانيّاً في ضوء الضعف الأوروبي.
* كاتب عربي (حسابه على «تويتر» asadabukhalil@)