الـ 10 والـ 13 من حزيران/ يونيو 2014. تاريخان لن يُمحَيا من الذاكرة الجمعية العراقية. في الأول إعلانٌ لسقوط الدولة، وفي الثاني دعوةٌ إلى استعادة هيبتها. أسباب السقوط المدوّي لمدينة الموصل بيد «تنظيم داعش» محلية وإقليمية ودولية، وتراكمية منذ اجتياح الولايات المتحدة وحلفائها البلاد عام 2003. دوافع فتوى «الجهاد الدفاعي» أيضاً، وتأسيس «الحشد الشعبي» لاحقاً، كثيرةٌ كذلك. صحيحٌ أن العراقيين قضوا على أكثر التنظيمات تطرّفاً، إلا أن عوامل عودته لا تزال قائمة، بدءاً بالفساد المستشري في مؤسسات الدولة، وافتقاد الثقة بها لعجزها عن النهوض بنفسها، وهشاشة الواقع الأمني، وارتخاء العملية السياسية، وصولاً إلى استمرار تخييم شبح التقسيم الذي زرع الاحتلال بذوره في «دستور المكوّنات» الطائفية والعرقية. وإذا ما أضيف إلى ذلك، استمرار سعي بعض النخب إلى مشاريعها الخاصة، بالتعاون مع أطراف إقليمية أو دولية، يصبح السؤال عن إمكانية انبعاث الإرهاب أكثر من مشروع. في السنوية الخامسة لـ«زلزال» الموصل، وما أعقبه من «فتوى» أسّست لـ«الحشد الشعبي»، تنشر «الأخبار» مجموعة تقارير ومقالات تستعرض وقائع تُكشف للمرة الأولى، وتشرّح بعضاً من جوانب الحدث، وتحاول استشراف مستقبل التوحش في بلاد الرافدين
ما وراء الظاهرة «الداعشية»: الفشل في بناء مؤسسات الدولة… أولاً
ما زالت القراءات التي تتناول ظاهرة «داعش» تُغلّب الأبعاد الأمنية أو الطائفية على تلك السياسية في محاولات فهمها. زيد العلي، الخبير العراقي في القانون الدستوري المقارن والباحث في شؤون العراق، يقدم لـ«الأخبار» مقاربة تلقي الضوء على مركزية البعد السياسي، المتمثل في فشل النخب السياسية التي تحكم العراق منذ الاحتلال الأميركي في إعادة بناء الدولة ومؤسساتها، وبالتالي في صعود هذه الظاهرة. وللعلي، الذي كان مستشاراً قانونياً للأمم المتحدة في العراق بين عامَي 2005 و2010، كتاب مهم بعنوان «الصراع على مستقبل العراق» صدر باللغة الإنكليزية، وعشرات الدراسات والمقالات.
«الوضع شديد الغموض والتعقيد». هذا ما يصف به الباحث العراقي، زيد العلي، الحالة العراقية الراهنة، في ظلّ المخاوف من انبعاث تنظيم «داعش» أو غيره من التنظيمات الإرهابية. يرى العلي أنه لا يمكن الجزم بحتمية تحقق هذا الاحتمال، لكنه يشدّد على أن عوامل عديدة ملائمة لذلك الانبعاث لا تزال قائمة، على رأسها «الضعف البنيوي الشديد لمؤسسات الدولة العراقية، كالقضاء وأجهزة الشرطة والاستخبارات… نتيجة للفساد وللمنافسة بين الأحزاب وبين الميليشيات وبين دول الجوار»، مضيفاً أنه «قد تكون بعض التغييرات طرأت هنا أو هناك لكنها طفيفة جداً». ينبّه العلي إلى أن «بعض التحليلات، التي تتبنّى المنظور الطائفي، تركز على أن سياسات التمييز والقمع والتعذيب والاغتيال معتمَدة حصراً بحق المناطق السنية، والواقع أنها تشمل عدة مناطق أخرى»، لافتاً في هذا الإطار إلى «سوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية في البصرة، التي تعرّض مئة ألف طفل فيها للتسمّم بسبب تلوث المياه، والتي تواجه أيضاً انقطاعاً شبه كامل للتيار الكهربائي. وقد ووجهت التظاهرات فيها بإطلاق النار، ووقع بعدها العديد من الاغتيالات، تحدث الإعلام عن بعضها، ولم يتمّ تناول تلك التي وقعت بعد انتهاء الاحتجاجات».
وعليه، يطرح سؤال عن أسباب نمو الظاهرة الإرهابية في المناطق «السنية» تحديداً، وغياب التمرد المسلح ضدّ الدولة في المناطق «الشيعية». يشدد العلي، عند مقاربة هذا الموضوع، على ضرورة «التمييز بداية بين القطاع الأوسع من المجتمع العراقي من جهة، والنخبة السياسية من جهة أخرى. القطاع الأوسع من المجتمع في المناطق الشيعية والسنية لا يعير اهتماماً للمسألة الطائفية. لقد اعتبر البعض أن المناطق السنية بغالبيتها أيّدت داعش، وشاركت في عملياته لأنها تريد عودة نخب سنية لحكم العراق، والخلاص من سيطرة الأحزاب الشيعية. هذه السردية لا علاقة لها البتة بما تقوله الغالبية العظمى من الناس، من مختلف الفئات الاجتماعية، في الموصل وصلاح الدين والأنبار. منذ عام 2003، التقيت بآلاف الأشخاص في أرجاء هذه المناطق. العراقيون بصورة عامة، في هذه المناطق وفي غيرها، يميزون بين الشعب وبين النخبة السياسية والعسكرية والأمنية». يضيف العلي، تالياً، أن «العراق محكوم من قبَل نخب فاسدة ومجموعات من أصحاب الرساميل، من خلفيات مختلفة، شيعية وسنية وكردية، وكذلك بينهم العلماني وحتى الملحد. أطراف هذه النخبة يتنازعون للحصول على حصص أكبر من السلطة ومن ثروات العراق. وإذا أحسّ أحد هؤلاء الأطراف بأنه لم يحصل على النسبة التي يستحق، لا يتورع عن استخدام الطائفية للوصول إلى مبتغاه. قسم من هؤلاء الأطراف اندرج في مخططات إقليمية ودولية، وشارك في عمليات تمرد ضد الحكومة في بغداد، انطلاقاً من الحسابات المذكورة. أما الحكومة في بغداد، فهي ليست مضطرة إلى تشكيل مجموعات مسلحة لتحقيق غاياتها، لأن لديها ما يكفي من القوة والقدرة على استخدام العنف عبر سيطرتها على الشرطة والجيش. تتنازع النخب على السلطة والثروة، والشعب هو الذي يدفع الثمن».
المواطن العراقي العادي لا يأبه للهوية الطائفية لرئيس وزرائه
ولكن ماذا عن الخلفيات الاقتصادية والاجتماعية؟ يلفت العلي إلى أن «الفقر يتزايد باطراد في العراق، ولا وجود لفرص العمل بالنسبة إلى أعداد ضخمة من الشباب (سنوياً، يبلغ نحو 200000 عراقي سن الرشد)»، مضيفاً أن «هناك أيضاً مسألة في غاية الخطورة، وهي التغيّر البيئي، إضافة إلى عدم وجود كهرباء في الكثير من المناطق الزراعية، وتهريب كميات ضخمة من المنتجات الزراعية من خارج العراق إليه بسبب عدم ضبط الحدود، (كلها عوامل) ضاعفت من صعوبة ظروف عيش الفلاحين». ويتابع أن «الدولة العراقية لا تدعم بشكل عام المزارعين، على الرغم من وجود بعض الاستثناءات في السنوات الأخيرة. العراق في الماضي كان من بين أكبر مصدّري التمر في العالم، وبات اليوم يستورده من السعودية وإيران ودول أخرى. التمر العراقي لا يستهلك لعدم وجود كهرباء في المزارع، وانخفاض أجور الفلاحين، وارتفاع أكلاف العيش. العديد من المناطق أصبحت مهجورة وتصحّرت. هذا حال المناطق الزراعية في صلاح الدين التي كانت بين الأغنى في الماضي، وأضحت صحراوية الآن، وهاجر سكانها أو هم يقبعون فيها على حافة المجاعة أو يبحثون عن لقمة العيش بشتى السبل القانونية وغير القانونية».
في تحليله لكيفية استفادة «داعش» من ذلك الواقع، يرى أن «الدواعش، الذين لديهم شبكات محلية، فهموا الأوضاع في المناطق الزراعية، وسعوا لاستقطاب الناس فيها، وشجّعوهم على التحول إلى مقاتلين ليسيطروا في ما بعد على المدن. لقد لاحظنا في تكريت والموصل مثلاً، بعد سيطرة داعش عليهما، أن لهجات المسلحين العراقيين ريفية». يضيف أنه «قبل سيطرتهم على المدن عام 2014، كانوا ينتظرون العواصف الرملية التي تضرب المدن والمناطق الريفية التي لديها تأثير كبير على أوضاع الناس، وحتى على قدرتهم على التنفس. أهل المدن لديهم عادة وسائل لمواجهة مثل هذا الظرف ولعلاج أنفسهم على عكس أهل الريف. كان الدواعش يأتون إلى الريف لمحاولة كسب المؤيدين، ولدينا عدد كبير من الشهادات التي تفيد بذلك». ينبّه العلي إلى أن «هذه الظروف ما زالت موجودة اليوم، بل هي زادت سوءاً لأن التغير البيئي في العراق يتعاظم، فمستويات المياه تنخفض نتيجة للسدود التركية. وإذا أضفنا إلى ذلك ارتفاع درجات الحرارة الكبير (50 درجة في حزيران)، وانقطاع الكهرباء (في محافظة كربلاء مثلاً يتوافر التيار لمدة ثلاث أو أربع ساعات يومياً)، نصل الى استنتاج أن البنية التحتية في العراق متداعية وخدمات الدولة غير متوافرة». وعليه، فإن «الفشل في بناء مؤسسات الدولة، قبل أي اعتبارات أخرى، هو الذي يفسر نمو هذه المجموعات. المواطن العراقي العادي لا يأبه للهوية الطائفية لرئيس وزرائه. ما يهمه هو تحسّن الأوضاع الأمنية والاقتصادية والخدماتية في بلاده».
«الحشد» في ذكراه الخامسة: كيف تبقى خارج «اللعبة»؟
ثلاثة أيام فقط، بين الـ 10 من حزيران/ يونيو 2014 والـ 13 منه، هي التي فصلت سقوط مدينة الموصل، عاصمة الشمال، بيد تنظيم «داعش»، عن التطور الذي أطلق صافرة البدء لانتظام عدد كبير من الشباب في إطار مسلّح، ستكون له لاحقاً اليد الطولى في هزم التنظيم، ومنعه من السيطرة على بلاد الرافدين. دعوة «المرجعية الدينية العليا» (آية الله علي السيستاني)، العراقيين، إلى «الجهاد الدفاعي» صوناً لـ«الوطن والمقدسات والحرمات»، كان لها الدور الأبرز في دفع الآلاف نحو معسكرات التدريب، التي ولدت من رحمها لاحقاً «هيئة الحشد الشعبي». هذه الهيئة، التي باتت لها كتلة ممثلة داخل البرلمان العراقي، تبدو اليوم محلّ تساؤلات، في ظلّ المعضلات الكبيرة التي يمور بها الواقع العراقي، والتي لا يظهر أن ثمة أحداً محصّن إزاءها.
لعلّ ذلك هو ما أرادت المرجعية التنبيه إليه، في خطبتها أمس بمناسبة الذكرى السنوية الخامسة لتأسيس «الحشد»، إذ أشارت إلى أن «الخلاف دبّ مجدّداً في صفوف الأطراف الماسكة لزمام الأمور… بين قوى تريد الحفاظ على مواقعها السابقة، وقوى أخرى برزت خلال الحرب مع داعش تسعى إلى تكريس حضورها والحصول على مكتسبات معينة»، في تلميح إلى الذراع السياسية لـ«الحشد». وأضافت «المرجعية»، بلهجة حادّة، إن «التكالب على المناصب والمواقع لا يزال قائماً، والمحاصصة المقيتة تمنع من استكمال التشكيلة الوزارية… عدا عن استشراء الفساد في مؤسسات الدولة»، لافتة إلى أن القوى السياسية جميعها لم تتخذ «خطوات عملية واضحة للحدّ من الفساد ومحاسبة المتورطين فيه». بناءً على ما تقدم، دقّت «المرجعية» ناقوس الخطر بعد أقلّ من عامين على «الانتصار العظيم»، محذرة من أن «المشهد الحالي يمنح فلول داعش فرصة مناسبة للقيام ببعض الاعتداءات المخلّة بالأمن والاستقرار… وربما يوجد حواضن لهم لدى بعض الناقمين والمتذمرين».
تقرّر أن يكون العام الجاري عام «الانضباط» والالتزام بالقوانين المرعية الإجراء
وتأتي هذه التحذيرات بعدما وُضعت آمال على «المجاهدين» في رفع لواء الإصلاح، على الضفة المقابلة لمعظم القوى السياسية الضالعة في الفساد. لكن الاعتبارات السياسية، التي تجلّت بوضوح في أن ممثلي «الحشد» البرلمانيين ينضوون تحت لواء تحالف واحد مع أبرز معارضيهم، ومقتضيات لعبة المحاصصة، والخلافات التنظيمية، جميعها عوامل تعوّق أي إمكانية أو قابلية للإصلاح. قوة «الحشد»، التي يربو عديدها على 130 ألفاً، وإن كانت تحت مظلّة جامعة هي «فتوى المرجعية»، إلا أن خلافات في الاستراتيجيا والتكتيك تعتريها. يرى مصدر قيادي رفيع في «الحشد» أن المشكلة تكمن في بعض القيادات الرافضة لأي نقد أو عمل مشترك، فهي تعتقد أن «تشخيصها هو الأدق، ومعالجتها هي الأصح»، عدا عن «حديث المنافع، والاستفادة من المواقع في المؤسسة الجديدة، والانتقال من حالٍ إلى آخر»، وفي هذا الجانب تحديداً تدور الكثير من الشبهات.
تضاف إلى ما تقدم خلافات متصلة بالولاء والانتماء، انعكست، إبان المعارك ضد «داعش»، تباينات في رسم الخطط العسكرية وفي أساليب إدارة المؤسسة، وصعّبت مهمة حصر هذا الجمع الشبابي الهائل ضمن نسق واحد، عقيدةً وعملاً، ومن ثم العمل وفق مبدأ تحويل «التهديد إلى فرصة». كان ثمة تمايز واضح بين «حشد الولاية» (مقلّدو «حوزة قم»)، و«حشد المرجعية» (مقلّدو «حوزة النجف»)، و«الحشد العشائري»، و«سرايا السلام» (التابعة لـ«التيار الصدري») التي فضّلت الاحتفاظ بخصوصيتها، مع مراعاة الانتماء إلى المؤسسة العامة لـ«الحشد». وعلى رغم أن هذه الاختلافات تم حصرها حالياً في إطار ضيّق، إلا أنها لا تزال قائمة في بعض وجوهها. مع ذلك، لا يزال العمل قائماً على تطوير المؤسسة وهيكلتها، ومن أجل هذا تقرّر أن يكون العام الجاري عام «الانضباط» والالتزام بالقوانين المرعية الإجراء.
جذور «زلزال الموصل»: الرواية الثانية
يعود السقوط المدوّي لمدينة الموصل بيد تنظيم «داعش» في 10 حزيران/ يونيو 2014 إلى ثلاثة عوامل تمثل جذوره العميقة: مشكلة «البعثيين» مع التغيير أولاً، وورطة الأميركيين في تشكيل هوية النظام السياسي لـ«عراق ما بعد صدام» ثانياً، والرياح الطائفية التي عصفت بمشاريع «الإسلام السياسي» في المنطقة، وتأثيراتها على علاقة الأحزاب الإسلامية في العراق، ثالثاً. قادة التغيير في «عراق ما بعد 2003» أداروا الدولة بعقلية المعارضة، ما خلق طيفاً واسعاً من الناقمين عليهم، مؤسسات وأحزاباً وشخصيات. فبدل التفكك التلقائي لـ«منظمة نفعية» اجتمع حول قيادتها ملايين الخائفين والطامحين، فضلاً عن النفعيين والوصوليين، وجد «البعثيون» مجدّداً ما يوحّدهم. أصبح الإطار التنظيمي لهم قانون «اجتثاث البعث»، الذي وضعهم جميعاً ــــ على اختلاف أطيافهم وإثنياتهم ــــ في خانة واحدة. بتعبير آخر، بعدما كانت «الغنيمة» تجمعهم، أصبحت «المصيبة» هي الجامعة لهم.
أما الولايات المتحدة، راعية التغيير، فقد أدار لها أصدقاؤها العراقيون ظهر المجن. فبعدما اجتمعوا حول طاولة واحدة في «مؤتمر لندن للمعارضة» (كانون الأول/ ديسمبر 2002)، وبدل أن تكون واشنطن هي الراعي الرسمي لـ«النظام الديموقراطي المدني» في العراق، وتقدّم من خلاله «نموذجاً» يُحتذى به في المنطقة، وجدت نفسها راعية لعدد من أحزاب «الإسلام السياسي»، التي تسعى إلى استنساخ تجربة الأنظمة السياسية الإسلامية المجاورة. وما زاد من «محنة» واشنطن، أن الوجود الأميركي في العراق أصبح غير مرحّب به، حتى علاقاتها «البروتوكولية» بتلك الأحزاب باتت أمراً محرجاً للأخيرة.
كذلك، فإن رياح «الربيع العربي»، التي شرّع الأميركيون نوافذ المنطقة وأبوابها لها، أنعشت آمال مارد إسلامي آخر، كان لظى جمره يتّقد تحت ركام رماد نظام شمولي آخر من الأنظمة العربية. واشنطن كانت كمن فَرَك مصباح علاء الدين، موقظةً مارد «الإخوان المسلمين» في مصر. لكن الاختلاف، في هذه المقاربة، هو أن المارد لم يقل للولايات المتحدة العبارة الأثيرة: «شبيك لبيك…»، بل قلب لها هو الآخر ظهر المجن.
«الإخوان» و«البعث»: خدماتٌ متبادلة
بعدما تنفس «إخوان العراق» الصعداء، وأصبحوا الشركاء المعتمدين لأحزاب «الإسلام السياسي الشيعي» في «عراق ما بعد 2003»، كان طبيعياً أن يُنشئوا جناحاً سرياً مسلحاً. هو تقليد راسخ للجماعة، دشّنه حسن البنا بنفسه، عندما شكّل ما يعرف بـ«النظام الخاص». «الحزب الإسلامي العراقي» أسّس ما عُرف بـ«حركة المقاومة الإسلامية ــــ جامع». أما الزعامات السياسية، التي خرجت عن عباءة «الإخوان»، فكان من الطبيعي أن تمارس السلوك عينه. طارق الهاشمي أسّس جناحاً مسلحاً، وواثق العيساوي كذلك. تلك الشخصيات اتخذت من أفواج حمايتها الخاصة غطاءً لعملها. قبل عام 2011، لم يكن هذا الأمر مقلقاً للحكومة (كان رئيسها آنذاك نوري المالكي)؛ على اعتبار أن الملف الأمني بأيدي الأميركيين، والنشاط المسلّح المفترض لتلك الأذرع كان موجهاً ضدهم. لكن مع اندلاع ثورات «الربيع العربي»، التي نُظر إلى بعضها من زاوية طائفية، خصوصاً في سوريا، وانقسام مواقف القوى الإقليمية تجاهها، وقع شرخٌ في علاقة قوى «الإسلام السياسي» وأنظمته في المنطقة، انعكس على تحالف هذه القوى في العراق.
توتر انفجر لدى إعلان الحكومة العراقية تورّط حماية نائب رئيس الجمهورية، طارق الهاشمي، في أعمال إرهابية، والحكم عليه لاحقاً بالإعدام غيابياً، بعدما قرر الاستقرار في تركيا. وبعد عام على ذلك الحادث، وتحديداً في 20 كانون الأول/ ديسمبر 2012، فوجئ وزير المالية السابق رافع العيساوي بقوة أمنية تدهم مكتبه، معتقلةً جميع أفراد حمايته، بتهمة التورط في أعمال إرهابية. حينها، أدرك العيساوي أنه كان الهدف الثاني بعد الهاشمي. حاول أن يلوذ بالشارع، علّه يجد وسيلة للضغط على الحكومة، وورقة يساوم بها لتسوية ملفّه. وبفعل ذلك، انطلقت موجة من الاحتجاجات، كان مركزها محافظة الأنبار (موطن العيساوي)، ليتحول شعار تلك التظاهرات (تحوّلت بعد فترة قصيرة إلى اعتصام مفتوح) إلى الاحتجاج على اعتقال النساء واغتصابهن في السجون، في محاولة لاستفزاز الناس وتحفيزهم على المشاركة الواسعة، فسرت الموجة في محافظات صلاح الدين، ونينوى، وكركوك، وديالى، فضلاً عن الأنبار، وبعض الأحياء ذات الأغلبية السنية في العاصمة بغداد. كذلك، لم يتأخر أيضاً موقف رئيس الوزراء التركي (حينها)، رجب طيب أردوغان، والذي اتّهم في تصريح صحافي في الـ 22 من الشهر عينه، وقبل مغادرته إلى واشنطن، الحكومة العراقية بـ«التصرف على أساس طائفي»، مؤكداً أنها «ما كانت لتفعل ذلك إلا لأنها حكومة شيعية، وتتلقى دعماً خاصاً».
ارتكزت خطّة «البعثيين» على فرضية أن «داعش» سيعتمد أسلوب حرب العصابات
وجدت هذه الاحتجاجات صداها لدى «البعثيين»، الذين لاحظوا التفاعل الجماهيري الكبير ضد النظام السياسي الذي اجتثّهم وأقصاهم. وجدوا ضالتهم في ذلك المشروع، وقرّروا ركوب موجته. فسارع عزّة الدوري إلى بثّ رسالة صوتية في 8 كانون الثاني/ يناير 2013 بتأييد التظاهرات، مطالباً بـ«إسقاط الحلف الصفوي الفارسي». يروي عبد الباقي السعدون (عضو «القيادة القطرية لحزب البعث العراقي»)، في اعترافاته، أن أمراً صدر من قيادة الحزب بالتحاق «البعثيين» كافة بالتظاهرات، تحت طائلة فصل كلّ من لا يلتحق بها. «البعثيون» رأوا في الاعتصامات مشروعاً لإسقاط النظام السياسي، مطلقين له عنواناً حركياً كغطاء لنشاطهم: «انتفاضة أحرار العراق»، أما «الإخوان»، فربطوها بـ«الحراك السُنّي العام»، بوصفها امتداداً لما يحدث في سوريا. هنا، تحرّكت «منظمة التعاون العربي التركي» لرعاية مؤتمر «نصرة انتفاضة الشعب العراقي»، والذي عقد في اسطنبول في الـ26 من الشهر عينه، حيث أُعلن البيان التأسيسي لـ«جبهة تحرير وإنقاذ العراق». بدورها، سارعت قطر إلى تنظيم مهرجانٍ تضامني مع الشعب السوري بعنوان «معكم حتى النصر»، ألقى خلاله المتحدث باسم «ساحة اعتصام الرمادي»، سعيد اللافي، كلمة بشّر فيها الحاضرين بـ«الثورة السُنّية التي اتّقدت جذوتها في العراق».
مشروع التخادم السياسي «الإخواني ـــ البعثي» استمرّ حتى 22 آذار/ مارس 2013، حين أعلن «الإخوان» نيتهم التفاوض مع الحكومة، ووقع شجار وعراك بالأيادي قرّرت على إثره «انتفاضة أحرار العراق»، واجهة البعثيين، رفع سرادقاتها المنصوبة في ساحة الأنبار، ونقلها إلى مدينة الفلوجة لنصبها هناك، لتدير ساحتها الخاصة، لتنقسم بذلك ساحات الاعتصام في كل المحافظات الأخرى إلى ساحتين: واحدة لـ«البعثيين»، والأخرى لـ«الإخوان»، عدا ساحة الأنبار التي شارك «الإخوان» فيها «تيار الصحوة» بزعامة أحمد أبو ريشة، وتيار عشائري بزعامة علي حاتم سليمان. استمر «البعثيون» في تصعيد خطابهم، ما أدى إلى وقوع مواجهات في الموصل والفلوجة. لكن المواجهة الأعنف وقعت في قضاء الحويجة (محافظة كركوك)، مع اقتحام قوات أمنية الساحة، وفضّها الاعتصام بالقوة، الأمر الذي تسبّب في سقوط عدد كبير من الضحايا، لتعلن بعد ذلك «انتفاضة الأحرار» انضمامها إلى «جيش الطريقة النقشبندية»، الذراع العسكرية لـ«البعث»، قبل أن يعلن الأخير ترك ساحات الاعتصام، والاتجاه إلى حمل السلاح ومواجهة الأجهزة الأمنية. وعلى الأثر، وقعت هجمات عديدة، استطاع خلالها «النقشبندية» السيطرة في 25 نيسان/ أبريل 2013 على عدد من الأحياء الشمالية الغربية للموصل، قبل أن تحرّرها القوات الأمنية بالكامل في اليوم التالي.
أدرك «البعثيون» أنهم لا يمكن بمفردهم طرد القوات الأمنية، فقرروا هذه المرة الاستعانة بـ«داعش»، كي يكون «القوة الضاربة» لشنّ ذلك الهجوم. شرع البعثيون في الإعداد لتلك الخطة، مشكلين «المجالس العسكرية لثوّار العشائر». أما «الإخوان»، فقد واجهوا الناس بمشروعهم في «صلاة الجمعة الموحدة» التي أطلقوا عليها «جمعة الخيارات المفتوحة» في 7 أيار/ مايو 2013، حيث بثّوا خطاباً موحّداً مفاده أن أمامهم خيارات ثلاثة: 1- ترك الساحات، وهذا لا يجوز. 2- مواجهة الحكومة، وهو أمر لا يريدونه. 3- المطالبة بإنشاء «الإقليم السنّي»، لكن هذا الخيار جوبه بالرفض، من «البعثيين» أنفسهم، والحكومة.
أين «داعش»؟
كان «داعش» مشغولاً ببناء قوته، مستغلاً انشغال الحكومة بالتظاهرات. في النصف الثاني من عام 2012، أعلن زعيمه أبو بكر البغدادي حملة «هدم الأسوار»، والتي هاجم خلالها عدداً من السجون المركزية، واستطاع تهريب عدد كبير من السجناء، ليختمها بالهجوم على سجن أبو غريب في 21 تموز/ يوليو 2013، حيث فرّ أكثر من 500 إرهابي من عتاة الجيلين الأول والثاني لـ«تنظيم القاعدة». هروبهم أسهم في رفد التنظيم بقيادات وخبرات ميدانية مهمة، أطلقت عملية التخطيط لإسقاط مدينة الموصل.
ارتكزت خطّة «البعثيين» وحليفهم أثيل النجيفي (محافظ نينوى الأسبق) على فرضية خاطئة مفادها أن «داعش» (عديداً وتكتيكاً) سيعتمد على أسلوب حرب العصابات، ونظرية «اضرب واهرب»، وأن «الدواعش» سيعودون إلى قواعدهم في الصحراء، في حين يتولون هم و«لجانهم الشعبية» التي دعا النجيفي إلى تشكيلها مهمّة طرد الجيش والشرطة الاتحادية من المدينة، ومن ثم مسك الأرض. وقد أشارت برقية سرية لـ«خلية التنسيق الاستخباري» إلى اجتماع عقد في 26 كانون الثاني/ يناير 2014، حضره عدد من «البعثيين» في دار أحد مشايخ الموصل، ناقشوا فيه تشكيل «المجلس العسكري» والهجوم على المدينة. واتفق المجتمعون على أنه، في حال وقوع الهجوم، فإن محافظ نينوى أثيل النجيفي، وعدداً كبيراً من عناصر الشرطة المحلية لا يتدخلون لصدّه. كما ناقشوا قضية انتداب عضو ارتباط مع تنظيم «الدولة الإسلامية» من أجل تنسيق الهجوم، وضرورة مفاتحة حكومة «إقليم كردستان» لتحييدها، مقابل حماية مقارّها الحزبية داخل المدينة.
عن «الزلزال»
في 3 آذار/ مارس 2014، وبعدما شنّت «قيادة عمليات نينوى» عملية عسكرية لتحرير ناحية الشورة (40 كيلومتراً غربي الموصل)، خالف اللواء خالد الحمداني (مدير عام شرطة نينوى) أمر العمليات، تاركاً محور مسؤوليته، ما أدى إلى هروب الإرهابيين (من «النقشبدنية») المتحصنين داخل الناحية. وبعدما سأل قائد العمليات الفريق باسم الطائي، الحمداني، عن سبب مخالفته، أجابه بأنه تلقّى أمراً بذلك من النجيفي! وعلى إثر عزل الحمداني من منصبه، دعا النجيفي أعضاء «كتلة النهضة» في مجلس محافظة نينوى إلى الاجتماع في «دار الضيافة»، طالباً منهم الظهور في مؤتمر صحافي يرفضون فيه قرار تنحية الحمداني. رفض الأعضاء ذلك، ليحاول النجيفي إقناعهم، لكن أحدهم قال له إن «الحمداني في النهاية بشر… لن نضحّي بعلاقتنا مع الحكومة من أجله»، متسائلاً: «هل سيؤدي قرار عزله إلى سقوط المدينة مثلاً؟». هنا، فاجأ النجيفي الجميع بردّه: «نعم ستسقط المدينة»، شارعاً بالحديث عن محاور الهجوم الذي سيؤدي إلى سقوط المدينة، ومفنّداً تفاصيله قبل أكثر من ثلاثة أشهر على تاريخ وقوعه. صُدم أعضاء مجلس المحافظة، وتساءلوا: «ماذا سنفعل إذاً؟». طمأنهم النجيفي، مؤكداً أن لديه خطة «لحماية المدينة»، وهي الاستعانة بالشرطة المحلية و«اللجان الشعبية» وحتى «البيشمركة» إذا لزم الأمر (تفاصيل الاجتماع الذي عقده النجيفي مع أعضاء «كتلة النهضة» جاءت في شهادة الأعضاء أنفسهم أمام «اللجنة النيابة المكلّفة بالتحقيق في سقوط الموصل»).
مطلع حزيران/ يونيو 2014، ألقت استخبارات وزارة الداخلية القبض على «وزير الأسرى» في «داعش». حصلوا منه على رقم هاتف «صالح العسكري» (العسكري العام لـ«ولاية نينوى»). أثناء التحقيق معه، اعترف بتفاصيل ذلك الهجوم. قال إن «علامة انطلاقه ستكون مهاجمة مدينة تقع خارج حدود ولايتي، وسيكون الغرض من ذلك الهجوم تثبيت القطعات»، بمعنى التمويه وصرف الأنظار عن الهجوم الفعلي. وفعلاً، هوجمت مدينة سامراء (محافظة صلاح الدين) في 5 حزيران/ يونيو 2014، وأبلغ جهاز الاستخبارات «قيادة عمليات نينوى» بتفاصيل الهجوم، الذي علمت به الأخيرة قبل يومين على الأقل من وقوعه.
الفساد الناخر في المؤسسة العسكرية حوّل قطعات الجيش إلى هياكل فقط
لكن الفساد الناخر في المؤسسة العسكرية حوّل قطعات الجيش إلى هياكل فقط. كان عدد المهاجمين من عمق الصحراء الغربية، بحسب الإصدار المرئي «عام على الفتح» الذي بثه التنظيم في الذكرى الأولى لسقوط الموصل، «يزيد على أهل بدرٍ بقليل» (أي إنه لم يتجاوز في أفضل الأحوال 350 إرهابياً)، لكن الخلايا «البعثية» النائمة وبقية التنظيمات الإرهابية الأخرى هي التي أسهمت في تعزيز ذلك الهجوم، وإرباك القطعات الأمنية، لأنها ظهرت بشكل مفاجئ على شكل بؤر.
وجّهت الأجهزة الأمنية تحذيراً إلى القنصلية التركية بأن «داعش» سيطر على أجزاء مهمة من المدينة، فكان الجواب: «اذهبوا ولا شأن لكم بنا». انسحبت القطعات العسكرية المتبقية باتجاه «الإقليم»، غير أن القوات المحسوبة على الأخير أرغمت الجميع على ترك عجلاتهم وآلياتهم، حتى إن مقرّ «اللواء الخامس» (موقعه في الخزر، والذي كان في الأصل «لواء البيشمركة» قبل أن يتم دمجه في الجيش العراقي)، لما وصل إليه اللواء الركن الشهيد عبد الرحمن أبو رغيف (نائب قائد عمليات نينوى)، وقال لقيادته إن «معه هيئة أركانه، ويريد أن يفتح مقراً لقيادة العمليات في مقر اللواء»، جاءه الجواب (وفق شهادته أمام لجنة التحقيق): «ردّوا عليّ رداً قاسياً… وقد نزعوا الأعلام العراقية من على صدورهم، واضعين محلّها أعلام كردستان»، قائلين: «إذا ما تمشي منا نعتقلك». كذلك، منعت قوّة أخرى من ذلك الفوج قوّة بمستوى لواء، بقيادة اللواء الشهيد فيصل الزاملي، من التوجه ناحية الموصل، وأرغمتها على التوجه إلى بغداد!
وفي أول رد فعل على احتلال «داعش» للموصل، خرج وزير «البيشمركة» ليقول: «ليست لدينا حدود الآن مع الدولة العراقية، حدودنا الآن مع الدولة الاسلامية». وبعدها، أعلن مسعود برزاني بنفسه أن «المادة (140) قد طُبّقت… والحدود ترسم بالدم»! وأي دم؟ دم العراقيين الذين ذبحهم «داعش» على مرأى ومسمع من برزاني.
*نائب سابق عن محافظة نينوى، وعضو «اللجنة النيابية للتحقيق في أسباب سقوط الموصل»
ساعات ما قبل «الزلزال»
حصلت «الأخبار» على نسخة من وثيقة مصنّفة بـ«سري للغاية وشخصي»، بعنوان «موجز عن العمليات التي جرت في قاطع عمليات نينوى للفترة من 7 ـــــ 10 حزيران 2014»، موجّهة إلى رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، بتاريخ 11 حزيران/ يونيو 2014، وموقّعة من قائد «قوات الشرطة الاتحادية» الفريق الركن محسن عبد الحسن لازم، وقائد «القوات البرية» الفريق أول الركن علي غيدان مجيد، ومعاون «رئيس أركان الجيش للعمليات» الفريق أول الركن عبود كنبر هاشم.
الوثيقة وصفت انسحاب القوات من دون قتال بأنه «وصمة عار وخزي» لقيادة «عمليات نينوى» (و«الفرقة 2»)، والتي استهترت بالمعلومات التي أدلى بها أحد الإرهابيين قبل أيام، عن نية «داعش» احتلال المدينة. كذلك، أشارت إلى أن العملية كانت «مدبرة… ومنسّقة بشكل عالٍ مع جهات داخلية وخارجية»، متأسفة لـ«الموقف السلبي» للحكومة المحلية، برئاسة المحافظ الأسبق أثيل النجيفي، وانخراط وسائل إعلام مرئية ومسموعة في الحرب النفسية التي شُنّت على القوات الأمنية، بهدف تضليلها وضرب معنوياتها.
توضح الوثيقة مسارين للأحداث: الأول الحركة الميدانية للقوات الأمنية العراقية، والثاني لإرهابي «تنظيم داعش». في المسار الأول، وتحديداً في 7 حزيران عند الساعة 12 ظهراً، توجّه كنبر وغيدان، مع هيئات الركن إلى «قيادة عمليات» نينوى للإشراف على العمليات الجارية. وعند الساعة 4 عصراً، جرى تفقدٌ لقطعات «خط الصدّ». وعلى ضوء الموقف، اتخذت القوات خط صدّ جديداً من «الجسر الثالث ــــ فندق الموصل ــــ مجسر اليرموك وباتجاه حي الصحة ـــ الآبار» (شرقي الموصل)، وقد تم تكليف قوة بمسك الخط للحيلولة دون اندفاع الإرهابيين، واحتواء تعرّضهم. كذلك، تم إصدار أوامر من قيادة «القوات البرية» إلى أفواج عدة، استمرّت في الوصول إلى قاطع العمليات منذ مطلع حزيران حتى الـ8 منه، بهدف الانتشار في أماكن عدة في المدينة، وتعزيز خطوط دفاعها.
في المقابل، استطاع الإرهابيون، وتحديداً في 5 حزيران، السيطرة على أحياء «حاوي الكنيسة، 17 تموز، 30 تموز، حي الرفاعي، حي النجار، الإصلاح الزراعي، الهرمات، حي التنك، المنطقة الصناعية» (غربي المدينة)، في ظلّ تواجد بعض المنتسبين للقوات الأمنية، إنما بزيّ مدني، وإطلاعهم مديرية الشرطة على تحركات الإرهابيين، الذين استمروا في الضغط حتى فجر 8 حزيران على خطّ صد «الجسر الثالث ـــــــ مجسر اليرموك»، محدثين ثغرات فيه. القيادة العسكرية طلبت من قائد «الفرقة الثانية» في الجيش، العميد الركن عبد المحسن فلحي، تحريك قوة لإعادة مسكه، غير أنه امتنع عن ذلك، طالباً إعفاءه من منصبه، ليتمّ له ما أراد بموافقة المالكي. وقد أُرسلت قوة بعدها لاستعادة أماكن الخرق في ليلة 7 ــــ 8 حزيران، من دون أن تفلح، مع اندفاع الإرهابيين باتجاه منطقة «الزنجيلي ــــ فندق الموصل ــــ مستشفى الموصل»، في ظلّ انسحاب القطعات العسكرية من بعض النقاط قبل حدوث أي تماسٍ مع الإرهابيين، مما سهّل اندفاعهم باتجاه مركز المدينة.
انسحاب القوات من دون قتال كان «وصمة عار وخزي» لقيادة «عمليات نينوى»
عند الساعة 9 ليلاً، في 8 حزيران، أُمر بتحريك قوة لحماية مطار الموصل، إثر انسحاب الشركة الأمنية المولجة بحماية المطار، إضافة إلى مسك منطقة «البوسيفين»، وقد تم تنفيذ الأمر. بدورهم، واصل الإرهابيون اندفاعهم في 9 حزيران، وقد تسرّبت قطعات من دون أن تشتبك معهم، بل عمدت إلى ترك مواقعها وأسلحتها. عند الساعة 4 عصراً من اليوم نفسه، عقدت قيادة القوات اجتماعاً لوضع خطة للهجوم تلخصت في ما يلي: تقوم قوة بالتقدم من «فندق الموصل» باتجاه الطريق المحاذي لنهر دجلة باتجاه «حي 17 تموز ــــ مشيرفة»، وبالتوازي تتوجّه قوة أخرى لاستعادة المواقع الساقطة، وتطويق الموصل من «الساحل الأيمن»، وتحديداً من «بوابة الشام» باتجاه «خط رياض ــــ حي التنك». لكن، وفي أثناء عملية التخطيط، تسارعت الأحداث، وانهارت القوات على «خط الصدّ»، واندفع الإرهابيون إلى شمال مركز المدينة، ما أدى إلى تأجيل العملية، والتفكير بمسك «خط صدّ» قوي جديد من «الجسر الخامس ــــ الموصل الجديدة ــــ حي الصحة». لكن الخطة لم تنفّذ أيضاً، لاندفاع الإرهابيين واجتيازهم الخط الجديد باتجاه مركز مدينة الموصل. عند الساعة 6 بعد الظهر، وخلال لقاء آخر بين القيادات العسكرية والأمنية، أكد الجميع أنهم يفتقدون إلى «المعلومات الكافية عن العدو وحجمه ونواياه». مساءً، وعند الساعة 9.15 ليلاً، بدأ الحديث عن الترتيبات الجديدة، لتعزيز القطعات الماسكة للطريق العام، ومسك مطار الموصل بقوة، والتأكيد على ضرورة الحفاظ على منطقة «البوسيفين»، لمنع الإرهابيين من التقدم باتجاه المطار.
منتصف ليل 9 ـــ 10 حزيران، ينسحب قائد «عمليات نينوى» من مقرّه متجهاً إلى «الساحل الأيسر» (القاطع الشرقي للموصل)، وقد أُمر بالعودة إلى مقرّه إلا أنه لم يمتثل لذلك. وعند الساعة 1 فجر 10 حزيران، أعلم قائد «شرطة نينوى» بتسرب معظم منتسبيه، وبقاء 14 منتسباً معه فقط، وقد أُمر بالتحرك للدفاع عن مقر القيادة والمطار ومخازن العتاد ومعسكر الغزلاني. وبعد 30 دقيقة، انسحبت قطعات الجانب الأيمن (القاطع الغربي للموصل) بالكامل، من «الشرطة الاتحادية» و«أفواج الطوارئ»، باتجاه «الجسر الرابع»، ومنه إلى «الساحل الأيسر» باتجاه «الحمدانية»، ما أثّر على معنويات القوات الأخرى التي بدأت بالإنهيار، فتركت أماكنها وأسلحتها وآلياتها، باستثناء قائد «الفرقة 2» المكلّف حديثاً، العميد الركن فاضل جواد علي. لكن، ومع ساعات الصباح الأولى، وتحديداً عند 4.30، انهارت كافة القطعات في «الساحل الأيسر»، ليندفع الإرهابيون إليه، في ظلّ انسحابٍ للقوات من دون أي أمر عسكري.
عند الساعة 7.30 صباحاً، كان العدد التقريبي للقوة لا يتجاوز 70 مقاتلاً، فأمر المالكي بالتعامل مع الموقف بحسب تقديرات الضباط الباقين هناك. وعند الساعة 8.30، انتقل مقر «العمليات المشتركة» من «الساحل الأيسر»، في ظلّ اشتباكات عنيفة مع العناصر الإرهابية، إلى سد الموصل. قبيل المغرب، وتحديداً عند الساعة 6.20، توجّه أعضاء مقر «العمليات المشتركة» إلى مطار أربيل بعد تأمين «طائرة C- 130»، عائدين إلى بغداد!