في ظهور هو الثاني من نوعه، بُثّ أمس شريط مصور لزعيم تنظيم «داعش» أبو بكر البغدادي. وإذا كان الظهور الأول قد دشّن مرحلة «إعلان الخلافة»، فإن ظهور أمس يبدو مُفتتحاً لمرحلة جديدة من مراحل التنظيم المتطرّف. مرحلة يعدّل فيها أولوياته الجغرافية و«الأيديولوجية»، ويتمسك بأن «المعركة طويلة»
ولا يمكن الجزم بأن التنظيم المتطرف قد قرر الكفّ بالفعل عن استعداء «غير الصليبيين» واستهدافهم، لكن الحديث الأخير يؤشر حتماً إلى أن أهداف المرحلة تتطلّب العودة إلى أحد الجذور الأساسية للحركة «الجهادية»، وهو «مقارعة الهيمنة الغربية، وأتباع الصليب». يبدو هذا الميل أشبه بـ«انحراف مرحلي» عن «نهج أبو مصعب الزرقاوي»، الذي طبع أداء التنظيم بطابعه لسنوات طويلة (منذ نشأته عام 2006)، في مقابل الاقتراب من «نهج أسامة بن لادن»، مؤسس تنظيم «القاعدة»، والداعي إلى «مجاهدة العدو البعيد». وتخدم هذه الفكرة تمسّك البغدادي بـ«عالمية المعركة»، وهي في الواقع ضرورة حتمية لاستمرار «داعش»، ورفد خزانه البشري بـ«المهاجرين». ويجدر، ضمن هذا السياق، التنبّه إلى أن البغدادي حرص على تعداد جنسيات «القادة» الذين خسرهم في أواخر معاركه في سوريا. وبدا لافتاً أن الجنسية السورية لم تكن حاضرة، في مقابل إبراز لدور العراقيين، وأبناء دول الخليج (تُسمّى تلك الدول في أدبيات التنظيم «جزيرة محمّد»). كما حضرت الجنسيات المصرية (أبو الوليد السيناوي)، والفرنسية، والبلجيكية، والأوسترالية، والشيشانية. لا شك في أن إبراز دور أبناء تلك الجنسيات في المعركة جاء لخدمة «استراتيجية داعش» في المرحلة المقبلة، لكن خلوّ قائمة قتلاه القادة من السوريين، قد يكون مؤشراً للكيفية التي انتهجها التنظيم في إدارة آخر معاركه العسكرية في سوريا. والمرجح أن «داعش» حرص على فرار مقاتليه السوريين من المعركة، وخروجهم سالمين من الباغوز، وفق تكتيك «الذوبان» الذي يقوم على تخفّي «الجهاديين» في صفوف المدنيين الهاربين من المعارك، ما يعني أن «الخلايا النائمة» للتنظيم في سوريا اكتسبت زخماً جديداً.
حرص البغدادي على تعداد جنسيات «القادة» الذين خسرهم التنظيم
وتقدّم كلمة البغدادي تسليماً بأن «إدارة التوحّش» في سوريا قد انتهت، (في ما يخص تنظيمه، بينما تستمر على يد «تحرير الشام» في إدلب). في المقابل، اهتمّ البغدادي بالتأكيد على أن «الخلافة» لم تنتهِ، من خلال الحديث عن أحوال «الولايات»، وقبول «البيعات»، ومباركة «الغزوات»، من ليبيا إلى سيريلانكا، مروراً ببوركينا فاسو ومالي و«خراسان» (أفغانستان). ومن بين الإشارات اللافتة أيضاً، الكشفُ بطريقة بدت عابرة عن وجود «ولاية تركيا»، علاوة على خصّ فرنسا بالاسم في خلال حث «المجاهدين» على «مطاولة الأعداء واستنزافهم». فالمعركة «مع أمة الصليب طويلة»، وهي وفقاً لتوجيهات البغدادي «معركة استنزاف جميع المقدرات: البشرية، والعسكرية، والاقتصادية، واللوجستية». ويُلاحظ أن الدعوة إلى استهداف فرنسا جاءت في سياق التوجيهات لـ«أتباع الخلافة» في أفريقيا، ما قد يكون «أمر عمليات» يَعِد بهجمات تستهدف الفرنسيين ومصالحهم في أفريقيا قريباً.
البغدادي، لم يغفل أيضاً الإشارة إلى فوز بنيامين نتنياهو في الانتخابات الإسرائيلية، ولا المرور على أحداث الجزائر والسودان، والثناء على جزء من تطوراتهما، وانتقاد جزء آخر في الوقت نفسه. أما سوريا، فقد تولّى النشيد الذي اختُتم به الشريط مهمّة التأكيد على أن المعركة فيها لا تزال مستمرة وإن تغيّر شكلها، فجاء فيه «نفديكم بالأنفس والمال يا أنصار الشام ويا حُماة. فاستبشروا بنصر الإله يا دمشق ويا حَماة»، و«يا أسود الجهاد شدوا الرحال لأرض الشام والفرات».
الصحراوي: رجل المرحلة المقبلة؟
بدا واضحاً أن تعويل البغدادي على أنصاره في القارة الأفريقية كبير. وكان لافتاً حرصه على ذكر اسم أحد أبرز «رجاله» في أفريقيا، وهو أبو الوليد الصحراوي، ما يُدلّل على دور بارز يتوقّع أن يقوم به الأخير. الاسم الحقيقي للصحراوي هو لِحْبيب بن عبدي سعيد، ويُعرف بالإدريسي حبيب، وهو من مواليد مدينة العيون (إحدى مدن الصحراء المغربية). كان أحد قادة «جبهة البوليساريو» الداعية إلى «استقلال الصحراء المغربية» عن المملكة المغربية. في أيار من العام الماضي، أدرجته الخارجية الأميركية على «لائحة الإرهابيين العالميين» تحت اسم أبو الوليد الصحراوي، وبوصفه زعيماً لتنظيم «الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى».