بين العودة السعودية إلى لبنان، وبين قرار حزب الله استدراج القوى السياسية إلى التهدئة الداخلية، يكمن سر انتظار الفريقين المرحلة الانتقالية التي تفصل بين تحويل التوجهات الأميركية الجديدة أفعالاً أو بقائها مجرد تحذيرات على الورق
بعدما فرملت واشنطن الاندفاعة العربية تجاه سوريا، استعادت السعودية نشاطها في المرحلة الأخيرة، وانعكس لبنانياً بتظهير دور الفريق المعارض لحزب الله، ولا سيما في الشارع السني. وقد ظهر ذلك جلياً بحركة الرئيس فؤاد السنيورة وإطلالته العربية، خلال حملة الرد على الملف المالي، ولمّ شمل الشخصيات الموالية لها والمعارضة للرئيس سعد الحريري. تزامن هذا الجو مع زيارة الحريري للرياض، والتوتر الحكومي الذي ساد الأسبوع الماضي، وأشعل الخلاف بينه وبين التيار الوطني الحر، وكاد أن يطيح الحكومة، على خلفية التصعيد المتبادل. كان واضحاً أن الحريري يتعرض لضغط داخلي وخارجي، وهو بقدر تمسكه بالحكومة، لحاجته الماسة إليها وللأسباب المالية المعروفة، بات أسير رهان سعودي متجدد عليه. تضغط السعودية عليه بقدر ما تفتح له الباب لتلبية مطالبه، وهو في ذلك يرفع سقف شروطه المحلية لتمتين موقعه والإيحاء بأنه يملك مفاتيح اللعبة الداخلية على قدم المساواة مع العهد. بالأمس، حصل الحريري بعد اشتباك سياسي على أحد أعضاء المجلس الأعلى للدفاع، أي العميد محمود الأسمر، بعدما تمسك رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وقائد الجيش العماد جوزف عون برفضهما تعيينه، لأسباب قانونية تتعلق بخفض عون سن المعيّنين حديثاً وفقاً لدوراتهم العسكرية. أصر الحريري على الأسمر لاعتبارات مناطقية شمالية، ولمطالبته بموقع موال له في المجلس العسكري يختاره بنفسه. لا يمثل هذا التعيين سوى أولى الخطوات الأولية الضرورية الداخلية بالنسبة الى الحريري، الذي أبلغ العهد أنه قدم الكثير له، ويحق له تالياً برد الجميل. يحاول الحريري تظهير نجاحات ما على طريق فرض دوره، بتقديم نفسه مدافعاً عن حقوق الطائفة السنية وعن مواقعها، وواقفاً في وجه حزب الله والتيار في قضايا صغيرة وكبيرة على السواء، كما في مؤتمر بروكسل. أبعد من ذلك، لا يزال مبكراً الحديث عن خضوع الحريري كاملاً للضغوط السعودية المستمرة من دون توقف، وفق مطلعين على مواقفها. فالمشكلة مع إيران وحزب الله لا تزال على حالها ولا حل لها إلا من خلال التمسك بالساحة اللبنانية أسوة بغيرها من مواقع الاشتباك السياسي المشتركة مع إيران. وتبعاً لذلك، لا يمكن الرياض أن تتخلى عن تأثيرها في لبنان وهي تقدم للحريري مهلة إضافية مشروطة بخطوات تصاعدية يستشفّ منها وقوفه ضد الحزب وعدم الرضوخ لشروط التسوية المطلقة.
وهنا يبرز التناقض مع قوى سياسية على علاقة جيدة بالسعودية، ومنها القوات اللبنانية، تعطي انطباعاً إيجابياً عن نظرة المملكة الحالية للبنان واستقرار الوضع فيه وعدم الذهاب الى مشكلة سياسية بتوتير الحكومة أو دفعها الى الاستقالة. وهي تخالف معلومات سياسية عن أن الرياض تستعدّ لمواجهة في لبنان، ولا تضغط على الحريري. بل تجزم بأنها تعطيه تطمينات وتقدم له تسهيلات لتمتين موقعه، ومنها تشجيع السياح السعوديين على العودة الى لبنان، وهي متفهمة لظروف الداخل والاستقرار المنشود سياسياً كمقدمة لتفعيل اقتصادي مطلوب حالياً، ولا مصلحة للسعودية بالضغط عليه لأنه سيمسّ الاستقرار المالي، وهذا يعني لبنان ككل، وليس حزب الله وحده.
بقدر تمسكه بالحكومة، بات الحريري أسير رهان سعودي متجدد عليه
لكن العبرة بين الرؤيتين لموقف السعودية تكمن في مكان آخر، في دور حزب الله في تصفير المشاكل واستجلاب الجميع الى ملعب التهدئة وسحبهم الى منطقة اللاتوتر. يعرف حزب الله ما تريده السعودية وواشنطن، وهو في المقابل يسعى الى استيعاب المشكلات، حتى لو خاض مواجهة بعنوان كبير مع الفساد التي لا يريد التراجع عنها. لكنه يعرف كيف يمكن أن يوقف اندفاعته ومتى، حين يتحقق الهدف منها سياسياً ولو لم يترجم ذلك على الورق. وهذا تماماً ما حصل.
يدرك الحزب حاجة الحريري الى الحكومة، فيعطيه كل الأسباب التخفيفية ويعبد الطريق أمامه، كي يبقيه فيها، ما يجعله قادراً على مواجهة السعودية. وتبعاً لذلك، لا يضيره، وهو الذي يضمن موقف العهد في كل شاردة وواردة، أن يعطيه نجاحات محدودة بالزمان والمكان، طالما أن خيوط اللعبة في يديه. وسيظل يعطيه من التطمينات الكثير، وخصوصاً في مرحلة شد الكباش الإيراني ــــ الأميركي السعودي، ولا سيما أنه يدرك أن الحريري لا يريد تلبية الشروط السعودية من دون مقابل، وفي الانتظار، يسهل له طريق الكسب السياسي وتبعاته، من دون أن يدفع من جيبه. وهذا يريحه حالياً، بدل الدخول في توتر لا فائدة منه، وخصوصاً أن الحزب بقراره سحب أي فتيل تفجير داخلي، حالياً، استدرج قوى سياسية الى مربعه، بما في ذلك أكثر حلفاء السعودية تماهياً معها. ليس هيّناً أن تقف القوات اللبنانية موقف تهدئة مع حزب الله، في ملف الفساد وغيره، وتعتبر أن ضرورات التهدئة وتفعيل الحياة السياسية والاقتصادية تتطلب تنسيقاً حكومياً في ملفات داخلية، والتنسيق مع وزراء الحزب في وزاراتهم، بما في ذلك وزارة الصحة، تاركة أمر سياسة الحزب الإقليمية الى حين تستشفّ منه ضرورة الوقوف في وجهه. وهذه السياسة بدأت مع حكومة العهد الأولى وتُستكمل في الحكومة الثانية، وتبررها القوات بأنها ضرورة لتحقيق الاستقرار الداخلي. وينتقدها بسبب ذلك أكثر المتشددين معارضة للحزب، الذين يرون أن خطوات الحزب المدروسة، غير المجانية، بدأت تؤتي ثمارها، لأنه بدأ يقبض ثمنها داخلياً من شركاء التسوية، لأن سياسة الاستيعاب باتت أقل كلفة له من المواجهة.