تنصّلت تركيا، قبل أيام، من قبولها التوقيع على الفقرة الخاصة بتقاسم مياه الرافدين مع العراق، ضمن اتفاقية التعاون الشاملة بين البلدين. جاء ذلك توازياً مع توقف العراق عن استيراد عدد من المنتجات الغذائية من تركيا، وفي مقدمتها بيض المائدة، بعد تحقيق الاكتفاء الذاتي منها، ما أدى إلى إفلاس شركات تركية عديدة. فهل من علاقة بين الأمرين؟ في الـ12 أيلول/ سبتمبر الجاري، أعلن المدير العام للسدود والخزانات في وزارة الموارد المائية العراقية، مهدي رشيد، أن «تركيا تنصّلت من وعود سابقة قدّمتها للجانب العراقي بإقرار تقاسم مياه الرافدين بين البلدين». وكان معاون مدير «المعهد الوطني لإدارة الموارد المائية» في الوزارة عينها، حسن الصفار، قد أعلن، في شهر آذار/ مارس الماضي، أن وفداً عراقياً، يقوده وزير الخارجية السابق إبراهيم الجعفري، نجح في «إقناع» الجانب التركي بالتوقيع على بند المياه ضمن اتفاقية التعاون، بعد رفض أنقرة لذلك طوال العقود الماضية. وقال الصفار إن العراقيين هدّدوا بعدم التوقيع على الاتفاقية التي تعود على تركيا بمبالغ طائلة تصل إلى 16 مليار دولار سنوياً، إذا رفض الأتراك وجود الفقرة الخاصة بتقاسم المياه، ما اضطر الأخيرين إلى القبول، لكنهم اليوم يتنصّلون من موقفهم.
بالعودة إلى كلام رشيد، فهو أوضح أن الوفد العراقي، الذي زار تركيا أخيراً، انسحب من المفاوضات بعد رفض الجانب التركي مناقشة موضوع تقاسم مياه النهرين، اللذين يستمدّ العراق وجوده الكياني واسمه وتاريخه من وجودهما، وبدأ شعبه بإدارتهما قبل أن تظهر تركيا إلى الوجود بآلاف السنوات، مضيفاً أن العراق كان ينتظر التصديق على مسألة إطلاقات المياه خلال زيارة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، المرتقبة قريباً لبغداد، خصوصاً أن ملف المياه تحت إشرافه الشخصي. ولدى سؤاله عمّا سيتخذه العراق من إجراءات حيال ذلك، اكتفى رشيد بالقول إن «الجانب العراقي لن يجامل أحداً على حساب حقوقه». وبعد يوم من تصريحاته تلك، تحرّك الوسط البرلماني، ليعلن رئيس لجنة الزراعة والمياه النيابية، سلام الشمري، وجود ضغوط تركية على العراق في ما يخصّ ملف المياه، مُحمّلاً تركيا مسؤولية التنصل من التزاماتها في هذا الإطار. وأشار إلى أنه «اتُّفق مع فيصل آر أوغلو، مبعوث الرئيس التركي الخاص بالمياه، على قيام وفد عراقي مختصّ بزيارة تركيا والتوقيع النهائي على اتفاقية المياه»، معرباً عن تفاجؤ «اللجنة بعدم استقبال الوفد، وإلغاء جميع الاتفاقات التي جرى التحاور عليها مع الجانب التركي، وهذا أمر مرفوض جملة وتفصيلاً».
يسعى أردوغان إلى رفع التبادل التجاري مع العراق من 16 مليار دولار إلى 30 أو 40 مليار دولار
ويأتي هذا التنصّل التركي بعد توقف العراق عن استيراد كميات ضخمة من المنتجات التركية، وفي مقدمتها بيض المائدة وبعض أنواع الفاكهة والخُضَر. فهل من علاقة لموقف أنقرة بوقف استيراد تلك المنتجات؟ وهل تريد تركيا أن تُبقي العراق سوقاً لمنتجاتها الزراعية من مياه جارها المصادَرة، تحت طائلة معاقبته بقطع المياه؟ لا يمكن استبعاد هذا الاحتمال تماماً، ولا سيما أن رئيس الوزراء العراقي، عادل عبد المهدي، كان قد استهلّ عهده بالكثير من القرارات الاقتصادية المضرّة بالاقتصاد، ومنها إلغاء التعرفة الجمركية على السلع المستوردة من عدد من دول الجوار، وفتح مناطق تجارة حرة على الحدود مع الأردن والسعودية والكويت. وفي حال تأكُّد الابتزاز التركي، هل ستعمد حكومة عبد المهدي إلى تطبيق الشرط الذي وضعه الوفد العراقي برئاسة الجعفري، وهو وقف التعامل التجاري بالكامل مع تركيا لأنها خرقت الاتفاق الموقّع معها؟ لا أعتقد أنها ستجرؤ على ما هو أقلّ من ذلك، بل قد تبادر إلى فتح أسواق العراق على مصراعيها للبضائع التركية السيئة من دون قيد أو شرط، حتى يسمح أردوغان بإطلاق بعض المياه العراقية المصادَرة والمحجوزة خلف سدوده!
إن هذا الواقع الذي يكرّس ارتهان مياه الأنهار العراقية خلف السدود التركية، يعني بكل وضوح أن العراق يشتري مياهه بأموال نفطه التي تُنفَق على سلع تركية سيئة ليست البلاد بحاجة إليها، أو على الأقلّ يمكن ألّا تكون بحاجة إليها. والنظام القائم حالياً في العراق لا يمكن أن يخاطر باتخاذ إجراءات مضادة لتركيا، أو تأمين مصادر الغذاء لشعبه بشكل مستقلّ كما تفعل شعوب صغيرة وفقيرة وبلدان محاصَرة مثل إيران، لأنه ليس مستقلاً أصلاً. على سبيل المثال، لقد عانت إيران من شحّ في المياه، وجفاف لمدة عقدين تقريباً، ولكنها على رغم الحصار الغربي المفروض عليها نجحت في توفير ما نسبته 82% من المؤن الغذائية للاستهلاك في الداخل، و90% من المواد الغذائية الأساسية للصناعات. وتحتلّ إيران الدرجة الرابعة في العالم لناحية تنوع منتجات المحاصيل الزراعية، كذلك فإنها تحظى بالمرتبة الأولى في زراعة الفستق والزعفران، فلماذا يستورد العراق – الذي يحكمه من يزعمون أنهم حلفاء إيران – أكثر من 80% من غذاء شعبهم من الخارج؟
إن واقع تركيا الاقتصادي اليوم أسوأ مما كان عليه في أي فترة مرّت بها منذ عقود. فهو على وشك الانهيار، والعملة التركية في تراجع مستمر، ويمكن العراق أن يفرض عليها التوقيع على اتفاقية دولية بشروطه وشروط ما يسمونه «القانون الدولي» لتحرير المياه العراقية. إذ ليس من المستبعد أن يكون أردوغان قد قام بهذه الخطوة قبل زيارته القريبة للعراق، ليضغط على حكومة عبد المهدي، ويخرج منها بصفقات ضخمة جديدة. إن أردوغان يريد أن يصعد بالتبادل التجاري مع العراق، باستعمال الابتزاز المائي، من 16 مليار دولار إلى 30 أو 40 ملياراً، في وقت لا توحي فيه مواقف الحكومة العراقية بأنها في وارد الرفض والتصدي لهذا المخطط الذي يشكل خطراً وجودياً ماحقاً على وجودها وعلى مستقبل شعبها! أما الموقف الوطني الاستقلالي العراقي المنشود، فهو ما يوجب رفض الابتزاز التركي، وقطع تصدير النفط عبر تركيا ووقفه، وتحويله ليكون عبر سوريا والسعودية في انتظار الانتهاء من ميناء الفاو الكبير، ويوجب أيضاً وقف استيراد أي سلع أو بضائع، والعمل على توفير البديل المحلي لها خلال فترة زمنية مناسبة.