كاد المتظاهرون يعودون أدراجهم أمس، ويعيدون تعليق آمالهم على حراك سياسي، وفق توجيهات «المرجعية»، يكفل حقوقهم، ويضمن تنفيذ مطالبهم. بيان «المرجعية» حمل حزمةً من التفاؤل: تضامن مع المطالب المحقّة، وصونٌ للحكومة وحثّ لها على الإصلاح، ومدّها بحل تفاعل معه عادل عبد المهدي سريعاً. كل المؤشرات أنبأت بأن المشهد آيلٌ إلى الحل خلال الساعات القليلة المقبلة.لكن، وفي تطوّر دراماتيكي، قلب مقتدى الصدر الطاولة على الجميع، بدعوته إلى استقالة الحكومة وانتخابات تشريعية مبكرة. دعوة خلطت الأوراق بشكل كبير، وكرّست معادلة جديدة: لا تحالف مع «الفتح» أولاً، سحب دعم الحكومة ثانياً، إحياء «تحالف الإصلاح» ثالثاً، إطاحة كل ما قُدّم من مبادراتٍ للحل رابعاً، وتشريع الباب أمام تظاهرات جديدة يدخل على خطّها المحق والمخرّب خامساً. موقف الصدر من شأنه تعكير العلاقة مع إيران، التي حرصت طوال الفترة الماضية على التواصل معه وإيجاد حلول مشتركة لكثير من القضايا العالقة، وخاصة أن دعوته تشرّع الباب أمام التدخل الخارجي، وهو ما حرصت الحكومة على صدّه.
حيدر العبادي وعمار الحكيم سارعا إلى ركوب موجة الصدر، ليبقى السؤال عن إمكانية استقالة الحكومة، أو عبد المهدي، الذي ترفض أوساطه أي حديث مماثل حالياً، إلا أن الأيام المقبلة قد تحمل مفاجآت من شأنها هدم اتفاق الصدر ـــ هادي العامري وما بُني عليه.
حمل بيان «المرجعية الدينية العليا» (آية الله علي السيستاني)، أمس، الكثير من الرسائل والدلالات، والتي لاقت تفاعلاً «مباشراً وإيجابياً» من الحكومة برئاسة عادل عبد المهدي، والكتلتين النيابيتين الكبيرتين «سائرون» (المدعومة من «التيار الصدري») و«الفتح» (الفصائل والقوى التي شكّلت «الحشد الشعبي»). عكس البيان تعاطف النجف مع المطالب الشعبية المحقة من جهة، وحرصاً على مؤسسات الدولة من جهة أخرى، كما أنه استبطن مخاوف من انهيار مرتقب في ظلّ واقع معيشي صعب، يُنذر بعودة حراك مماثل بـ«صورة أقوى وأقسى»، كما قال البيان، الذي أُريد منه إيصال الرسائل الآتية:
1- «المرجعية» على اطلاع كامل على الواقع المعيشي الصعب، وتقف إلى جانب المطالب الشعبية المحقة.
2- هي ترفض المساس بأرواح المواطنين أو العسكريين، وتدعو إلى الوقف الفوري لاستخدام العنف، لأن السقف/ الشرط لأي تحرك مطلبي هو أن يكون سلمياً.
3- «المرجعية» على اطلاع كامل أيضاً على ما يخطّط ضد البلاد، وإلا ــــ وفق ما تقول مصادر سياسية بارزة ــــ كان من الوارد جداً أن «تكون لغة الخطاب أكثر حدّة»، غير أن قنوات محدّدة أطلعت المعنيين في النجف على مجريات «مشروع حكومة أمر الواقع».
4- دفع الحكومة إلى إطلاق مشاريع إصلاحية جادة من دون إسقاطها، بل استيعابها لتقديم المزيد من البرامج من أجل تحقيق الإصلاح المطلوب.
5- تحميل السلطتين التشريعية والقضائية مسؤولياتهما في التحرك الجاد؛ فالنيابة ليست منصباً شكلياً أو بحثاً عن استفادة مالية، والقضاة واجبهم التحرّر من أي قيد حزبي أو طائفي.
6- تقديم حلّ سريع يشكل أسس حل للأزمة الراهنة، وبذلك تكون «المرجعية» (إن استجابت الحكومة وتفاعلت معها) «الضامن» لتنفيذه.
ووفق البيان، فإن الحل الجديد ــــ القديم يقضي بتشكيل لجنة إصلاحية، سبق أن اقتُرحت في 7 آب/ أغسطس 2015 (لم يأخذ رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي بها)، يمكن أن تكون «مدخلاً مناسباً لتجاوز المحنة الراهنة». هذا المقترح، يحمل دلالتين:
1- أي تحرك مطلبي يحتاج إلى هوية واضحة، ومطالب محدّدة، وبدائل مشخّصة.
2- حلّ «المرجعية» يمنح عبد المهدي فرصة جادّة للتغيير والإصلاح، حتى لا تضطر ــــ في المرحلة المقبلة ــــ إلى رفع سقفها، والعهد إلى الشارع الغاضب بالضغط أكثر على الحكومة أو إسقاطها، لأن استمرار الواقع كما هو «لا ينبئ بوضع حدّ لاستشراء الفساد»، وفق ما جاء في البيان.
دعا الصدر الحكومة إلى الاستقالة، وإجراء انتخابات تشريعية مبكرة بإشراف أممي
موقف «المرجعية»، بحسب ما تقرأه مصادر عراقية رفيعة، يفترض أن يؤدي دوراً بارزاً في المساعدة على إطفاء فتنة تعصف بالبلد. وفي هذا الإطار، يبرز بيان وزارة الخارجية الإيرانية، قبل أيام، والذي أكد «ثقة طهران بأن الحكومة والشعب العراقيين، وجميع التيارات… ولا سيما مراجع التقليد… سيعملون جميعاً على تهدئة الوضع المضطرب الحالي، من دون السماح باستمرار بعض التحركات التي تضرّ بالشعب العراقي، وتؤدي إلى استغلالها من قِبَل الأجانب». وعليه، فإن بيان أمس يشي بأن «المرجعية» تميل إلى حفظ حكومة عبد المهدي ومنحها وقتاً إضافياً، وخصوصاً أن مدير مكتب السيستاني في لبنان، حامد الخفاف، كان قد أكد، منذ أسابيع، أن «عبد المهدي حظي بقبول وطني وإقليمي ودولي، فلم تعترض عليه المرجعية، لكنها بلّغت الأطراف المعنية بأنها لن تؤيد الحكومة الجديدة إلا إذا وجدت ملامح النجاح في عملها، مع الأخذ بعين الاعتبار حجم المشاكل المتوارثة من الحكومات السابقة».
من جهته، أعلن عبد المهدي التزامه بيان «المرجعية»، والعمل على تحسين الخدمات وتوفير فرص العمل والابتعاد عن المحسوبيات، وتقديم أسماء لـ«لجنة مكافحة الفساد». وإذ أقرّ بأن «المطالب بمحاربة الفساد والاهتمام بمستقبل الشباب محقّة»، واعداً بـ«أن الحكومة ستستجيب لكل طلب مشروع»، صوّب على بعض «الشعارات المرفوعة في التظاهرات، ومحاولات استغلال التحركات المطلبية». ولفت إلى أن الحكومة «لا يمكنها أن تحقّق كل الطموحات خلال سنة واحدة، ولا يوجد حل سحريّ لمشكلات الحكم واستغلال السلطة المُزمنين في العراق»، مطالباً البرلمان بـ«منح صلاحيات لرئيس الوزراء لاستكمال التشكيلة الوزارية والقيام بالتعديلات الحكومية، بعيداً عن المحاصصة السياسية». بدوره، دعا رئيس البرلمان، محمد الحلبوسي، المتظاهرين إلى «التحلّي بأعلى درجات ضبط النفس»، و«الحؤول دون وقوع المواجهة بينهم وبين القوات الأمنية».
هذه المواقف، وفق ما تؤكد مصادر سياسية، سيُبنى عليها في المرحلة المقبلة و«بشكل جدّي». إذ إن «حزمة من الإصلاحات» يفترض إطلاقها بعد جلسة البرلمان المقرّرة اليوم، والتي أعلنت رئاسة مجلس النواب انعقادها لمناقشة مطالب المتظاهرين، في وقت أكد فيه «تحالف الفتح» وقوفه إلى «جانب المطالب المشروعة للمتظاهرين، وتبني توجيهات المرجعية الدينية»، مطالباً الحكومة بـ«إطلاق حزمة إصلاحات واقعية وجريئة بتوقيتات زمنية محددة تلبّي متطلبات الجماهير، وتحقق توجيهات المرجعية». وتعهد التحالف بـ«دعم حزمة الإصلاحات وتمريرها في البرلمان، بالتعاون مع الكتل السياسية الأخرى، على أن تُقدَّم هذه الإصلاحات خلال فترة أقصاها عشرة أيام». «الفتح» خوّل عبد المهدي كامل الصلاحيات لتنفيذ برنامج إصلاحي، محمّلاً الحكومة مسؤولية «أي إخفاق أو تأخير في تحقيقها».
أما «سائرون»، وعلى رغم دعوة زعيم «التيار الصدري»، مقتدى الصدر، نوّابه إلى تعليق عضويتهم قبل يوم من الجلسة البرلمانية، في خطوة وُصفت بـ«الإيجابية»، على اعتبار أن «التعليق يخدم التهدئة المفترض أن تدخل حيّز التنفيذ، وبذلك يضبط أي حركة أو تصريح قد يورّطه»، إلا أنه عاد في ساعة متأخرة من ليل أمس ليخلط الأوراق، بدعوته الحكومة إلى الاستقالة، وإجراء انتخابات تشريعية مبكرة بإشراف أممي، تحت شعار «الدفاع عن حقوق المظلومين، ورفض تحمّل مسؤولية إخفاق الحكومة أو مواجهة المرجعية»، التي أشارت إلى كتلته في بيانها. معلومات «الأخبار» أفادت بأن اتصالاً جرى، ليل أمس، بين الصدر وزعيم «الفتح» هادي العامري، حاول فيه الأخير ثني الأول عن قراره، إلا أن الصدر رفض ذلك. وما كاد البيان يُعلن، حتى سارع رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي، وزعيم «تيار الحكمة» عمار الحكيم، إلى تبنّي خيار زعيم «التيار الصدري»، في تناغم يطرح الكثير من علامات الاستفهام ويُنتظر أن تتضح حيثياته في الساعات والأيام المقبلة.
«قنّاصة» بتشغيل أميركي ــ سعودي!
قال مصدر حكومي رفيع إن الأجهزة الأمنية استطاعت، حتى ساعات متأخرة من ليل أمس، احتواء التحركات الاحتجاجية «بشكل كبير»، مشيراً إلى أن «وتيرة أعمال العنف والشغب، والتي سادت العاصمة بغداد وعموم المحافظات الجنوبية، بدت أمس أقلّ بكثير مما كانت عليه قبل يومين»، في وقت بلغت فيه حصيلة الضحايا 44 قتيلاً وأكثر من 700 جريح. من جهته، كشف الناطق باسم وزارة الدفاع، تحسين الخفاجي، عن إطلاق نار من قِبَل مندسّين نحو المتظاهرين والقوات الأمنية لخلق الفتنة. وهو تصريحٌ بدا لافتاً تزامنه مع حادث قنص أسفر عن سقوط 4 قتلى في صفوف القوى الأمنية والمتظاهرين، في تطور كبير في المنحى العنفي المخيّم على الحراك القائم. مصادر أمنية رفيعة تحدثت عن انتشار كثيف لـ«قناصين مجهولين» في عدد من أحياء العاصمة، مشيرة إلى أن المعلومات المتوافرة لديها تفيد بأن السفارة الأميركية والقنصلية السعودية هما المشغّل الأساسي لهؤلاء، وسط إصرار من هاتين الجهتين على إبقاء حالة الفوضى والتفلّت قائمة. ولفتت المصادر إلى أن عدداً من الموقوفين اعترفوا بأن السفارة الأميركية والقنصلية السعودية دفعتا بهم بمغريات شتى لإحداث بلبلةٍ في الشارع، وضرب شكل التظاهرات السلمي.
«لجنة المرجعيّة» التي لم تبصر النور
في آب/ أغسطس 2015، شهدت العاصمة العراقية، بغداد، تظاهرات مطلبية كالتي تشهدها اليوم. رئيس الوزراء، حينها، حيدر العبادي، وعد بالاستجابة لمطالب المتظاهرين والعمل على تحقيقها، فيما قدّمت «المرجعية الدينية العليا» (آية الله علي السيستاني) طرحاً يقضي بتشكيل لجنة من عدد من الأسماء المعروفة والمختصة، من خارج قوى السلطة، وتحظى بالصدقية والكفاءة العالية والنزاهة التامة. هذه اللجنة، التي أعادت «المرجعية» اقتراحها في البيان الصادر أمس، تُكلَّف بتحديد الخطوات المطلوبة في سبيل مكافحة الفساد وتحقيق الإصلاح المنشود، ويُسمح لأعضائها بالاطلاع على مجريات الأوضاع بصورة دقيقة، والاجتماع مع الفعاليات المؤثرة في البلاد، وفي مقدمهم ممثلو المتظاهرين في مختلف المحافظات للاستماع إلى مطالبهم ووجهات نظرهم. وأضاف البيان، الذي دفع بهذا المقترح مجدداً إلى الواجهة بعدما غضّ العبادي الطرف عنه، أنه إذا أكملت اللجنة عملها وحدّدت الخطوات المطلوبة تشريعية كانت أو تنفيذية أو قضائية، «يتم العمل على تفعيلها من خلال المسارات القانونية، ولو بالاستعانة بالدعم المرجعي والشعبي».