العلاقة بين هوليوود والـ«موساد» قديمة جداً. وهوليوود القديمة (في عصرها الذهبي) افتُتنت بإسرائيل وروّجت لها بطريقة فجّة. ونجوم العصر الذهبي أسهموا كلّهم في الترويج لاحتلال إسرائيل وفي التبرّع لقضاياها وزرع أشجار في أرض فلسطين. لكن هوليوود تغيّرت: لم تعد مؤثّرة كما قبل، وحظوة إسرائيل (في هوليوود وفي الثقافة الغربيّة) لم تعد كما كانت عليه قبل حرب ١٩٦٧ وبعدها. كانت إسرائيل عنوان الدعوة الليبراليّة في الغرب، وهي اليوم عنوان دعوة اليمين العنصري والمسيحيّة المتطرّفة في الرجعيّة. ونجوم هوليوود يتجنّبون الكلام عن الصراع العربي-الإسرائيلي باستثناء قلّة: قضيّة إسرائيل لم تعد تجذب إلا أبطال أفلام الـ«أكشن» (المتقاعدين)، ومناصرة فلسطين تجذب اليساريّين المتطرّفين فقط. الصمت سيّد الموقف، لأن مناصرة إسرائيل لم تعد أخّاذة كما كانت بعد الحرب العالميّة الثانيّة عندما كان الدفاع عن عدوان إسرائيل واحتلالها واجب أخلاقي (غربي) عند كل المُندّدين بالمحرقة. واستطاعت إسرائيل أن توهم العالم (حتى ١٩٦٧) بأنها ليست إلا ضحيّة للعرب الأوغاد، وفي هذا أخفت القيادة الإسرائيليّة حقيقة تفوّقها العسكري الحاسم ضد العرب عن شعبها كي يبذلوا أقصى جهدهم في الحرب في ١٩٦٧. وصدمة النصر الإسرائيلي الشعبي كان سببها الجهل بالتفوّق الإسرائيلي في كل المجالات العسكريّة، ما دفع المتديّنين في إسرائيل إلى نسبها لإرادة إلهيّة (ودفع بعض العرب إلى الردّ على ذلك بالدعوة إلى العودة إلى الدين، كما دفع بعض العرب من اليسار يومها إلى تقليد إسرائيل «حضاريّاً»، كأن هناك أسباباً لتفوّقها غير الدعم الغربي غير المشروط مقابل دعم سوفياتي أقل ومحدود للعرب).
لقد حاولت الصحافيّة الأميركيّة اليساريّة، بيلين فرنانديز (لها كتاب جديد عن تجوالها حول العالم، بما فيه لبنان، بعنوان «المنفى: رفض أميركا واكتشاف العالم» بالإنكليزيّة) رصد العلاقة بين الـ«موساد» ونتفلكس في مقالة أخيرة على موقع «ميدل إيست آي»، وسألت الشركة عن تلك العلاقة، لكن الشركة نفت أي تسييس في برامجها. الرفيقة بيلين لاحظت أن هناك وثائقيّاً عن «داخل الموساد» وهناك فيلمان، لا فيلم واحد، عن أشرف مروان، وهناك «عندما يطير الأبطال» عن معاناة نفسيّة لجنود خدموا في عدوان تمّوز، وهناك واحد عن «منتجع البحر الأحمر للغوص»، ومسلسل «فوضى»، وهلمّ جرا. كل ذلك من دون تسييس؟ كل ذلك يدخل في مضمار الفن للفن؟
لا ندري طبيعة العلاقة الرسميّة بين الـ«موساد» ونتفلكس، لكن من المؤكد أن هناك علاقة ما، إما بين الـ«موساد» مباشرة أو بين شركة إنتاج إسرائيليّة تعمل كغطاء لعمل الـ«موساد» وبين شبكة نتفلكس العملاقة. ليست الخوارزميّات هي التي تحيلك باستمرار إلى اقتراح مشاهدة برامج ذات مضمون موسادي واضح. هناك طفرة في ذكر إسرائيل وفي إنتاج برامج تتعلّق بإسرائيل — دائماً من وجهة نظر معادية للعرب ومعادية للحقيقة معاً — على الشبكة المذكورة. واضح أن الشبكة تمنح شركة إنتاج موساديّة مبالغ طائلة لتسليم أفلام ومسلسلات من ملفّات الـ«موساد». والكبار في السن هنا، وعند بعض العرب، يحفظون عن الـ«موساد» ذكريات عن تفوّقه ومهارته الخارقة (الحقيقيّة أو المتخيّلة). وعند انكشاف الجاسوس الأميركي بولارد في عام ١٩٨٥، فوجئَ الوسط الإعلامي في الغرب لأنه اعتاد ضخّ عقود عن تفوّق الجاسوسيّة الاسرائيليّة ومهارتها. لكن الأدميرال ستانسفيلد تيرنر، المدير السابق في الاستخبارات الأميركيّة، علّق لشبكة «إي.بي.سي.» قائلاً يومها، إن كشف الجاسوس الإسرائيلي ليس مفاجأة، لأن الـ«موساد» يستحق علامة ممتازة فقط في العلاقات العامّة وليس في المهارة في التجسّس.
لكن الجهاز الاسرائيلي ذاك نجح في العالم العربي بالترويج لتفوّقه أكثر مما نجح في التجسّس. الأنظمة البعثيّة والنظام الناصري والجزائري والليبي، مثلاً، كانت موصدة في وجهه. لم ينفذ الـ«موساد» إلى هذه الدول إلا بعد تغيير النظام أو بعد التحوّل إلى ساحات حروب، ولم يكن له مصادر معتدّ بها داخل العراق وسوريا. اعترفت إسرائيل بأنها اعتمدت في السبعينيّات على النظام الأردني الذي جنّد ضابطاً سوريّاً، وكان الملك حسين يستعين به لرصد أيّ مخاطر يمكن أن تواجهها حليفته ووليّة أمره، إسرائيل.
كاد المسلسل يزعم أن كوهين قابل كل الزعماء العرب وتعرّف على صلاح الدين الأيوبي خلال إقامته في دمشق
المسلسل الأخير للكوميدي، ساشا بارون كوهين، عن الجاسوس إيلي كوهين هو في عالم الخيال وليس من الحقيقة، مع أن المسلسل يزعم أنه مبني على وقائع حقيقيّة، لكن الهدف الدعائي يتضح منذ البداية في المسلسل. إسرائيل دولة لحالمين (وهي الصورة التي تأسّست الدعاية السياسيّة عليها في الغرب، لكنها لم تعمّر بعد عصر الانتفاضة الفلسطينيّة وانكشاف العناصر العنصريّة لدولة الاحتلال، والتي كان الإعلام الغربي يتستّر عليها بعد الحرب العالميّة الثانية حتى لا يقع في إحراج بسبب سياساته الموالية لإسرائيل). لكن اهتمام الـ«موساد» بقضيّة كوهين وبقضيّة أشرف مروان لا تتعلّق بانتصارات أراد الـ«موساد» أن يزهو بها، بل هي نتيجة خيبات وإخفاق يحاول أن يحوّل الأنظار عنها عبر نكش انتصارات حقيقيّة أو موهومة من أرشيفه. قضيّة مروان باتت معروفة، لكنها ليست عمليّة استخبارية معقّدة: الرجل عرضَ خدماته على السفارة الإسرائيليّة في لندن من تلقاء نفسه مقابل الوفير من المال. وهو كان في موقع نافذ أيام حكم الرئيس أنور السادات يسمح له بتسريب أسرار (لكن فيلم نتفلكس عنه جعله نافذاً أيام عبد الناصر). لكن عمليّة كوهين مسألة أخرى تماماً.
إيلي كوهين جاسوس فاشل، وذروة الفشل في العمل التجسّسي تتجسّد في الانكشاف والتحقيق والمحاكمة ثم العقاب. وقد ألقي القبض على كوهين أثناء الإرسال بالشيفرة، وتمّ التحقيق معه (لم يكن هناك آثار تعذيب عليه عند محاكمته خلافاً لمزاعم الـ«موساد» في حينه وحتى الآن) واعترف بكل تفاصيل مهمته ثم شُنقَ في ساحة المرجة، أي إن العمليّة فشلت بكل المعايير، خصوصاً عندما تمحّص بطبيعة عمله وعلاقاته في دمشق. لكن فشل العمليّة هو الذي أدّى إلى خلق أسطورة كوهين من أجل هدفيْن:
1) وقع قادة الـ«موساد» في ورطة داخليّة بسبب الإحراج الذي تسبّب لهم فيه تجنيد كوهين وافتضاح أمره وإعدامه. وفي سياق الصراع بين الأجهزة، كان على الـ«موساد» تعظيم قدرات وإنجازات كوهين لتسويغ المجازفة الكبيرة في زرع جاسوس متهوّر باعتراف الجهاز.
2) الخطر الأكبر للـ«موساد» كان في انفضاح هشاشة هذا الجهاز الذي آمن معظم العرب في حينه بقدراته الخارقة والعجائبيّة، وانحدار سمعته بين العرب مسألة تضرّ بالأمن القومي الإسرائيلي الذي، منذ إنشاء الدولة، عمل على إخافة العرب وإقناعهم بأن يد الـ«موساد» طويلة، وأنه ليس هناك من أسرار لا يستطيع الوصول إليها. كل هذا تطلّب خلق أسطورة كوهين.
وهذا ليس أوّل فيلم عن كوهين، فقد سبقه كتاب «رجلنا في دمشق» (لإيلي بن حنان، 1969) الذي تحوّل إلى فيلم أميركي فشل تجاريّاً. لكن الدعاية الموساديّة لا تيأس، وهي تحاول أن تعيد نشر الأسطورة في زمن تدهورت فيه سمعة الجهاز الاستخباري عالميّاً عمّا كانت عليه. توالت عثرات وحكايات فشل الـ«موساد»: من محاولة اغتيال خالد مشعل في عام ١٩٩٧ في عمّان إلى اغتيال محمود المبحوح في دبيّ في عام ٢٠١٠ وما تلى ذلك من نشر صور عملاء الـ«موساد» حول العالم، إلى تراكم كمّي ونوعي من فشل الـ«موساد» في مواجهة «حزب الله»، إضافة إلى انكشاف شبكات عديدة له في لبنان في العقد الحالي. يكفي ان نتذكّر أن العدوّ خطف مواطناً لبنانيّاً من بعلبك في ٢٠٠٦ ظنّاً منه أنه الأمين العام لـ«حزب الله»، لأنه يحمل الاسم نفسه. لم تعد سمعة الـ«موساد» على ما كانت عليه في الماضي.
والحبكة الأساسيّة في المسلسل تتعلّق بعلاقة كوهين في الأرجنتين مع الكولونيل أمين الحافظ الذي — بحسب الرواية الاسرائيليّة — سيصبح رئيساً لسوريا ويقرّب كوهين منه (هو أصبح رئيس مجلس رئاسة ولم يكن الحاكم المطلق لسوريا). المسلسل الأخير ركّز على هذه العلاقة. لكن كما أوضح الحافظ أكثر من مرّة، وكما أوضح غيره، فإن الحافظ لم يتزامن في إقامته في بوينس أيريس مع كوهين، كما أنه لم يعرفه في دمشق. الحافظ وصل إلى بوينس أيريس في عام ١٩٦٢، أي بعد مغادرة كوهين. يعني أن كل هذه القصّة هي من صنع الخيال الموسادي. لكن انتشار القصّة يتحمّل مسؤوليّته النظام البعثي (صلاح جديد وحافظ الأسد)، إذ تمنّعا – بسبب الضغينة تجاه الحافظ والصراعات داخل البعث — عن توضيح هذه الحقيقة، لأنهما لم يكونا ليدافعا عن أمين الحافظ حتى لو كان عدم الدفاع عنه يخدم الدعاية السياسيّة الإسرائيليّة. والحافظ في مقابلته مع «الجزيرة»، لم يستوعب أهميّة نفيه لهذه القصّة (ربما لأنه يعلم أنها كذبة) وكان في معرض الجواب عن كوهين يردّ بالحديث عن حافظ الأسد. وهذا درس على أن ضغائن «البعث» لا مثيل لها في التاريخ السياسي المعاصر.
ولو أوضحتَ أن الحافظ وكوهين لم يلتقيا، فإن كل أسطورة كوهين تنهار بالكامل. لكن المسلسل لم يكتفِ بالتعويل على كذبة علاقة كوهين بالحافظ (لو كان هناك علاقة بالفعل أو صورة أو وثيقة واحدة، لكان خصوم الحافظ البعثيّون قد قدّموها هديّة عبر كل هذه السنوات، خصوصاً عندما كان الحافظ مقيماً في العراق، ومؤيّداً لصدّام حسين ضد نظام حافظ الأسد). أراد المسلسل الاستعانة بالاستشراق الإسرائيلي المبتذل الذي لجأ دائمأً إلى الإهانات الجنسيّة ضد العرب: والعقوبات الاسرائيليّة في السجون ضد العرب كانت غالباً ما تستخدم التحقير الجنسي للرجل والمرأة العربيّة. وقد زار خبراء السجون الإسرائيليّون سجون الاحتلال الأميركي في العراق لتقديم الدعم والمشورة (وسجن أبو غريب حفل أيضاً بالتعذيب المبني على التحقير الجنسي للرجل العربي). وفي المسلسل، ما ان يتقدّم كوهين لمصافحة زوجة الحافظ للمرّة الأولى، حتى مدّت الأخيرة يدها إليه كي تضغط على عضوه الذكري. لم تستطع زوجة الحافظ (وهي في الحقيقة امرأة محافظة من حلب) مقاومة إغراء كوهين الجنسي، لأن الإسرائيلي لا يُقاوَم من وجهة نظر الاستشراق العنصري الإسرائيلي، لأن الرجل الإسرائيلي لديه ما لا يملكه الرجل العربي من جاذبيّة جنسيّة. وتُصوَّر نساء سوريا على أنهنّ كنّ متيّمات بكوهين (وصور الرجل لا تزال موجودة على الانترنت مما يصعّب من مهمّة الـ«موساد» في تصوير كوهين على أنه كان جميلَ زمانه). وإهانة الرجل العربي بـ«حريمه» نظرة استشراقيّة إسرائيليّة تتكرّر، وهي ترد بصورة مقزّزة في كتاب «الحاج» للكاتب الصهيوني، ليون أوريس (وهو مؤلّف كتاب «الرحيل»، والذي تحوّل إلى فيلم أثّر على نظرة الشعب الأميركي في الستينيّات والسبعينيّات على ولادة إسرائيل). والروايات الصهيونيّة عن كوهين أنه كان له ١٧ صديقة دمشقية مغرمات به تتكرَّر أيضاً في الإعلام الإسرائيلي، وأنه كان المرغوب الأوّل للزواج في دمشق… لكن هذا الخبر صادر عن دولة العدوّ، وهو مبني على رواية كوهين عن نفسه لمُشغِّليه في الـ«موساد». ولماذا نصدّق هذه الرواية؟ ألم يكن في دمشق رجالٌ أكثر منه ثراءً وأكثر جمالاً وطراوة وعذوبةً؟ بلغت القذارة في المسلسل درجة أن هناك مشهداً على الجدار في شارع تظهر فيه صورة عبد الناصر بملابس داخليّة نسائيّة. هذه هي المخيّلة الذكوريّة السوقيّة للصهيونيّة. والكتب الصهيونيّة عن ياسر عرفات لا تزال تنقل أن المخابرات الرومانيّة استمعت إلى تسجيلات في فندق في رومانيا، وان عرفات كان يمارس الجنس مع حرّاسه.
هناك العديد من الأخطاء التاريخيّة الكثيرة. لكن شخصيّة الحافظ هي الأساس، وفي مقابلة مع ناديا كوهين على شاشة إسرائيليّة أخيراً، اختلط اسم أمين الحافظ عليها وعلى المذيع، فجاء «أمين الأسد». وقد تم حشر اسم حافظ الأسد في الفيلم، وكاد المسلسل يزعم أن كوهين قابل كل الزعماء العرب وتعرّف على صلاح الدين الأيوبي خلال إقامته في دمشق. أوردَ الصحافي إبراهيم حميدي في «الشرق الأوسط» (السيّئة الذكر) عشرة أخطاء تاريخيّة في المسلسل، وهناك غيرها بالتأكيد. والصحافي السوري سامي المبيض (في «غولف نيوز») على حق عندما قال إن المشاهد لدمشق (وهي مُصوَّرة في المغرب، حيث يصول رجال الـ«موساد» برعاية ملكيّة) لا تُذكّر بدمشق الحقيقيّة أبداً. وحشر المسلسل اسم أحمد السويداني، فوضعه في الأرجنتين مع أمين الحافظ. وحشر السويداني كان مقصوداً، لأنه هو الذي كشف تجسّس كوهين، وأرادت الـ«موساد» أن تنتقم منه، فجعلته واحداً من معارف كوهين. حتى اسم ياسر عرفات حُشرَ في المسلسل، ويمكن أن يرد اسم جورج حبش في الفيلم الثالث عن الجاسوس. وحتى ميشيل عفلق ظهر في المسلسل، ولم تكن الكأس تفارق يده، وكان يحضر الحفلات الساهرة، فيما كان عفلق في الحقيقة شخصاً زاهدا متقشّفاً يعيش حياة متواضعة، وكان البعثيّون عندما يزورونه بعد السابعة مساءً يجدونه في ثوب النوم. والشخص الذي لعب دور أمين الحافظ، هو أميركي من أصل فلسطيني (اسمه وليد زعيتر) وهو يتخصّص في لعب أدوار «العربي القذر» في الأفلام الموساديّة.
والمفارقة أن أفضل رواية تفصيليّة لمهمّة كوهين وأعماله وردت في قرار «المحكمة العسكريّة الاستثنائيّة السوريّة» التي أصدرت حكم إعدام إيلي كوهين (يبقى المشهد الأخير في الفيلم أفضل ما فيه، للمشاهد العربي على الأقل). ونصّ قرار المحكمة مكتوب بمهنيّة وحرفيّة وشفافيّة ومصداقيّة عالية، خلافاً لقرارات محاكم «البعث» (النص مثبت في جريدة «الثورة» في ٩ أيّار ١٩٦٥، وهو منشور في مجلّد «الوثائق العربيّة» لعام ١٩٦٥). ويتضمّن القرار مقدّمة طويلة في ذم الصهيونيّة والرأسماليّة والإمبرياليّة تجعلك تحنّ إلى الخطاب السياسي العربي الثوري في الستينيّات، على ابتذاله وقصوره. والقرار لا يخفي حقائق، وهو يورد كل ما قام به كوهين وأسماء من قابلهم، من دون خشية من الإحراج للحكومة. وسرديّة المحكمة السوريّة تصوّر كوهين على أنه كان متخوّفاً قلقاً، وكان يعتمد على «الأغبياء» بحسب وصف المحكمة. ورواية الـ«موساد» تعترف بأن كوهين لم يكن يريد أن يعود إلى دمشق لخوفه من افتضاح أمره. ولاحظ جورج سيف (لنا عودة إليه) أن كوهين كان يغسل منزله بنفسه، مما يثير الاستغراب عن هذا الجاسوس الحريص الذي يلعب دور الثري المغترب، لكنه لا يستخدم من ينظفّ له منزله. ولغته الاسبانيّة في الأرجنتين كانت ضعيفة جداً، بالرغم من الإعداد المكثّف للرجل.
كانت المخابرات السوريّة فاعلة وقديرة في تلك السنوات كي تكشف مؤامرة بهذا الحجم
أما الضابط الرفيع في المسلسل (الذي أصبح صديقاً لكوهين)، فلم يكن إلا معزى زهر الدين (ابن شقيق اللواء عبد الكريم زهر الدين). طبعاً، أصرّ المسلسل على أن كوهين تعرّف أيضاً على اللواء زهر الدين، وأنه كان يحضر حفلات المجون في منزله. وكلّ من تعرّفَ على كوهين يتمّ ترفيع منزلته وموقعه في الرواية الموساديّة للتعظيم من نجاحات الوكالة. ومعزى زهر الدين كان مجنّداً وسُرِّح، فما هي المعلومات السريّة التي كانت بحوزته كي ينقلها كوهين إلى العدو؟ اعترافات كوهين نفسه كانت دقيقة: أن زهر الدين شرح له مرّة دلالة الرموز على الدبّابات، ومرّة أخرى في زيارة إلى الحمّة في عام ١٩٦٢، دلّه على مواقع الأسلحة. لكن، كما قال حميدي، القول إن الأسرار الدقيقة التي جمعها كوهين في رحلة ١٩٦٢ كانت هي الفاصلة في نصر ١٩٦٧ (للعدوّ) لا يستقيم. وهل ان المواقع العسكريّة والخطط الدفاعيّة لا تتغيّر من عام ١٩٦٢ حتى عام ١٩٦٧، ومع تغيّر في سلطة النظام في ١٩٦٦؟ وزهر الدين كان موظّفاً في وزارة الشؤون القرويّة والبلديّة، فما الذي يمكن لموظّف في هذه الوزارة أن يناله من أسرار الدولة؟
أما الشخص الآخر الذي تعرّف عليه كوهين فكان جورج سيف، وهو موظّف في قسم المغتربين في الإذاعة السوريّة. طبعاً، هذا الموظّف تحول في الرواية الموساديّة إلى مسؤول كبير في الوزارة وإلى وزير إعلام في روايات أخرى. وكوهين كان يجمع الصحف والمنشورات السوريّة (غير السريّة) ويرسلها إلى مُشغّليه عبر أوروبا. لم تكن الـ«موساد» تعلم أنه يمكن الحصول على الصحف السوريّة في لبنان. لكن قرار المحكمة اعترف بأن سيف كان مُعيناً لكوهين، إذ إنه زوّده ببطاقة صحافيّة. لكن التحقيقات المستفيضة مع سيف وزهر الدين لم تثبت أنهما منحا كوهين معلومات بالغة السريّة، والعقوبة للاثنين كانت خمس سنوات سجن مع الأشغال الشاقّة.
إن مراجعة قصة إيلي كوهين تصيبك بالذهول: ما هي الصفاقة التي جعلت إسرائيل تحوّل هزيمة مذلّة لها في تاريخ الـ«موساد» إلى نصر مبين تحتفل به في أفلام ومسلسلات. يستحق النظام السوري في عام ١٩٦٥ أن يحتفل بنصره ضد المخابرات الإسرائيليّة، لكن الأنظمة العربيّة في صراعاتها تشمت بهزيمة العرب وتجعل من هزيمة العدو نصراً. ألا يزال هناك في صف آل سعود في لبنان وفي خارجه من يجعل من هزيمة العدوّ في ٢٠٠٦ (وصفتها مجلة «إيكونومست» بأنها كانت في أحسن الأحوال «تعادلا») نصراً له؟ كانت المخابرات السوريّة فاعلة وقديرة في تلك السنوات كي تكشف مؤامرة بهذا الحجم (وهناك طبعاً من كارهي الذات العرب ممن يصرّون على أن السوفيات أو الألمان الغربيين أو التشيكوسلوفاكيين هم الذين كشفوا العدوّ). بعد وصول «البعث» إلى السلطة في سوريا والعراق أصبح تعذيب المعارضين والتنكيل بهم الاختصاص شبه الأوحد للمخابرات.
إن إيلي كوهين جاسوس فاشل انتهى على حبل مشنقة، بعد أن أفشى كل أسرار الـ«موساد» للمحقّقين السوريّين الذين استولوا على كلّ معدّاته وأوراقه. لكنّ العدوّ مصرّ على أنه انتصر في عمليّة إيلي كوهين. حسناً، إذا كان زرع عميل في دمشق كي يكسب صداقة موظّف في وزارة الشؤون البلديّة والقرويّة وآخر في قسم المغتربين في الإذاعة هو نصر، فلهم كل النصر. وإذا كان لجاسوس إسرائيلي ان يحوّل منزله في حي أبو رمّانة إلى ماخور كي تحتفي به الـ«موساد»، فلتحتفِ به.
* كاتب عربي (حسابه على «تويتر» asadabukhalil@)