لم يعد لدى السلطة الفلسطينية ما بإمكانها التنازل عنه. حقيقةٌ لا تفتأ رام الله تشدد عليها منذ بدأت علائم «صفقة القرن» بالظهور، مع اعتراف الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بالقدس عاصمة لإسرائيل. حقيقةٌ أعاد رئيس السلطة، محمود عباس، تأكيدها، بقراره الأخير تعليق العمل بالاتفاقيات الموقعة مع العدو.
لا تغييرات في العلاقة مع الاحتلال: السلطة تريد «التمرّد» وتخشاه
رام الله | لم يعد لدى السلطة الفلسطينية ما بإمكانها التنازل عنه. حقيقةٌ لا تفتأ رام الله تشدد عليها منذ بدأت علائم «صفقة القرن» بالظهور، مع اعتراف الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بالقدس عاصمة لإسرائيل. حقيقةٌ أعاد رئيس السلطة، محمود عباس، تأكيدها، بقراره الأخير تعليق العمل بالاتفاقيات الموقعة مع العدو. القرار، الذي ينضمّ إلى عشرات القرارات المماثلة السابقة، لا يزال عاجزاً عن كسب صدقية في الشارع الفلسطيني، وحتى لدى الطرفين الأساسيين المعنيَّين بالرسالة التي انطوى عليها، أي واشنطن وتل أبيب. ولعلّ ذلك أوضح مصداق على حجم المأزق الذي وصلت إليه السلطة، بعد سنوات طويلة من سياسات «التسليف بالمجّان»، بل ومقابل استمرار العدو في مشاريعه التوسعية في الضفة والقدس المحتلتين، وصولاً إلى عمله وراعيه الأميركي على سحب آخر ما بقي من أوراق قوة من رام الله، وتجفيف مواردها المالية، توازياً مع السعي إلى شطب قضية اللاجئين. كل تلك المعطيات أوصلت «أبو مازن»، بنفسه، إلى رفع الصوت عالياً ضد ممارسات كلّ من الولايات المتحدة وإسرائيل، وتهديدهما بالانفكاك من «التزامات أوسلو». لكن استمرار طابع التذبذب في تلك التهديدات، رغم أن السيل بلغ الزبى، والإحجام عن اتخاذ قرارات جريئة تعيد توحيد الصفّ الفلسطيني تحت راية العمل المقاوم الذي لا تزال تثبت التجارب أنه الأنجع، يجعلان خطوة عباس الأخيرة محفوفة بالكثير من الشكوك، خصوصاً في ظلّ محدودية القدرة على ترجمتها عملياً.
بعد أربعة أيام من «مجزرة الهدم» التي نفذها العدو في وادي الحمص جنوب شرقي القدس المحتلة، جاء إعلان السلطة الفلسطينية على لسان رئيسها، محمود عباس، وقف العمل بالاتفاقيات الموقعة مع إسرائيل. لم تستطع السلطة هضم «المجزرة» الجديدة أو الاكتفاء ببيان إدانة إزاءها، فالظرف اليوم يختلف عن ظروف بقية جرائم الهدم التي مارسها العدو، فضلاً عن أن العملية الأخيرة أدت إلى تدمير 16 بناية سكنية تقطنها نحو 500 عائلة فلسطينية، ويقع جزء كبير منها ضمن الأراضي المصنفة منطقة «أ»، وفق اتفاق أوسلو، أي الخاضعة للسيطرة المدنية والأمنية الفلسطينية بشكل كامل. انطلاقاً من ذلك، اعتبرت السلطة «المجزرة» «مؤشراً خطيراً على التغوّل الإسرائيلي، ومقدمة لهدم مبانٍ بذريعة عدم الترخيص في بقية المدن والمناطق التي تسيطر عليها السلطة».
في الدورات الـ27، الـ28، الـ29، والـ30 للمجلس المركزي، والدورة الـ23 للمجلس الوطني، التابعَين لـ«منظمة التحرير الفلسطينية»، خرج المجتمعون بتوصيات أمام اللجنة التنفيذية للمنظمة، تتعلق بضرورة إعادة النظر في العلاقة مع العدو الإسرائيلي، ومراجعة كافة الاتفاقيات المبرمة معه، في ظلّ التزام السلطة بها وتنصّل إسرائيل منها. «اجتماع القيادة»، كما أُطلِق عليه في 25 تموز/ يوليو الماضي، لم يخرج بجديد بخصوص تلك الاتفاقيات، باستثناء إعلان عباس بنفسه للمرة الأولى «وقف العمل بها، والبدء بوضع آليات لتنفيذ ذلك»، إلا أن تشكيل لجنة لوضع الآليات يدلّ على عدم الجدية في تطبيق القرار عملياً، وفي الحدّ الأدنى يمثل إشارة إلى أنّ القرار لن يدخل حيّز التنفيذ فوراً. «إذا بدك تموّت موضوع، شكّل له لجنة». لعلّ هذه المقولة المأثورة والمتداولة فلسطينياً تمثل أصدق تعبير عن الخطوة الأخيرة. إذ إن عشرات لجان التحقيق التي شُكِّلَت سابقاً لم تخرج بنتائج، سواء منها الداخلية المتعلقة بقضايا فساد وتجاوزات مثلاً، أو لجنة التحقيق في ظروف رحيل الرئيس ياسر عرفات، أو حتى موضوع «تحديد العلاقة مع إسرائيل» الذي خُصصت له سابقاً 8 لجانٍ لدراسة آليات ما يُسمّى «فك الارتباط»، لتكون اللجنة الأخيرة هي التاسعة. جرّدت السلطة الفلسطينية نفسها من كل أوراق القوة، وما تلويحها المتكرر بوقف الاتفاقيات أو حلّ نفسها إلا تهديد اعتاده العدو، الذي ينشغل وفقاً لتقارير إعلامية عبرية بمناقشة استراتيجيات وخطط لليوم الذي يلي رحيل «أبو مازن» أو إنهاء وجود السلطة.
لعلّ إدراك العدو حدود فعل «أبو مازن» هو الذي دفعه إلى التعامل مع القرار ببرود
في المقابل، ليست رام الله مستعدة لأي رد فعل إسرائيلي إذا أرادت وقف العمل بالاتفاقيات من جانب واحد، خصوصاً أنّ العدو يتحكم بكافة خيوط اللعبة على الأرض. مثلاً، تستطيع السلطة وقف دفع الضرائب لإسرائيل، لكن الأخيرة بإمكانها قطع الكهرباء عن الضفة الغربية بحجة عدم دفع المترتبات المالية، وبإمكانها أيضاً فرض حصار جزئي على مسؤولي السلطة من خلال سحب بطاقات «VIP» منهم. من هنا، يرى البعض في إعلان عباس إجراءً موقتاً، ولا سيما أن رئيس السلطة أعلن «وقف العمل بالاتفاقيات» لا «إلغاءها»، ما يعني إمكانية العودة إلى العمل بها، فيما عدّ آخرون القرار مناورة للضغط على العدو من أجل الحصول على أموال المقاصّة المحتجزة. في هذا الإطار، يقول مدير «مركز مسارات للدراسات»، صلاح عبد العاطي، لـ«الأخبار»، إن «إعلان وقف العمل بالاتفاقيات قرار تعليقي، وليس انسحاباً نهائياً من الاتفاقيات أو إلغاءً لها»، معتبراً إياه «مناورة لاستدعاء ضغط دولي على الاحتلال لإجباره على التزام الحدّ الأدنى من بنود الاتفاقيات، في ظلّ سياسة الانتظار والمراوحة، التي تجلب المزيد من الضم للضفة واستمرار عملية تهويد القدس».
ولعلّ إدراك العدو حدود فعل «أبو مازن» هو الذي دفعه إلى التعامل مع قرار وقف العمل بالاتفاقيات ببرود، خصوصاً في ظل تكرار التلويح بهذه الورقة من دون أي انعكاسات حقيقية على العدو وأمنه واقتصاده. أما الولايات المتحدة فقد بدت غير مكترثة، وسط انكبابها على صياغة «صفقة القرن»، بل إن الخارجية الأميركية دعت السلطة إلى «الانخراط في العملية السياسية، بدلاً من الاستمرار في إصدار إشارات غير بناءة».
التنسيق الأمني قائم
على رغم إجماع قيادات حركة «فتح» والسلطة على أن قرار عباس يشمل وقف التنسيق الأمني، وإعلان عضو اللجنة المركزية، فتح دلال سلامة، أن «لجنة الانفكاك» ستباشر أعمالها في مقبل الأيام، أكدت مصادر مطلعة لـ«الأخبار»، أن التنسيق الأمني على الأرض لم يتغير؛ إذ بعد إعلانه قراره مباشرة، غادر عباس إلى تونس لحضور تشييع الرئيس الراحل، الباجي قايد السبسي، بالتنسيق مع الإسرائيليين. كذلك إن ما يُسمى «الارتباط العسكري الإسرائيلي» لا يزال يُبلّغ نظيره في السلطة الفلسطينية عن «نشاطات أمنية تشمل اقتحام مدن ومناطق فلسطينية». ومنذ أيام، اقتحم نحو 1200 مستوطن قبر يوسف في مدينة نابلس، فيما غادرت أجهزة أمن السلطة المكان كالمعتاد، بعدما أبلغها الارتباط الإسرائيلي «نية جيش العدو اقتحام المنطقة الشرقية في المدينة».
كذلك، يشمل قرار السلطة وقف العمل بالاتفاقيات والبروتوكولات المتفرعة عن «أوسلو»، بما فيها الضرائب والجباية والشؤون الاقتصادية، وأيضاً إدارة المعابر والحدود وانتشار القوات العسكرية للجانبين. لكن عبد العاطي يرى أن نجاح اللجنة التي شُكّلت لإقرار آليات لتعليق العمل بتلك الاتفاقيات «منوط بعدة شروط، أبرزها ترتيب البيت الداخلي الفلسطيني على قاعدة الشراكة، وهو ما لم يحصل حتى الآن، ومن دون الشراكة والوحدة سيكون إعلان وقف الاتفاقيات خطوة منفردة وقفزة في الهواء». ويضيف أنه «يمكن فعلياً تطبيق قرار السلطة بالبناء على مقاربة القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني وتدويل الصراع، لأن اتفاقات أوسلو أدنى قانونياً من كافة القرارات الأممية والدولية». ويذكّر بأن «القرار جاء لأن السلطة لم يعد في مقدورها أن تكون بلا سلطة، وهي أمام تحدّيات جسيمة تتعرض لها، وآخرها الهدم في مناطق (أ) جنوبي القدس، وقبله احتجاز أموال المقاصة، والأزمة المالية التي تعيشها السلطة، ما أثّر سلباً بقطاع مجتمعي واسع يتمثل بموظفي الحكومة في رام الله».
معادلة العجز: رام الله تلتزم الاتفاقات وتل أبيب تعربد
لطالما هدّدت السلطة الفلسطينية بوقف التنسيق الأمني مع العدو وتعليق العمل بالاتفاقيات القائمة في ما بينها وبينه. تهديداتٌ لم تَجِد، على امتداد عمر التلويح بها، طريقها إلى التنفيذ، بل إن الاحتلال كان يستكمل، على الرغم منها، مشاريعه التهويدية، ماضياً في سياسة التطهير العرقي في المناطق الفلسطينية، سواء في الأراضي المحتلة عام 1967 أو في الأراضي المحتلة عام 1948. وهي سياسة بلغت ذروة ازدهارها مع اعتلاء دونالد ترامب سدة الرئاسة في الولايات المتحدة في كانون الثاني/ يناير 2017، ومن ثم اعترافه بمدينة القدس عاصمة لإسرائيل في كانون الأول/ ديسمبر من العام نفسه. هكذا، أغدقت إدارة ترامب على الكيان العبري دعماً لم يسبق للأخير أن حصل على مثيله، مُشجّعة إياه على توسيع مخطّطه الاستيطاني في القدس والضفة المحتلتَين، وعلى سنّ وتمرير قوانين بالغة الخطورة، كانت دخلت المسار التشريعي مع تشكيل الحكومة الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتنياهو، في عام 2015، ليتم إقرار بعضها بعد انتخاب ترامب، فيما لا يزال بعضها الآخر عالقاً في ظل حلّ الكنيست، منتظراً «سفراً» جديداً مع أجندة الحكومة المقبلة.
على رأس تلك القوانين قانون «سلب الأراضي الفلسطينية بملكية خاصة» (قانون التسوية)، الذي طرح عام 2015 على طاولة الكنيست، ليُسنّ بعد ثلاثة أشهر فقط من انتخاب ترامب. أما القانون الثاني فهو قانون «القدس الموحّدة» الذي أُقرّ في بداية عام 2018، بعد أقلّ من شهر على إعلان ترامب، مستهدفاً تكريس ضمّ القدس للسيادة الإسرائيلية وتهويدها. لكن، وعلى رغم كلّ ما فعله الاحتلال في المدينة على مدى 52 عاماً من احتلالها، لا يزال الفلسطينيون يشكّلون 38% من سكان القدس بجزأَيها الشرقي والغربي، وفي الشرقي وحده يُشكلون 60% من السكان. وانطلاقاً من تلك الحقيقة، انصبّ تركيز العدو، خلال السنوات القليلة الماضية، على هدم المباني في كفر عقب ومخيم شعفاط، وصولاً إلى الجريمة الأخيرة في صور باهر، بهدف تفريغ البلدات والأحياء ذات الأغلبية العربية في القدس من سكانها، وذلك تمهيداً لضمّ مستوطنات «معاليه أدوميم» و«جفعات زئيف» و«غوش عتصيون»، التي تُعدّ كبرى المشاريع الاستيطانية في الضفة، والتي أنشئت أساساً لقطع الطريق أمام التواصل الجغرافي بين شمال الضفة وجنوبها. وبالتوازي مع تلك المساعي، كانت الجمعيات الاستيطانية، مثل «إلعاد» و«عطيرات كوهانيم»، تستكمل مشاريعها التهويدية في القدس تحت الأرض وفوقها، وخاصة في البلدة القديمة ومحيطها.
وفي الاتجاه نفسه، عقدت الحكومة الإسرائيلية، في شهر أيار/ مايو من عام 2018، اجتماعاً في القدس (قبل يوم واحد من نقل السفارة الأميركية)، أعلنت في ختامه تخصيص مليارَي شيكل (3.8 شيكل = 1دولار أميركي) لفرض سيادتها على المدينة، وتغيير هويتها العربية، وفرض الطابع التوراتي عليها. قرارٌ ظهرت مفاعيله على أكثر من مستوى؛ ففي الفترة المذكورة وافقت الحكومة على إقامة آلاف الوحدات الاستيطانية في القدس. كما وافقت على إقامة أنفاق للسيارات في منطقة الشيخ جراح لربط غرب القدس بشرقها، والتسريع في مشروع القطار الهوائي الذي هدفه ربط غرب القدس بمركز شرقها، وتحديداً المنطقة المحيطة بالأقصى.
إلى جانب ما تقدّم، عدّل الكنيست، منذ إعلان ترامب، عشرات القوانين القائمة في إسرائيل، بهدف تكريس السيادة الإسرائيلية على الضفة. وقد تبدّى ذلك في تعديل قانون «أوامر ضرائب البلدية وضرائب الحكومة»، الذي أعطى المستوطنات الحق في الحصول على الحقوق التي تحصل عليها البلديات داخل إسرائيل، وبشكل خاص الميزانيات، ثم قانون «منع التمييز بالمنتجات» الذي هدف إلى معاقبة مقاطعي البرامج أياً كانت طبيعتها، بسبب إقامتها في المستوطنات. ولحقه تعديل قانون «الدخول إلى إسرائيل» الذي هدف إلى معاقبة مشغّلي العُمال الفلسطينيين الداخلين من دون تصريح إسرائيلي بالعمل، ومن ثم تعديل قانون «أوامر الأدلّة» الذي منح المحاكم العسكرية مكانة المحكمة المدنية، بحيث باتت قرارات الأولى معتمَدة في الثانية. كذلك، عُدّل قانون «مجلس التعليم العالي» الذي بموجبه تصبح الأكاديميات والجامعات المقامة في المستوطنات تابعة لمجلس التعليم، وليس للجنة خاصة كما كان قائماً من قبل.
صور باهر: «النكبة» تتهدّد مئات الشقق
إذا ما استُثني هدم حيّ المغاربة، وحروب إسرائيل العدوانية، تكون جريمة هدم حوالى مئة شقة في 16 عمارة سكنية في حيّ وادي الحمص في صور باهر (جنوب شرقي القدس المحتلة)، وتهجير قاطنيها من المنطقة المُصنّفة كمنطقة نفوذ تابعة للسلطة الفلسطينية إدارياً وقانونياً، الجريمة الإسرائيلية الأضخم ــــ لناحية الهدم الجماعي ــــ منذ احتلال القدس عام 1967. جريمةٌ لا تزال تداعياتها تتواصل على العائلات المنكوبة، التي أفاد بعضها «الأخبار» (عائلة منذر أبو وهدان، عائلة علي حمادة، وعائلة إسماعيل العبيدي) بأنها «تفرّقت في الوقت الحالي، فالنساء يعشن في بيوت أهلهن مع الأطفال، والرجال يتدبّرون أمورهم في بيوت الأقارب الآخرين، في حين انتقلت عائلات أخرى إلى العيش في الخليل جنوبي الضفة الغربية المحتلة». حتى الآن، لا أمل للمنكوبين بإعادة بناء ما تهدّم، لا سيما أن ذريعة الهدم كانت «أمنية؛ لقرب البيوت من جدار الفصل». وفيما جرى حديث عن وعود من قِبَل «مديرية تنمية القدس» التابعة للسلطة بمساعدة المنكوبين في استئجار بيوت في منطقتهم نفسها، قال الأهالي إنهم «لم يروا حالياً إلا الوعود، آملين تحقق ذلك ولمّ شمل الأفراد من جديد». وفي وقت تنتظر فيه مئات الشقق الأخرى في الحيّ مصيراً مشابهاً (لم يصدر القرار النهائي في شأنها بعد)، دعت «لجنة الدفاع عن الأراضي في حيّ وادي الحمص» إلى المشاركة في صلاة الجمعة اليوم، «لمواجهة الهجمة الإسرائيلية الشرسة على البيوت