إلى 11 خلال سنوات قليلة، ارتفع عدد ضحايا العنصرية بين الإسرائيليين أنفسهم، مع مقتل شاب من أصل إثيوبي برصاص شرطي إسرائيلي قبل أربعة أيام. حادثة فجّرت، مجدداً، مشاعر الغضب التي تختزنها جماعة «الفلاشا» منذ عقود، بعدما ثبت لها أن الاندماج في هذا المجتمع مفتاحه دماء الفلسطينيين فقط
بشرة هؤلاء الملوّنة كانت، بالنسبة إلى المجموعات اليهودية الأخرى، سبباً كافياً كي تنظر إليهم بدونيّة وتعاملهم بعنصرية، ولا سيما أن هناك اختلافاً جوهرياً بين «الحاخامية الأشكنازية»، و«الحاخامية السفاردية» في شأن يهودية الجالية الإثيوبية، وما إن كان أفرادها ينتسبون حقاً إلى «سبط دان»، أحد «الأسباط اليهودية العشرة المفقودة». وفيما اعتبرهم الحاخام «السفاردي» الأكبر، عوفاديا يوسف، يهوداً، فُرضَ على عشرات الآلاف منهم أن يعبروا مرحلة «الغيور» أو التهوّد، لكن بقي يُنظر إليهم على أنهم غير متدينين، بالنظر إلى أن عاداتهم تشبه إلى حد بعيد عادات العلمانيين اليهود. أما الحاخام الأكبر لـ«الأشكناز»، شلومو غورين، فقال إنهم ليسوا يهوداً «لأسباب دينية وجينية»، معللاً رأيه بأنْ «لا يوجد يهود ذوو بشرة سوداء».
ولأن استجلابهم كان جماعياً، أُسكنوا في مراكز الاستيعاب، وتعاملت معهم السلطات كفئة اجتماعية متمايزة، إذ قسّمتهم إلى جماعات وفق اعتبارات العُمر وصلة القرابة والجنس. وأُلحق أولادهم بالتعليم الحكومي من دون استئذان ذويهم. هناك، عانوا تمييزاً صارخاً، لدرجة أن بعض المدارس رفضت استقبالهم، فيما عمد عدد من ذوي الطلبة الآخرين إلى إخراج أبنائهم من المدارس بحجة أنهم لا يريدون اختلاطهم بذوي الأصول الإثيوبية. كل ذلك عزّز صعوبة التأقلم والاندماج مع المجتمع الذي يعاني أصلاً من تصدعات في داخله. ومع مرور الوقت، اتضح أن الوافدين أكثر تمسّكاً بهويتهم الثقافية الإثيوبية من الهوية الإسرائيلية، وأنهم على رغم خدمتهم في الجيش الذي يجمع شرائح المجتمع كافة ظلّوا يُعامَلون بتمييز، إلى حدّ إتلاف وحدات الدم التي يتبرّعون بها، وإلقائها في القمامة أو الصرف الصحي، بدعوى حملهم فيروسات معينة، مثل الإيدز وجنون البقر والإيبولا «أكثر من غيرهم لأنهم جاؤوا من إفريقيا». حتى الإثيوبية بونينا تامانو، لم يشفع لها كونها نائبةً في الكنيست الإسرائيلي دون أن يُرمى دمها في القمامة، في حادثة لا تزال تتردد تداعياتها.
وصف بعض الإسرائيليين المحتجّين بأنهم حيوانات جُلبت من غابات إفريقيا
حتى اليوم، لم يتغير واقع هؤلاء. فلا يزالون يسكنون في ضواحي المُدن الكبيرة وأطرافها، في بيوت بعضها من الصفيح. كذلك يعمل قسمٌ كبير منهم في مهن يُصنفها المجتمع الإسرائيلي «مهناً وضيعة»، مثل التنظيف والبناء وجمع القمامة والرعي وغيرها. كذلك، لا يزالون يقتلون بسبب لون بشرتهم، التي كانت في أحيان كثيرة سبباً في شكّ الجيش أو الشرطة الإسرائيليين في أن أصحابها عرب، بما يبرّر قتلهم لأتفه الأسباب! على هذه الخلفية، إنّ مقتل سولومون، الذي يُضاف إلى 11 حادثة مشابهة، فجّر مكامن الغضب بين أبناء الجالية، وأدى إلى انقلاب الشوارع الإسرائيلية إلى ما يُشبه ساحات حرب، حيث أُخذ أكثر من 70 ألف إسرائيلي «رهائن»، بحسب التسمية التي أطلقها وزير الأمن الداخلي، غلعاد إردان، إثر إغلاق ذوي الأصول الإثيوبية الطرقات لأكثر من 5 ساعات.
صحيفة «هآرتس» وجّهت سؤالاً إلى عدد من المحتجين، مفاده: «لماذا تتظاهرون؟ وماذا تنشدون؟»، فجاءت الإجابات تعبيراً عن الخوف من أن يكون أصحابها الضحايا القادمين للعنصرية. بعض الأمهات قلن إنهن «يخفن على حياة أولادهن، بسبب احتمال أن يُقتلوا برصاص الشرطة». البعض تحدث أيضاً عن عدم ثقته بتحقيقات هذه الشرطة «التي توفر لقاتل سولومون حماية أمنية وفندقاً ينام فيه خلال قضائه الإقامة الجبرية»، فيما انتقد آخرون صمت بقية الإسرائيليين وعدم وقوفهم إلى جانب ذوي الأصول الإثيوبية في احتجاجاتهم، بل وذهاب عدد منهم إلى وصف المتظاهرين بـ«الحيوانات المستجلبة من غابات إفريقيا، والتي بفضل إسرائيل أصبحت من المواطنين».
في الصورة العامة، تعكس تجربة «الفلاشا» في إسرائيل واقع مجتمع عنصري مأزوم، وهي تثبت أن استجلاب أناس من بقاع بعيدة لجعلهم مواطنين في خدمة مشروع سياسي، من دون أن يكون لهؤلاء ارتباط حقيقي بالمشروع، يفعل فعله على المدى البعيد في صراع الهويات الدائر على حسم من هو الأكثر يهوديّة ويمينية. وربما كانت الرسالة التي خطّها المحتجون على جدار «الموت للعرب» خير دليل على فهمهم لكيفية تدرّج «الإسرائيلية»، وأن مفتاح الرتبة العليا في هذا المجتمع هو دمُ العرب والفلسطينيين.
بيروت حمود
«فلاشا إسرائيل» يفجّرون غضبهم ضد العنصرية
اتسعت، رقعة التظاهرات الغاضبة التي تجتاح شوارع فلسطين المحتلة، من مدينة بئر السبع جنوباً، وصولاً إلى مستوطنة «كرمئيل» شمالاً، منذ يومين. أمّا المتظاهرون هذه المرة، فهم شبان من «جماعة الفلاشا»، انتفضوا مجدداً على التمييز المُمارَس في حقّهم من السلطات الإسرائيلية، التي تعاملهم كمواطنين من الدرجة الثانية أو أكثر، بسبب لون بشرتهم وأصولهم الإثيوبية. المُحرّك المباشر للعصيان المستمر لليوم الثالث، مقتل الفتى سولمون تاكا (15 عاماً) ذي الأصول الإثيوبية برصاص شرطي إسرائيلي، لاستشعار الأخير «خطراً على حياته» من تاكا. وهي حادثة ليست الأولى من نوعها؛ إذ سبقها الكثير من الحوادث التي قتل فيها شرطيون شباناً من أصول شبيهة، في تجلية لعنصرية «اليهود البيض» المتحدّرين من أصول غربية، تجاه «اليهود السود».
التظاهرات الجديدة تركزت في مدن محتلة رئيسة، في مقدمتها تل أبيب وحولون والقدس والعفولة وبئر السبع وضواحي حيفا، وعمّت الشوارع التي تشكّل شرايين اقتصادية أساسية للاحتلال. وقد أغلق المتظاهرون مفترقات الطرق، ومنعوا السيارت من المرور، محتجزين أكثر من 70 ألفاً فيها لساعات. أمّا حصيلة المعتقلين من ذوي الأصول الإثيوبية، فبلغت المئات، فيما أصيب أكثر من 60 شرطياً إسرائيلياً. كذلك، بلغت الأضرار المادية التي لحقت بالممتلكات العامة وسيارات الشرطة والإطفاء والإسعاف ملايين الشواقل، كما ذكرت صحيفة «يديعوت أحرونوت».
حتى الآن، لا إشارة استجابة من المحتجين، سوى أن تظاهراتهم مستمرة، على رغم أن تحقيقات الشرطة تشير إلى أن «الشرطي مُطلق النار أطلق رصاصة على الأرض، فارتدّت لتصيب سولمون وتسبّب قتله». وهي رواية يشكّك فيها المحتجون، ويرونها «تضليلاً». على هذه الخلفية، دعا الرئيس الإسرائيلي، رؤوفين ريفلين، ورئيس وزرائه، بنيامين نتنياهو، إلى «إعادة الهدوء». وتوجّه نتنياهو إلى المتظاهرين في شريط مصور، قائلاً: «أعرف أنه توجد مشكلات ينبغي حلها، وقد عملنا بجد ويجب أن نعمل أكثر من أجل حلها»، طالباً منهم «أمراً واحداً»، هو «التوقف عن إغلاق الشوارع، فنحن دولة قانون ولن نتحمل مزيداً من خرقه».
أما ريفلين، فقال: «علينا التوقف والتفكير معاً في كيفية المواصلة من هُنا، وعلينا استكمال التحقيق في موت سولمون، وأن نمنع الموت القادم، والإذلال القادم. وعلينا أن نلتزم جميعاً ذلك». أما وزير الأمن الداخلي، غلعاد إردان، فقال إن «متظاهرين دعوا إلى التسبب بإصابات في صفوف الشرطة. كانت هناك نية لدى متظاهرين لإطلاق النار باتجاه أفراد الشرطة». وأضاف: «كان من المحتمل أن تكون النتيجة أمس أقسى لو أصيب أو قتل متظاهرون. الشرطة ملزمة بالعمل… بأسرع ما يمكن، أو استخدام قدراتها من أجل منع إغلاق شوارع والتظاهرات العنيفة».
العنصرية في إسرائيل.. من هم يهود الفلاشا ولماذا ينتفضون؟
طفت قضية التمييز العنصري التي يعاني منها اليهود الإثيوبيون في إسرائيل على السطح مجددا، إثر احتجاجات غاضبة على سوء معاملتهم وعنف الشرطة ضدهم.
من هم اليهود الإثيوبيون وكيف ظهروا في إسرائيل؟.
يطلق على اليهود من أصل إثيوبي في إسرائيل تسمية “الفلاشا”، وتشمل المهاجرين من إثيوبيا وأبنائهم الذين نقلت السلطات الإسرائيلية الجزء الأكبر منهم في إطار العملية السرية “سولومون” في تسعينيات القرن الماضي، وشاركت فيها الموساد.
وتتزايد الروايات حول جذور اليهود الإثيوبيين الذين يسمون أنفسهم “بيتا إسرائيل” (بيت إسرائيل) ويقولون إن أصولهم ترجع إلى النبي سليمان وملكة سبأ بلقيس.
واعترف الحاخام الأكبر السابق لليهود الشرقيين (السفارديم) في اسرائيل، يوسف عوفاديا، بيهودية الفلاشا في العام 1973، بإعلانهم قبيلة من سلالة سبط “دان”.
ويختلف اليهود من الأصل الإثيوبي عن بقية اليهود في العالم من عدة نواحي، رغم أن التيار الإثيوبي من الديانة اليهودية أحد أقدم فروع اليهودية.
حالة اليهود الإثيوبيين في إسرائيل
كشف تقرير نشره مكتب الإحصاء المركزي في إسرائيل عام 2017 الحقائق التالية المتعلقة بالحالة الاجتماعية والاقتصادية ليهود الفلاشا:
– يبلغ عدد الإسرائيليين من أصل إثيوبي حوالي 140 ألف شخص، أي قرابة 2% من إجمالي التعدد السكاني لإسرائيل، ولد أكثر من 85 ألف منهم في إثيوبيا.
– تشير معطيات المركز إلى الإنغلاق والانعزال النسبي لمجموعة اليهود الإثيوبيين، ورصد أن 88% من حالات الزواج تعقد ضمن الجالية الإثيوبية.
– يحصل 55.4% فقط من طلاب المدرسة المنحدرين من إثيوبيا على الشهادة الثانوية، ينال 39% منهم الشروط اللازمة للالتحاق بالجامعات.
فيما أظهرت دراسة أعدها مركز “توبة” للبحوث الاجتماعية العام 2015 أن متوسط الدخل الشهري لعائلات اليهود الإثيوبيين أقل بنسبة 35% بالمقارنة مع المجموعات الأخرى في إسرائيل.
– غالبية يهود الفلاشا يزاولون أعمالا منخفضة الأجور لا تحتاج إلى تأهيل علمي، مثل النظافة وقطاع الأغذية.
وتشير تقارير إعلامية إلى أن الفلاشا القادمين خلال الموجة الأولى من هجرتهم وحتى موجات تالية لا يتقنون اللغة العبرية ولم يتمكنوا من التأقلم مع المجتمع رغم برامج الاندماج التي أطلقتها الحكومة.
مواطنون من “الدرجة الثانية”
يعتبر أبناء الجالية أن الإسرائيليين لا يزالون ينظرون إلى المهاجرين الإثيوبيين نظرة فوقية لدواعي شتى، أحدها لون البشرة.
ويتهم الإثيوبيون الإسرائيليين “البيض” بممارسة “التمييز العنصري النظامي الممنهج” بحقهم وحرمانهم من حقوقهم الشرعية رغم أن إسرائيل تقدم نفسها أنها تسترشد بقيم الديقراطية والتعددية والمساواة.
ويرى الإثيوبيون أن الشرطة تتعامل معهم بالعنف التعسفي وتستخدم القوة المفرطة ضدهم.
إضافة إلى ذلك، يؤكد الإثيوبيون أنهم يعانون من التفرقة العنصرية في التعاملات اليومية، مشيرين إلى أن العنصرية والتمييز يعيقان تطور مجتمعهم ككل، ويبقيانهم عند مستوى اجتماعي اقتصادي منخفض.
ويقول الفلاشا إنهم يتعرضون للاضطهاد على غرار الأمريكيين من أصول إفريقية، رغم أن أسلافهم لم يكونوا أبدا عبيدا لدى ذوي البشرة البيضاء، بل قدموا إلى إسرائيل طبقا لـ”قانون العودة” مثلما وصل اليهود من أي بلدان أخرى.
من اللافت في السياق، أن متظاهرين شاركوا في الاحتجاجات الأخيرة التي اندلعت في إسرائيل عقب مقتل الشاب الإثيوبي سولومون تاكه (18 عاما) برصاص شرطي في مدينة حيفا يوم 29 يونيو الماضي ، رددوا شعار “حياة السود مهمة” (Black lives matter) الذي رفعه المحتجون ضد العنصرية في الولايات المتحدة.
وقال أحد المتظاهرين: “نخشى من أن حياتنا لا تساوي شيئا، يخشى الشباب من التقاء الشرطة في الشارع. نواجه العنصرية يوميا، لا يوظفون الإثيوبيين ولا يؤجرونهم المنازل ، ولا يُسمح لهم بدخول الحانات خلال عطلات نهاية الأسبوع”.