لا مساحة رمادية في تصنيف الفلسطينين الباقين في أرضهم منذ النكبة. قد تكون الغالبية منهم هي المجموعة التي لا تزال ترى في الشعب الفلسطيني والأمة العربية امتداداً لها، وعلى هذا الأساس ترفض الانصهار مع الإسرائيليين، على الرغم من كل العوامل التي تجبرها على ذلك يومياً: في المدرسة، والجامعة، والعمل، والمؤسسات الرسمية، وحتى في المأكل والمشرب! أما المجموعة الثانية، فهي القلة التي لا تزال تُصرّ على أن تضلّ الطريق، راغبةً بأي ثمن في أن «ترتقي» في سلّم «المواطنة» الإسرائيلية الذي يرفضها، حتى لو كانت مِمّن يخدم في جيشه.
صبيحة التاسع من كانون الثاني 2002، كان الضابط في «الكتيبة الصحراوية» الإسرائيلية، أشرف هوّاش المزاريب، يتنقل بين جنوده في معسكر «أفريقيا» القريب من قطاع غزة، قبل أن تباغتهم مجموعة من المقاومين الفلسطينيين فتقتل أربعة منهم، وتعود أدراجها بسلام. في الجنازة العسكرية الإسرائيلية في مجمّع قرى الزرازير في قضاء الناصرة، حُمل المزاريب على أكتاف رفاقه، بينما جعلت الحطة (الكوفيّة) التي لثّم بها والده وجهه، المشهد سوريالياً. القتلى الثلاثة الآخرون هم أيضاً، مثل قائدهم، فلسطينيون من الأرض المحتلة عام 1948، يحملون الجنسية الإسرائيلية.
صحيح أن تلك لم تكن المواجهة الأولى بين أهل الأرض، في ظلّ سعي المؤسسة الصهيونية الدؤوب إلى تجنيد العرب في صفوفها، غير أن مقتل المزاريب أرّخ لليوم الذي بدأ فيه الحديث علناً عن أزمة حقيقية لدى المتجنّدين من أبناء «الأقليات». فجأة، شعر هؤلاء أن شيئاً لم تبدله خدمتهم في الجيش الإسرائيلي: قرى المتطوّعين البدو لم يُعترف بها إلى اليوم، وبيوتهم كحال الخادمين الآخرين من الدروز والمسلمين والمسيحيين لا تزال تُهدم، وأراضيهم تصادَر، وتدرّجهم في الوظائف ممنوع، والمهن الرفيعة محظورة عليهم، فيما أحوالهم المادية متردّية أسوة ببقية أبناء شعبهم، والأهم أن النظرة العنصرية تجاههم لم تتغير، في مجتمع ليس ثمة مفتاح لـ«الارتقاء» فيه إلا دماء الفلسطينيين.
اليوم، بعد 17 عاماً على مقتل المزاريب ورفاقه، يبدو أن قلّة لا تزال مصرّة على أن تضلّ طريقها. والحديث هنا ليس عن الدروز الذين تُجبرهم سلطات الاحتلال على الخدمة العسكرية فقط، وإنما عن كل الذين يتطوعون من تلقاء أنفسهم أملاً بـ«مواطنة أفضل» لا تتحقق. في الأيام الماضية، تفجرّت بعض قصص هؤلاء في وسائل الإعلام الإسرائيلية، حيث راحوا يحكون عن «مآسيهم»، التي تثبت مرة أخرى أن العنصرية على أسس قومية وعرقية ليست موجّهة فقط ضد من تمسكوا بوطنهم ورفضوا الانخراط في منظومة الاحتلال، وإنما ضد جميع «الأغيار». وهي ظاهرة، وإن لم تكن جديدة، إلا أنها تصاعدت في الآونة الأخيرة، في وقت ينساق فيه المجتمع الإسرائيلي نحو أقصى يمين الخارطة الأيديولوجية.
أحد أولئك الجنود، وبعدما خدم لسنوات طويلة حارساً للمنشآت العسكرية في إحدى القواعد التابعة لسلاح الجو، قال إنهم «كانوا (الجنود الإسرائيليون) ينعتونني بالكلب المخرب والعربي الفلسطيني القذر. ذات مرة، ألقوا على شباك غرفتي الحجارة، ومرة اخرى سرقوا سلاحي الشخصي، وكانوا يقفلون باب الحمام كلما دخلت لأستحم، ومرة بعثروا النفايات في غرفتي، وهددوا بمنعي من دخول غرفة الطعام إذا لم أنظف المراحيض. ولأنني لم أفعل، بقيت ثلاثة أيام بلا طعام، وهدَّدَت المجندات الاسرائيليات باتهامي بالتحرش بهن واغتصابهن، في حال تقدمت بشكوى ضدهن بسبب سخريتهن مني عندما كنّ يصوّرنني للاستهزاء بي. وعندما شكوتهن للضابط، قال هذا الأخير: أنا مشغول. أخرج من هنا يا عربي». كانت قصة هذا المجنّد ستبقى طي الكتمان لولا أن والدته سمعت بالصدفة، خلال محادثة هاتفية بينهما الإهانات التي يتعرض لها من رفاقه. ومنذ تلك المحادثة، قرر أن يهرب من جيش الاحتلال، وحتى لا يُعاقب بالسجن «يمثل منذ ذلك اليوم دور المجنون، بعدما نجح في استخراج شهادة طبية تفيد بأنه يُعاني من اضطراب ما بعد الصدمة».
تتستّر إسرائيل على الأرقام الحقيقية للمجنّدين العرب في جيشها
أما الضابط الشهير، وحيد الهزيل (من مدينة رهط)، فقد اقتنع أخيراً، وبعد 23 عاماً من خدمته في جيش الاحتلال، بأن «المساواة لا يمكن أن تتحقق في إسرائيل»! قصة الهزيل تفجرّت بعدما رفضت مستوطنة «كيرم شالوم»، المقامة على أراضي كرم أبو سالم، أن يكون أحد سكانها، «بمجرد أن علم الموظف المسؤول أنني عربي». الهزيل ليس مجرد اسم عابر بين الأسماء التي تلطّخت بالعار، فهو يُجاهر بخدمته إسرائيل، ويفخر بأنه تعرض للإصابة أكثر من مرة، وتحديداً خلال «حفاظه على أمن» المستوطنة التي رفضته! هو الضابط الذي اشتبك مع مقاومين فلسطينيين خلال عملية أسر الجندي الإسرائيلي غلعاد شاليط عام 2006، ثم عام 2008 بينما كان يشغل منصب نائب قائد «كتيبة دورية الصحراء»، حيث أصيب في الاشتباك وحصل على ميدالية «رئيس الأركان»، ولاحقاً عام 2012 عندما أصبح الهزيل قائداً «للكتيبة الصحراوية» المؤلفة من البدو، وأصيب مرة أخرى في اشتباك.
في قصة أخرى اطلعت «الأخبار» على تفاصيلها، يُنقل عن الشاب أمير أ. ر.، من مدينة سخنين، والذي أنهى تطوعه للخدمة العسكرية عام 2013، بعد ثلاث سنوات قضاها في جيش الاحتلال، وتحديداً في وحدة «حرس الحدود»، قوله بأنه «عند التقدم للخدمة، يُقسّم المجنّدون بحسب قدراتهم الجسدية والفكرية والتعليمية بعد إخضاعهم للاختبارات. أما أبناء الشرائح المهمشة مثل الإثيوبيين والعرب والأقليات فيوضعون في مناطق الصراع، ويخدمون في وحدة حرس الحدود… وبما أني مُسلم فقد خدمت ضمن كتيبة حرس الحدود». ويقرّ أمير بأن بعض المجنّدين «يعتقد أن الخدمة في الجيش تكسبه بطاقة خضراء يستطيع بموجبها التقدم في حياته المهنية والاجتماعية والأكاديمية، ولكن في الواقع فإن ما ينتظره بعد الخدمة هو أن يلقى الرفض من قِبَل اليهود، وينبذه مجتمعه لكونه عميلاً في نظره».
الأرقام في هبوط مستمر
تتستّر إسرائيل على الأرقام الحقيقية للمجنّدين العرب في جيشها، خصوصاً منهم الدروز الذين تريد سلخهم عن بقية أبناء شعبهم الفلسطيني، وكأنهم عِرق أو قومية مختلفة. تروّج سلطات الاحتلال، في هذا الإطار، معطيات كاذبة ومضلّلة تفيد بأن 83% من الشباب الدروز يتجنّدون سنوياً، لكن أهم مؤتمر أمني يعقد في إسرائيل كشف عام 2008 أن نسبة الذين يرفضون الخدمة الإجبارية في صفوف الدروز بلغت 51%. أما بالنسبة للمتطوعين العرب من غير أبناء الطائفة الدرزية، فبالرغم من أن المعطيات التي تظهر في وسائل الإعلام العبرية تشير إلى أن أعدادهم تقدر بعشرات الآلاف، إلا أن لجنة خاصة تابعة للكنيست انعقدت بتاريخ 16/12/2013 كشفت أن المسيحيين مثلاً لا يتجاوز عدد الخادمين منهم الـ50 جندياً. رقم كان كفيلاً بـ«صعق» وزيرة القضاء الإسرائيلية السابقة، إيليت شاكيد، التي قالت إن «الكاهن جبرائيل ندّاف (الذي وظفته المؤسسة الإسرائيلية لتجنيد المسيحيين في جيشها) قال لي إن لدينا 800 جندي مسيحي». وفيما يصل عدد المجندين من البدو إلى 105 جنود (بعدما كان حتى عام 2000 يتجند سنوياً ما بين 200 و400 شاب بدوي)، يخدم 208 من المسلمين في جيش الاحتلال. والجدير ذكره، هنا، أن عضو الكنيست، دفيد روتم، قال في الجلسة نفسها إن «لدينا 16 ألف جندي من أبناء الأقليات»، قبل أن يوضح أحمد رميز، رئيس إدارة السكان في شعبة القوى البشرية التابعة لوزارة الأمن، أن تلك الأرقام غير صحيحة.