يبدو أن واشنطن جادة في إلقاء القبض على مؤسس موقع «ويكيليكس»، وأنها تعمل بتنسيق عالٍ مع لندن في هذا الشأن. لكن أملاً يتولّد مع طلب الحكم على جوليان أسانج بالسجن 12 شهراً. إذ قد تعني تلك الفترة تغيراً ممكناً في تركيبة السلطة البريطانية، أو في طبيعة العلاقة مع الاتحاد الأوروبي، يوقف مؤامرة تسليم أسانج لحكومة متعطشة للانتقام
ويقول تقرير من داخل المحكمة إن القاضي لم يكن متعاطفاً أبداً مع الأسير المعتقل، وقد ندّد بما وصفه بتدمير سمعة القاضية السابقة التي رفضت طلباً لإطلاق سراحه، بعدما كشفت «ويكيليكس» أن زوجها (اللورد أربوثنوت) تولّى عدة مهمات أمنية خلال عشرين عاماً، منها ما تطلّب تنسيقاً مع حكومة الولايات المتحدة، الأمر الذي اعتُبر غير مناسب لقاضية تحاكم أسانج. لكن السلطات البريطانية المعروفة بعلاقاتها الالتحاقية الطابع بالحليف الأميركي، غضّت الطرف عن ذلك وقتها. وقد طلب القاضي سجن أسانج 12 شهراً على ذمة قضية اختراقه الكفالة، واحتمائه في مقرّ سفارة الإكوادور، رغم أن فريق الدفاع أوضح أنه كان خائفاً على حياته من ملاحقة الأجهزة الأمنية الأميركية، مشيراً إلى أنه طلب اللجوء إلى مقر دبلوماسي معروف العنوان، ولم يتوارَ عن الأنظار.
لكن المحاكمة الحقيقية بدأت عندما اقترب محامي ادعاء من هيئة الحكم، وأعلن أنه حاضر عن حكومة الولايات المتحدة، وقدم لائحة اتهام لأسانج بالتآمر مع المجندة تشيلسي مانينيغ، بسبب نشر وثائق سرية أميركية. وقد لاحظ خبراء قانونيون حضروا الجلسة أن لائحة الاتهام تلك بدت مصوغة بعناية فائقة كي تتضمن جرائم من مستوى التجسّس، حتى ولو عُنونت بـ«التآمر» فحسب، وذلك كي لا تكون هناك إمكانية للمحاججة قانونياً بأن الرجل قد يواجه حكم الإعدام، إن سُلّم للسلطات الأميركية ــ وهي عقوبة ممكنة للمتهمين بالتجسس ــ ما قد يتعارض مع القانون البريطاني، وقد يتسبّب في عراقيل تقنية تمنع إنهاء عملية تسليمه.
ما زال الإعلام الغربي يتفنّن في إيجاد أسباب لإدانة مؤسّس «ويكيليكس»
ومن المعروف أن السلطات الأميركية شرعت منذ فوز لينين مورينو، مرشحها للانتخابات الرئاسية الإكوادورية في نيسان/ أبريل 2017، في الإعداد لعملية معقدة لجلب أسانج إلى عدالتها، تتضمّن سحب الإكوادور للحماية عن أسانج وطرده خارج مقر السفارة. وقد التأمت من وقتها بالفعل محكمة أميركية في فرجينيا للتداول في توجيه التهم لأسانج، كما استمعت إلى العديد من الشهود، وأعيد اعتقال المجندة تشيلسي ماننينغ مجدداً، رغم انتهاء مدة محكوميتها (سبع سنوات)، وذلك لأنها رفضت تقديم شهادة أمام تلك المحكمة تدين أسانج.
الأشهر الـ 12 هي العقوبة القصوى لجريمة خرق الكفالة في قوانين جلالة الملكة، لكن بعض المراقبين رأوا فيها ما هو جيّد، إذ إن هذه الفترة قد تساعد في توسيع نافذة الأمل في حدوث تحوّل نوعي محتمل في تركيبة السلطة البريطانية، تُمكّن حزب «العمّال» من تولي السلطة، سواء منفرداً أو حتى في إطار تحالف وطني يخلف حكومة تيريزا ماي اليمينية التوجهات وحليفة واشنطن المقرّبة. ولا يشك أحد في أن تولي شخصية مثل جريمي كوربن مفاتيح «10 داونينغ ستريت» سيكسر مؤامرة لندن ــ واشنطن لترحيل أسانج إلى الولايات المتحدة، وربما تعاد محاكمته ويطلق سراحه. من جهة أخرى، هناك إمكانية بقاء لندن خاضعة لسلطات المحكمة الأوروبية العليا، بعد حسم موضوع «بريكست»، سواء بإلغائه بشكل كامل أو تحويله إلى نوع من علاقة تعايش ودّي وتقني مع الاتحاد الأوروبي، كما في حالة النروج أو سويسرا. عندها، يمكن لأصدقاء أسانج في بعض البرلمانات الأوروبية ممارسة ضغوط قانونية على لندن تُجبرها على وقف إجراءات تسليمه للجانب الأميركي.
وقد أُعلن قبل يومين، في مقرّ البرلمان الأوروبي في ستراسبوغ، عن فوز أسانج، بالمشاركة مع اثنين آخرين مِمَّن كشفوا أسراراً للمصلحة العامة، بجائزة أوروبية رفيعة المستوى، تعتبر أهم جائزة من نوعها في العالم، ويراها الكثيرون ذات وزن معنوي يفوق جائزة «نوبل» للسلام. وقد تحدث في حفل تسليم الجائزة نواب يساريون أوروبيون من اليونان وألمانيا وإسبانيا، فأشادوا بالفائزين الثلاثة، ودانوا تعرّضهم للسجن والملاحقة، بدلاً من تكريمهم.
عالمياً، ما زال الإعلام الغربي ــ والعربي الخاضع للهيمنة الأميركية ــ يتفنّن في إيجاد أسباب لإدانة أسانج وتبرير اعتقاله، فضلاً عن تبرير حق السلطات الأميركية في اعتقاله، على رغم أنه ليس مواطناً أميركياً. لكن مثقفين ذوي قيمة، من أمثال عالم اللغويات الأميركي نعوم تشومسكي والصحافي البريطاني جون بيلغر، اعتبروا أن ما يجري يرقى إلى مستوى الفضيحة، وأن من يقبع في سجن بلمارش هو حرية الصحافة والحق في الاطلاع على المعلومات، التي تدين فساد الطبقات الحاكمة في الولايات المتحدة والدول الخاضعة لنفوذها، وجهود الكشف عن الجرائم الهائلة التي ارتكبتها وترتكبها بحق شعوب العالم. وقد شبّه تشومسكي ما يتعرّض له أسانج بما تعرّض له المفكر الإيطالي المعروف أنطونيو غرامشي، الذي سجنه «الفاشيست» لأنه كشف بدوره عن أساليب عمل الطبقات المهيمنة، حتى قضى شهيداً. رسالة تشومسكي كانت صريحة: لقد خسرنا أنطونيو غرامشي، ويجب أن لا يسمح أحرار العالم بخسارة جوليان أسانج أيضاً، على أيدي «الفاشيست الجدد» الأميركيين.