تبدو الإدارة الأميركية الحالية في وضع ملتبس حيال طريقة التصرف مع إيران. سياسة دونالد ترامب، كما أسلافه، تقوم على إخضاع العالم. لكن لكل أسلوبه. ترامب الذي يهوى عقد الصفقات، يدرك أن الأمر يتطلب تجميع عناصر القوة قبل المفاوضات وأثناءها، ويقيس الأمور بحسب ما تمليه عليه المصلحة المباشرة لأميركا كما يراها. وهو يتصرف على هذا النحو في ملف إيران. لكن العنصر المتغير هنا، يتعلق بطبيعة فريقه الداخلي، وطبيعة مصالح أميركا وحلفائها في العالم والمنطقة. إذ إننا أمام تحالف (له رأي آخر حيال إيران)، يشمل فرق وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي وقوى نافذة في أميركا، وتحالف إسرائيل – السعودية – الإمارات، إضافة إلى أصوات أوروبية. وهو تحالف يعتقد بأن لا إمكانية لأي تفاهم مع إيران تخضع بموجبه طهران للسياسات الأميركية، وأنه حان الوقت لتوجيه ضربة كبيرة إلى هذا البلد، تدخله في أزمة لا يخرج منها، وتؤدي إلى انهيار سياسي داخلي، وتضعف كل المحور الذي يقوده في المنطقة. ولدى أصحاب هذا الرأي حجتهم، في أن الحروب التي شهدتها المنطقة منذ عام 2001، في العراق وسوريا وفلسطين ولبنان، لم تحقق غايتها بضرب الاستراتيجية الإيرانية المعادية لمصالح الغرب وإسرائيل. وبالتالي، من غير المجدي التوجه مرة جديدة إلى «الأذرع»، بل يجب ضرب الرأس مباشرة.
حتى اللحظة، لا قدرة لأحد على حسم الوجهة الأميركية. الاستنفار السياسي والعسكري والدبلوماسي والإعلامي، لا يعكس بالضرورة وجهة الحرب، لكنه يجعل المسرح مؤهلاً لخوض مواجهة كبيرة، قد لا تكون ساحاتها محصورة، أو نهاياتها محسومة. وهذا ما يجعل النقاش أكثر واقعية من قبل الجميع، حتى لو كانت عناصر الحافزية عالية عند خصوم إيران وأعدائها. في هذه الحالة، نحن أمام نموذج شبيه بنموذج المواجهة بين إسرائيل وحزب الله في لبنان. إذ لدى العدو كل الأسباب لشنّ حرب ضخمة، ومناخ سياسي إقليمي مناسب من حيث العداء والتجييش ضد الحزب في عدد غير قليل من العواصم العربية، واستمرار المناخ المعادي له في لبنان. لكن في إسرائيل جهات مهنية معنية بالقرار ترى أن عناصر النجاح تتطلب الوقوف على جردة الإمكانات وطبيعة الأداء والقدرة على حسم المعركة. وهنا المعضلة، عدا عن كون الكلفة صارت تتجاوز كل التقديرات السابقة.
الحال نفسها تنطبق على إيران. فمن المؤكد أنه لا يوجد من يجرؤ اليوم على الدعوة إلى المواجهة الشاملة. لكن كثيرين يريدون العمل لمنع تراكم نقاط القوة لدى طهران. وفي هذا السياق يندرج ما نقل عن وزير الخارجية مارك بومبيو بأن الأمر يتعلق بكون إيران قادرة على التحول من دولة قوية جداً إلى دولة عظمى، وهذا ما يوجب عملية الاحتواء. ومن جهة أخرى، لا يبدو أن الأميركيين مقتنعون بأنّ الحصار القائم وبرامج العقوبات المتوالية قادرة على إخضاع القيادة الإيرانية. وليس تفصيلاً أنه بعدما أرسل ترامب رقم هاتفه، تولى المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، السيد علي الخامنئي الردّ، مؤكداً أن لا رضوخ للطلبات الأميركية، ومضيفاً سقفاً جديداً برفضه أي نوع من التفاوض مع واشنطن. وترافق ذلك مع برنامج عمل تعتمده طهران، ويقوم على تصعيد المواجهة مع كل مَن لا يريدون تحمل المسؤولية في الصراع القائم.
الداعون إلى الحرب يفترضون أن إيران تواجه صعوبات ستدفعها إلى التراجع والتفاوض. بعض هؤلاء يقرأ حال إيران اليوم كحالها قبل ثلاثين سنة. وهم يعتقدون، مخطئين، أنّ القيادة الإيرانية ستفضل مصلحة بقاء النظام على أي أمر آخر، وأنه كما قبل الإمام الخميني قرار وقف الحرب مع العراق في القرن الماضي، فإن الضغوط – مع ضربة قاسية – كفيلة بجعل هذه القيادة تتراجع.
تملك ايران محوراً واسعاً من الحلفاء الذين سينضوون الى جانبها في المعركة
ولكن، ربما فات هؤلاء مراجعة من نوع آخر لحال إيران نفسها، ولأوراق القوة التي تمتلكها. وفي هذا السياق يمكن إيراد الآتي:
– إيران اليوم أقوى بمئات المرات، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً ونفوذاً، ممّا كانت عليه أيام الحرب مع العراق. وهي تملك قدرات تجعلها تواجه – ولو مع صعوبات – كل الحصار المفروض. وطبيعة الاقتصاد القائم فيها تتيح مواجهة هذا النوع من الضغوط الاقتصادية.
– طهران اليوم تملك علاقات قوية في الإقليم والعالم لا تجعلها في حالة عزلة. فدول الخليج التي وقفت إلى جانب صدام حسين في حربه على إيران، لم تعد تفكر في الطريقة نفسها، وخشيتها على نفسها أكبر من خشيتها على المصالح الأميركية، حتى ولو كانت عاجزة عن التصرف. وحتى أوروبا نفسها، كما تركيا وأفغانستان وباكستان وروسيا، تتعامل مع إيران اليوم بطريقة مختلفة. ولن تجد واشنطن في هذه الدول مكاناً مفتوحاً لإدارة حرب مدمرة ضد إيران.
– تملك إيران اليوم ترسانة عسكرية من النوع الذي يهدد أقاصي الغرب الأوروبي، فضلاً عن القدرة التدميرية الهائلة ضد كل مواقع النفوذ في الشرق الأوسط برمته. وتملك قدرات قتالية تجعلها تفتح الحرب لفترة زمنية لا تتناسب مع مصالح جيوش ودول كبيرة كأميركا، فضلاً عن كونها تعطل، بل ربما تطيح، دولاً وهمية قائمة اليوم.
– تملك إيران محوراً من الحلفاء المنضوين إلى جانبها في المعركة. من جيش فعلي في أفغانستان، وقوة كبيرة النفوذ في سوريا والعراق، وحزب له قدرات دول مثل حزب الله، وقدرات هائلة في اليمن… إضافة إلى حلفاء في فلسطين ومناطق أخرى من العالم العربي يشعرون بالحاجة إلى مناصرة إيران.
في لعبة الرسائل المضادة، لم يكن القصف الذي نفذته طائرات تابعة للقوات اليمنية ضد منشآت نفطية مركزية في السعودية من دون نتائج. حتى العمليات التي استهدفت ناقلات نفط في الإمارات، بمعزل عمّن قام بها، كان لها الصدى المتصل مباشرة بكيفية التعامل مع فكرة أن تشن حرباً قاتلة ضد بلد كإيران. مع ضرورة الإشارة إلى أن الناقلات التي ضربت في الإمارات لم تكن في دبي، أو داخل الخليج العربي أو الفارسي، بل خارج نقطة مضيق هرمز. وهنا تنبغي الإشارة إلى أنه كان هناك من يقول بأن إقفال إيران لهذا المضيق لن يعوق حركة نقل النفط من المناطق الخارجة عنه في الخليج. لذا، ما من أحد يمكنه التأكد من عدم القدرة على تكرار مثل هذه العمليات وتوسيع مساحتها ومواقعها وقوتها.
كذلك فإن هناك ملفاً آخر، يجدر بالمراقبين التوقف عنده. فقد طلبت الإدارة الأميركية من رعاياها في كل دول المنطقة التحسب، وفرضت نوعاً من حظر التجوال على آلاف الدبلوماسيين والموظفين التابعين لها في دول المنطقة. وهي تقوم بمناورات لحماية قواعدها العسكرية أو مقارّها الدبلوماسية والسياسية في هذه الدول. لكن هذا الإجراء لا يعني شيئاً إذا ما نشبت الحرب. وحتى حلفاء الولايات المتحدة الذين يحثونها على الحرب، من إسرائيل إلى السعودية والإمارات وبلدان أخرى، يدركون تماماً أن ألسنة اللهب ستصل إليهم متى اشتعلت النيران.
وفي ما يخصنا نحن، في لبنان وفلسطين، يدرك الجميع أن أبرز أهداف الحرب على إيران هو ضمان الأمن والسلامة لإسرائيل، من خلال ضرب حلفاء إيران في المنطقة. إسرائيل تعرف جيداً، وهذا أمر حقيقي ومعروف، أنها ستكون معنية بالدخول في الحرب، وستكون هدفاً حقيقياً لحلفاء إيران، وهي ستتصرف على أنها أمام فرصة ضرب «وكلاء إيران» على ما قال وزير الخارجية الأميركي.
اليوم، ثمة تحريض على حزب الله في كل الخطاب الأميركي والإسرائيلي والسعودي الموجه ضد إيران. هؤلاء يريدون رأس الحزب قبل كل شيء. وحزب الله يعرف هذا الأمر تماماً. كما يعرف نقاط قوته، ويعرف موقعه في المعركة. وحتى لا يكون أحد في حالة التباس، ولكي لا يتصرف أحد على طريقة أنه لم يكن يعلم طبيعة المواجهة، فإن حزب الله سيكون في قلب هذه المعركة.
يكفي تقديم صورة واحدة: عندما كان تهديد العدو يتعلق بمقاومين أو منشآت في لبنان، خرج السيد حسن نصرالله وأشار إلى مفاعل ديمونا وحاويات الأمونيا في حيفا. فكيف يمكن تصور موقفه متى تعلق التهديد بإيران، مركز محور المقاومة وحاميه؟
سُئل القائد السوفياتي التاريخي، جوزيف ستالين، يوماً عن طبيعة علاقة الاتحاد السوفياتي كمركز الحركة الشيوعية بالأحزاب والقوى الشيوعية في العالم، فأجاب: نحن ندعم ونرعى كل الأحزاب الشيوعية في العالم. وكل منا يتصرف بحسب موقعه وظروفه. إذا تعرض حزب شيوعي لأزمة في بلده، ندرس سبل مساعدته وما هو الأفضل. لكن، في حال تعرّضنا نحن لأزمة، فإنّ ما ليس مطروحاً للنقاش، أنّ على كل شيوعيي العالم أن يهبّوا للدفاع عن الاتحاد السوفياتي.