في موجة قد تكون الأكبر منذ إعدام الشيخ نمر النمر، من ضمن 47 شخصاً، عام 2016، أعلنت السلطات السعودية، أمس، على نحو مفاجئ، ومن دون إبلاغ أهالي الضحايا مسبقاً، إعدام 33 شخصاً من أبناء المنطقة الشرقية، إلى جانب أربعة آخرين متهمين بـ«تبني الفكر الإرهابي المتطرف». الموجة الجديدة، التي شملت معتقلين كانوا فتياناً وحتى أطفالاً لدى اعتقالهم، تؤشر إلى نَفَس تصعيدي جديد لدى سلطات محمد بن سلمان، سواءً في اتجاه الداخل أو الخارج، على رغم ما بدا في أعقاب مقتل جمال خاشقجي من إمكانية انكفائه وتراجعه عن سياسات البطش التي اعتمدها على الجبهات كافة.
تمضي السعودية، بقيادة محمد بن سلمان، في سياسة البطش بشعبها. لا موجة السخط العالمي على مقتل الصحافي جمال خاشقجي، ولا ردود الفعل المنددة بحملات القمع والاعتقال المتواصلة، ولا المواقف الغاضبة على الجرائم المستمرة في اليمن، تفلح في كبح جماح الأمير الطامح إلى جعل كل نَفَس في الجزيرة العربية طيّ يديه. جراءة تظهّر حجم الاطمئنان الذي يستشعره ابن سلمان إزاء الطابع الوقتي لتلك الردود الغربية، وحتمية انفراطها عند مفترق المصالح. وهو ما تجلّى مجدداً أمس في إقدام سلطاته، بدم بارد، على إعدام العشرات من أبناء المنطقة الشرقية، بالتهم المكرورة نفسها.
وإذا كانت هذه الإعدامات تستهدف، من جهة، تعزيز أجواء الترهيب داخل المملكة، فهي لا تخرج، من جهة أخرى، عن سياق الاشتغال السعودي المتواصل، بالتناغم مع واشنطن وتل أبيب، على تثبيت معادلة الصراع الإقليمي وفق الآتي: «التطرف الإسلامي» بما يشمل إيران وحركات المقاومة الحليفة لها والتنظيمات التكفيرية على مقلب، ودول «الاعتدال العربي» وإسرائيل والولايات المتحدة على مقلب مضاد. ولعلّ تلك الرسالة يمكن استشفافها من معطيين: أولهما تنفيذ الإعدام بحق المتهمين منذ سنوات بـ«التجسس لمصلحة إيران» في وقت تصعّد فيه إدارة دونالد ترامب عدوانها على الجمهورية الإسلامية على نحو غير مسبوق، مع ما ينطوي عليه هذا التزامن من محاولة إيهام واستغلال سياسي لتهمة تشوبها الكثير من الشكوك، وثانيهما «خلط الحابل بالنابل» عبر تنفيذ الحكم ضد نشطاء المنطقة الشرقية وضد العناصر المنتسبين إلى تنظيمات جهادية دفعة واحدة، في محاولة للقول إنه لا فرق، في الميزان السعودي، بين المُطالب بالحقوق المدنية والسياسية، وبين «القاعدي» و«الداعشي»، وإن كليهما موسوم بـ«الإرهاب».
من بين المُعدَمين عناصر الخلية المعروفة بـ«خلية الكفاءات»
رسالة تظهّرها لائحة الاتهامات المُوجّهة إلى المُعدَمين البالغ عددهم 37، والذين يتحدّر 33 منهم من محافظة القطيف في المنطقة الشرقية. إذ تتّهمهم السلطات بـ«تبنّي الفكر الإرهابي المتطرف، وتشكيل خلايا إرهابية للإفساد والإخلال بالأمن وإشاعة الفوضى، وإثارة الفتنة الطائفية، والإضرار بالسلم والأمن الاجتماعي، ومهاجمة المقار الأمنية باستخدام القنابل المتفجرة، وقتل عدد من رجال الأمن غيلة، وخيانة الأمانة بالتعاون مع جهات معادية بما يضرّ بالمصالح العليا للبلاد»، علماً أن آخر هجوم استهدف الأمن السعودي الأحد الماضي تبنّاه تنظيم «داعش». وليست هذه المرة الأولى التي تتعمّد فيها الرياض هذا النوع من التضليل؛ فقد سبق لها أن أعلنت في الثاني من كانون الثاني/ يناير 2016 إعدام 47 شخصاً مدانين بـ«الإرهاب»، بينهم منتسبون إلى تنظيم «القاعدة»، جنباً إلى جنب الشيخ نمر باقر النمر، أحد أبرز الوجوه الدينية المعارضة.
في هويات المُعدَمين أمس، الذين يضمّون علماء دين وأطباء وأصحاب كفاءات عليا وناشطين، يلاحَظ أنهم إما سبقت لهم المشاركة في الحراك الشعبي المطالب بالحقوق والحريات في المنطقة الشرقية، وإما تجرّأوا على التعبير عن آراء معارضة حتى قبيل عهد الملك سلمان ونجله (بل إن معظمهم كذلك)، وإما اشتبهت السلطات في «تجسّسهم» لمصلحة «جهات أجنبية» يُقصد بها هنا إيران. هؤلاء الأخيرون هم 11 شخصاً اعتُقلوا في 16 آذار/ مارس 2013، لتُعرف قضيتهم لاحقاً بقضية «خلية الكفاءات»، ويُصدَر في 6 كانون الأول/ ديسمبر 2016 حكم الإعدام بحقهم إلى جانب أربعة آخرين. ومن بين المُنفَّذ بحقهم الحكم على هذه الخلفية الشيخ محمد عطية، ورجل الأعمال عباس الحسن. أما المعارضون ونشطاء الحراك، فهم 11 شخصاً، بينهم من كانوا فتياناً لا تتجاوز أعمارهم 17 عاماً لدى اعتقالهم. نموذج من أولئك مجتبى السويكت الذي أُلقي القبض عليه في 12 كانون الثاني/ يناير 2012 بينما كان في طريقه إلى بدء دراسته الجامعية في الولايات المتحدة، ليُحكم عليه بالإعدام و13 آخرين بتهمة حضور تجمعات مناهضة للحكومة. إلى جانبه عبد الكريم الحواج الذي اعتُقل أثناء عودته من عمله إلى منزله في 16 آذار/ مارس 2014 وتوفي والده بعد شهرين فقط من إصدار الحكم بحقه. معهما أيضاً منتظر السبيتي، وهادي آل هزيم، وسلمان آل سريح، ومنير عبد الله آل آدم الذي كان يعاني، لدى اعتقاله من أحد المراكز التجارية في القطيف في 8 نيسان/ أبريل 2012، من فقدان جزئي للسمع والبصر، وبفعل عمليات التعذيب التي تعرّض لها على مرّ سنوات اعتقاله فقدهما كلياً. وعلى القائمة كذلك ثلاثة وجهاء من مدينة سيهات في محافظة القطيف، هم علوي موسى الحسين، وإبراهيم علي الحميدي، وحسين علي الحميدي.
وفقاً لمصادر حقوقية، خضع المعدَمون لمحاكمات سرية، وحُرموا حقَّهم في توكيل محامين للدفاع عنهم، كذلك أُجبروا على توقيع اعترافات منتزعة منهم تحت التعذيب، استخدمتها المحكمة الجزائية لاحقاً لإدانتهم. حتى منير آل آدم، الذي يُعدّ من ذوي الاحتياجات الخاصة، وفق السجلات الطبية، عُذِّب بالضرب على أذنيه ورأسه وتكسير أصابع يديه وقدميه، وإرغامه على توقيع اعترافات كاذبة. أما عبد الكريم الحواج، فتعرّض للصعق الكهربائي، وربطه لساعات طويلة إلى الجدار. وهو عين ما طاول أيضاً الشاب سلمان آل قريش، الذي اعتقل في 6 كانون الثاني/ يناير 2013، وسبّب له التعذيب مرضاً في القلب، وفقداناً جزئياً للبصر، والتهاباً في المعدة. تلك عيّنة من قصص 33 سعودياً، فتح بهم ابن سلمان فصلاً جديداً من فصول التوحّش، «مبشّراً» بمرحلة أشدّ سوداوية، تتجاوز بأشواط ما سطّره الأمير الشاب منذ اعتلائه سدّة السلطة في بلاده.