استقالة تيريزا ماي، رئيسة الوزراء البريطانية المستحقة، والتي بدا أنها تأخرت كثيراً بحسب ردود الأفعال، ستكون بمثابة نهاية رمزية لنظام سياسي قديم أوصل المملكة المتحدة، بنخبتها الحاكمة وطبقتها العاملة، إلى واحدة من أسوأ مراحلها التاريخية في كافة المجالات. كذلك، ستنطلق فاتحة مرحلة أكثر إظلاماً، فيها وحوش كثيرة وتنانين، قبل أن يولد نظام سياسي جديد لا يبدو أنه في وارد التبلور في وقت قريب
بريطانيا: الأسوأ آتٍ
استقالة تيريزا ماي، رئيسة الوزراء البريطانية المستحقة، والتي بدا أنها تأخرت كثيراً بحسب ردود الأفعال، ستكون بمثابة نهاية رمزية لنظام سياسي قديم أوصل المملكة المتحدة، بنخبتها الحاكمة وطبقتها العاملة، إلى واحدة من أسوأ مراحلها التاريخية في كافة المجالات. كذلك، ستنطلق فاتحة مرحلة أكثر إظلاماً، فيها وحوش كثيرة وتنانين، قبل أن يولد نظام سياسي جديد لا يبدو أنه في وارد التبلور في وقت قريب.
في خطاب مقتضب ألقته من أمام مقرّ رئاسة الوزراء البريطانية في «10 داونينغ ستريت»، صباح أمس، أعلنت تيريزا ماي، رئيسة الوزراء الأسوأ في تاريخ المملكة المتحدة ـــ باتفاق الكثيرين ـــ عزمها على الاستقالة من رئاسة حزب «المحافظين» الحاكم، وحكماً من المنصب التنفيذي الأرفع في البلاد يوم السابع من حزيران/ يونيو المقبل، وأنها أبلغت الملكة إليزابيث الثانية مسبقاً بذلك. ويبدو أن الرئيسة العتيدة أرادت تأجيل ما بدا محتّماً بعد جلسة مجلس العموم، يوم الثلاثاء الماضي، لعدة أيام، تجنّباً لإرباك زيارة الدولة التي سيقوم بها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إلى لندن. وبينما حاولت ماي التظاهر بالقوة، إلا أنها تهدّجت وبكت كطفلة، من دون أن تجد أحداً ليصدّقها أو ليذرف على رحيلها الدموع، لا بين رفاقها في السلطة وحزب «المحافظين» الحاكم ولا من أعدائها في المعارضة أو الأقاليم، ناهيك عن كمّ تشفٍّ شعبي محلي وأوروبي غير مسبوقين، وذلك بعدما استنفدت كل رصيدها من المصداقية والتعاطف، إثر ثلاث سنوات من العناد والانغلاق وسوء الإدارة.
كانت ماي تراهن، حتى اللحظة الأخيرة، على حصولها على تأييد من مجلس العموم لمشروع الاتفاق الذي توصّلت إليه مع الاتحاد الأوروبي في شأن طريقة تنفيذ «بريكست»، بعدما كان قد رفضه المجلس ثلاث مرات. وهي حاولت تقديم تنازلات لمختلف الأطراف، سواء المؤيدين لفكرة إنهاء عضوية المملكة أو المعارضين لها. لكن ذلك لم يقنع أحداً، فأعلن جيريمي كوربن ــــ زعيم المعارضة ــــ فشل الحوار بين الطرفين بهذا الخصوص، بينما تقلّصت قاعدة الدعم لها داخل حزبها إلى مستوى استقالة رئيسة كتلة النواب «المحافظين» في المجلس، ومسارعة عدد من الوزراء الذين يتولّون مناصب سيادية مهمة إلى مواجهتها بحقيقة أنهم لن يمكنهم الوقوف إلى جانبها، وأنه قد حان الوقت لمغادرتها المنصب. وممّا فاقم الأمور بالنسبة إلى ماي، أن حزب «الوحدويين الديموقراطيين» الإيرلندي الشمالي الذي تحالف معها لإبقائها في السلطة بعد انتخابات 2017، أعلن عدم تأييده الاتفاق، الأمر الذي كان سيعني هزيمة مذلّة جديدة للحكومة في حال حصول التصويت على المشروع، حتى لو دعمها نواب «المحافظين» كافة. يأتي هذا كلّه في ظلّ توقعات متوافَق عليها من قِبَل جميع المراقبين بأن الحزب الحاكم سيحظى برقم أدنى في انتخابات البرلمان الأوروبي، والتي ستعلن نتائجها يوم غد الأحد، بحيث لن تتجاوز فضاء الـ7-10%، في رسالة احتجاج شديدة اللهجة من الناخبين على أداء ماي شخصياً وحكومتها.
سيكون انسحاب ماي بمثابة فاتحة رمزية لأزمة أعمق
استقالة ماي، التي ستستمر في تصريف الأعمال لحين تكليف رئيس وزراء جديد، ستفتح الباب أمام الطامحين للخلافة من أعضاء حزب «المحافظين» لخوض منافسة تُصّوت فيها قاعدة الحزب لمصلحة أحدهم. وستأخذ هذه الإجراءات عدّة أسابيع على الأقل، وربما حتى نهاية تموز/ يوليو المقبل قبل أن يُحسم الأمر. على أن ذلك قد لا يكون كافياً لتولي حكومة جديدة مقاليد السلطة، إذ إن العرف يقضي بحلّ البرلمان والدعوة إلى انتخابات عامة جديدة، في حال فشل مرشح حزب الأغلبية في الحصول على ثقة مجلس العموم خلال 14 يوماً من تكليفه، لا سيما وأنه يستبعد أن تقدم الملكة على ممارسة حقها الدستوري في أن تكلّف زعيم الكتلة الثانية الأكبر في المجلس ــــ جيريمي كوربن ــــ تشكيل الحكومة.
تجربة ماي الفاشلة في الحكم ليست مسألة فردية. فهذه الحكومة تمثّل منظومة مصالح نخبوية، كما تابعت سياسات الحكومات اليمينية المتعاقبة السابقة التي تجرّأت، وبشكل خاص بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008، على تنفيذ أقسى سياسات التقشف، والمساس بمكتسبات الفئات الأقلّ حظاً في المجتمع، لمصلحة القلّة من الأثرياء. وقد تسببت تلك السياسات في تفاقم مستويات الفقر والتشرد وسوء التغذية وانتشار الدعارة والجريمة على نحو استدعى تقريعاً نادراً من الأمم المتحدة للحكومة التي تدير خامس أكبر اقتصاد في العالم. لكن الأخطر من ذلك كلّه، أن ماي ورفاقها بذلوا كل ما في جعبتهم لخلق أجواء من عداوات واستقطاب بين فئات المجتمع، ومكّنوا لصعود موجة من الفاشية الجديدة سمّمت الأجواء السياسية والاجتماعية، وما لبثت تتفاقم يوماً بعد يوم وتهدّد بحصول اضطرابات وأعمال عنف لا تعرف عقباها.
بناءً عليه، سيكون انسحاب ماي القسري من المنصب الأهم في النظام بمثابة فاتحة رمزية لأزمة أعمق. وأوضح مثال على ذلك، قائمة المرشحين لخلافة ماي. إذ إن أوفر من تضمّ حظاً هو بوريس جونسون، وزير الخارجية السابق الذي يعتبره القادة الأوروبيون «مهرّجاً أخرق شوفينياً لا يمكن التعامل معه». وعلى رغم وفرة الطامحين في حزب «المحافظين»، وتعدّد ألوانهم، إلا أن جميعهم مثله متورّطون في مواقف عنصرية، وإخفاقات مهنية في مجالات اختصاصهم، مع أنهم في النهاية قد يتوحّدون جميعاً، شريطة إبعاد شبح الزعيم اليساري المعارض جيريمي كوربن عن السلطة.
ولكن، حتى لو تمكن هؤلاء من البقاء ممسكين بمقاليد الحكم، فإنهم مضطرون للتعامل مع استحقاق تنفيذ «بريكست»، باتفاق أو من غير اتفاق، في مهلة تنتهي يوم 31 تشرين الأول/ أكتوبر المقبل. وهو أمر فشلت فيه حكومة عمرها ثلاث سنوات، فكيف بحكومة لن تكون أمامها إلا مهلة ثلاثة أشهر، فيما قد تتسبب أي خطوة في الاتجاه الخطأ بكارثة اقتصادية واجتماعية، وربما تفكّك المملكة المتحدة برمّتها؟
قبل أسابيع، كان المخرج الأفضل للجميع هو في إجراء انتخابات عامة مبكرة قد تعيد ترتيب الأوراق، وتمنح أحد الأطراف مشروعية إدارة ملف العلاقة مع الاتحاد الأوروبي. الأمور تغيّرت اليوم، ولم تعد النخبة السياسية البريطانية قادرة على استشراف المستقبل، بعدما بدا أن نتائج الانتخابات الأوروبية ستكشف عن تآكل نهائي في قاعدة تأييد الناخبين للحزبين الكبيرين، وتشظٍّ لأصوات الناخبين بين بقية الأحزاب التقليدية، مقابل صعود صاعق لتيارات اليمين المتطرف والفاشيين الجدد.
تيريزا ماي… الرئيسة التي هزمها «بريكست»
أمس، أعلنت تيريزا ماي استقالتها، واضعة حدّاً لثلاث سنوات عجاف، عاشتها هي وحزب «المحافظين» وبريطانيا ككل. ولكن قبل ذلك، كانت لماي حياة سياسية حافلة وناجحة، تسبّبت هفواتها وقراراتها الأخيرة بتحويلها إلى «إرث من الفشل»
ثلاث سنوات عجاف قضتها ماي في رئاسة الحكومة، كانت كافية لتمحو حياة سياسية ناجحة وحافلة بالإنجازات، في مختلف المناصب التي تبوّأتها. انتُخبت عضواً في البرلمان عن مقاطعة ميدنهاد عام 1997. وهي، منذ ذلك الحين، تتنقّل من منصب إلى آخر في البرلمان وخارجه. كانت عضواً في حكومة الظل من عام 1999 إلى عام 2010. ومن عام 2002 إلى عام 2003، كانت المرأة الأولى التي تترأس حزب «المحافظين».
نقطة التحوّل في حياتها السياسية برزت عام 2002، أثناء خدمتها كرئيسة لحزب «المحافظين»، حينما خاطبت أعضاء الحزب في مؤتمره السنوي. كان «المحافظون» خارج السلطة لمدة خمس سنوات، في ظلّ فوز حزب «العمّال» مُمثَّلاً بتوني بلير برئاسة الحكومة. «قاعدتنا ضيقة جداً. أنتم تعرفون ماذا يسمّينا البعض: الحزب السيئ»، قالت ماي خلال ذلك المؤتمر، لتمهّد بخطابها الطريق أمام حقبة جديدة. في عام 2005، انتخب الحزب ديفيد كاميرون قائداً. عرف هذا الأخير أهمية دعم ماي، فجَعَلها حليفة قريبة منه. وجنباً إلى جنب، مع أعضاء آخرين في الحزب، أشرف على التحديث الشامل لـ«المحافظين». أصبح كاميرون رئيساً لحكومة ائتلافية مع الديموقراطيين الليبراليين من يسار الوسط عام 2010. ومرة أخرى، وسط إدراكه أهمية ماي واستقطابها للأعضاء الأكثر محافظة في قاعدة الحزب، جعلها وزيرة للداخلية. كانت هذه الأخيرة تُعتبر دائماً واحداً من أقوى أعضاء مجلس الوزراء. وبناءً على هذا الاعتبار، اختيرت لقيادة الحزب في فترة «بريكست». وبناءً عليه أيضاً، اختارها أعضاؤه لتصبح رئيسة للحكومة في آذار/ مارس 2016. ولكن منذ ذلك الوقت، تراجع أداء ماي و«المحافظين». وأدى سوء إدارة «المحافظين»، وسوء تحكّم الحزب بـ«بريكست»، إلى إذلال إحدى أقدم وأبرز المنظمات البريطانية السياسية، حتى وصل الأمر بالبعض إلى حدّ التأكيد أن «إرث ماي» سيُرسم عبر الخسارات، والإذلال العام، والخطأ الكارثي في الحسابات.
بدأ هذا الخطأ يظهر على العلن قبل شهر من الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي، عندما كانت ماي تخوض حملة من أجل بقاء بريطانيا في التكتّل. «أظن بأن الحجج الاقتصادية واضحة. أعتقد بأن كوننا جزءاً من كتلة تجارية يبلغ عدد سكانها 500 مليون نسمة أمر مهم بالنسبة إلينا. وأعتقد بأن إحدى المسائل هي أن الكثير من الناس يستثمرون هنا في المملكة المتحدة لأنها في الاتحاد الأوروبي»، قالت ماي أمام «غولدمان ساكس». يومها، بدا من الواضح أنها تعرف القليل عمّا سيكون لاستفتاء الخروج من تأثير على مستقبلها. لقد فتح هذا التصويت باب «داونينغ ستريت» أمامها، بعدما أعلن كاميرون استقالته. لكنه كان، في الوقت نفسه، العامل الذي حدّد خطوط رئاستها وسيطر عليها ودمّرها!
بعد فوزها بالسباق لخلافة كاميرون رئيسةً للحكومة، كان شعار ماي هو «بريكست يعني بريكست»، في إشارة إلى إصرارها على احترام نتائج الاستفتاء. أطلقت العملية الرسمية لخروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي في آذار/ مارس 2017. ولكن بعد ذلك بشهر واحد، اقترفت خطأ حسابياً جديداً، بإعلانها عن انتخابات مفاجئة تهدف إلى مساعدة حزبها الحاكم على الاستفادة من تصنيفات استطلاع جيدة. جاءت نتائج هذه الانتخابات عكسية وكارثية، ذلك أن حزبها خسر غالبيته في البرلمان. خسارةٌ ستضرب قدرة ماي لاحقاً على الحصول على صفقتها لـ«بريكست».
رأى كثيرون أن «إرث ماي» سيُرسم عبر الخسارات والإذلال العام
خلال حملتها الانتخابية، كرّرت ماي شعارها عن أنها هي وحدها القادرة على تأمين «قيادة قوية ومستقرة» من أجل تخطّي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ولكن عندما أعلنت خطتها لـ«بريكست»، ترك عدد كبير من الوزراء الحكومة اعتراضاً على ما وصفوه بـ«اتفاق تنازل لا يلبّي نتائج الاستفتاء». عنى ذلك يومها أنها بدأت بالظهور بمظهر منعزل في الداخل، كما كانت أثناء قمة الاتحاد الأوروبي، حين لم يكن هناك من تتحدّث معه، لتلي ذلك هزائم مدوية ومتتالية داخل أروقة البرلمان، تمثّلت برفض اتفاقها للخروج عندما عُرض أمام مجلس العموم في كانون الثاني/ يناير 2019، ومن ثم رفضه للمرة الثانية في منتصف آذار/ مارس، ولاحقاً لمرة ثالثة في الـ 29 من الشهر نفسه، أي في اليوم الذي كان من المفروض أن تخرج فيه بريطانيا من التكتّل.
أخيراً، في جلسة الثلاثاء الماضي في مجلس العموم، رفض النواب اتفاق الانفصال الجديد، واضعين المزيد من الضغوط على قيادتها، لتنهي تيريزا ماي مرارتها، أمس، بالدموع، مُحوّلة شعار «بريكست يعني بريكست» إلى «لم أتمكّن من تسليم بريكست».
من «بريكست يعني بريكست»… إلى «لم أتمكن من تسليم بريكست»
– 11 تموز/ يوليو 2016، بينما كانت مرشحة لزعامة حزب «المحافظين»: «بريكست يعني بريكست وسننجح فيه».
– 13 تموز/ يوليو 2016 في أول خطاب لها رئيسةً للوزراء: «عند مغادرتنا الاتحاد الأوروبي، سنقوم بدور جريء وجديد وإيجابي لأنفسنا في العالم».
– 17 كانون الثاني/ يناير 2017: «بعد كل الانقسام والخلاف، ستجتمع البلاد».
-29 آذار/ مارس 2017 مع بدء العد التنازلي للمغادرة وفقاً لقواعد الاتحاد الأوروبي: «هذه لحظة تاريخية لا يمكن العودة عنها».
– 15 كانون الأول/ ديسمبر 2017: «ما صوّت الناس له العام الماضي كان بالنسبة إلينا لمغادرة الاتحاد الأوروبي، وسنترك الاتحاد الأوروبي في 29 مارس 2019».
– 20 كانون الأول/ ديسمبر 2017: «نحن واضحون للغاية، سوف نغادر الاتحاد الأوروبي في 29 مارس 2019، الساعة 11 مساءً».
– 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 2018: «واضح أن الناس صوّتوا لمصلحة المغادرة. حتماً سوف نغادر الاتحاد في 29 آذار/ مارس 2019».
– 7 شباط/ فبراير 2019: «أنا على يقين من أنّني سأنجز بريكست، سأنجزه في الوقت المحدد».
– 24 شباط/ فبراير 2019: «لا يزال في متناول أيدينا مغادرة الاتحاد الأوروبي بصفقة في 29 آذار».
– 20 آذار/ مارس 2019: «بعد مرور عامين، لم يتمكن النواب من الاتفاق على طريقة لتنفيذ انسحاب المملكة المتحدة. نتيجة لذلك، لن نغادر في الوقت المحدد… شخصياً، هذا التأخير هو شيء سأندم عليه جداً».
– 27 آذار/ مارس 2019: «أعرف أن هناك رغبة في اتباع نهج جديد وقيادة جديدة، في المرحلة الثانية من مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ولن أقف في طريق ذلك».
24 أيار/ مايو 2019، أثناء إعلانها الاستقالة: «لم أتمكن من تسليم بريكست».