بغداد | كئيبةٌ هي بغداد. الزحمة العائدة بخجلٍ بعد التظاهرات الأخيرة لا تشبه ما كان قائماً قبل أسابيع. صحيح أن كثيراً من البغداديين توجّهوا إلى مدينة كربلاء لأداء مراسم أربعينية الإمام الحسين، إلا أن ارتدادات الأحداث الدموية التي شهدتها البلاد مطلع الشهر الجاري لا تزال ترخي بثقلها على عاصمة الرشيد. ثقلٌ يستشعره الزائر بوضوح بالقرب من جسر الجادرية، الرابط بين ضفتَي نهر دجلة، والذي يقسم بغداد إلى قسمين: الكرخ والرصافة. هنا، عند الحادية عشرة ليلاً، لا يزال بالإمكان مشاهدة عشاق يتسامرون على رغم الظروف الأمنية المضطربة.
في الحديث إلى رواد مقاهي العاصمة، نستبين أن ثمة انقساماً حادّاً في الرأي حيال أحداث الأسبوعين الماضيين. بعضهم يعرب عن اعتقاده بأن ما جرى «مؤامرة مدبّرة»، وأن الدولة وأدت «الفتنة» في مهدها، على رغم كلفة الدم الباهظة، آسفين لسقوط آلاف الضحايا من المتظاهرين والمنتسبين للقوات الأمنية. محمد، ابن الـ25 عاماً، يقول: «أكو (يوجد) أسباب للتظاهر، وماكو (لا يوجد) سبب يصير هيج (هكذا)»، مضيفاً: «أكو مين يحرّك الشارع، واضحة». صديقه، الذي يشاطره رأيه، يعزو قراءتهما تلك إلى «(أننا) أصحاب وعي سياسي»، وهذا ما حال دون اندفاعنا إلى المشاركة في تظاهرات «مجهولة»، أُريد لها، بحسبهما، أن تكون منطلقاً لإسقاط «العراق القوي»، والمنتصر على «داعش».
دعاة التظاهر رأوا في موقف «المرجعية» الأخير غطاءً لحراك الـ25 من تشرين الأول
في المقابل، يصرّ آخرون على «عفوية» الحراك، معتبرين «أن مَن في قلب العاصفة غير المراقب لها». يرفض هؤلاء أي حديث عن اندساس أو محاولة انقلاب، متمسّكين برأيهم في وجود «قمع ممنهج من قِبَل السلطة»، وبكلّ ما أوتيت من قوة للمتظاهرين. مثّلت حكومة عادل عبد المهدي بالنسبة إليهم، كما يقولون، «الخلاص المرتقب، بعد أكثر من عقد على حكم حزب الدعوة، ومن ثم سقوط ثلث البلاد بيد تنظيم داعش»، لكن بعد عام ثبت أن الحكومة «حكومة محاصصة، لم تقدّم شيئاً بل وعوداً مُخدِّرة لأشهر خلت». مؤيّدو الحراك، الذي يرفضون الكشف عن هوياتهم خشية الملاحقة الأمنية، يعربون ابتداءً عن خيبة أمل من موقف «المرجعية الدينية العليا» (آية الله علي السيستاني)، لكنهم يقولون إن كلمتها الأخيرة عادت وأنعشتهم، وهو ما تذهب إليه أوساط النجف أيضاً، التي توضح أن «البيان الثاني جاء تعبيراً عن لسان الناس… من دون أن يكون دعوةً إلى التظاهر في الأيام المقبلة».
لكن دعاة التظاهر سعياً لـ«إسقاط النظام السياسي» يجدون في موقفها هذا غطاءً لتحركات مرتقبة في الـ25 من تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، بل إن بعضهم يذهب إلى أن «الإصلاح لا يحتاج إلى إذن شرعي»، في ما يمكن أن ينبئ بجولة جديدة من العنف. إزاء ذلك، يشدد مطلعون على أجواء النجف على أن أي حديث يحمل «تحريضاً على هدر الدماء» مرفوض. وفيما لا تزال الأنظار متجهة إلى «لجنة التحقيق العليا» في حوادث التظاهرات، والتي يُتوقع أن تعلن نتائجها قريباً بخصوص المتورطين في القتل، يرى مؤيّدو الحراك أن «الحكومة لن تخرج كلّ ما في جعبتها عن المؤامرة المفترضة دفعةً واحدة لحسابات خاصة بها». وفي المقابل، تقدّر مصادر مطلعة أن الأمور لم تستتبّ للحكومة بعد، وأن الأيام المقبلة ستحمل فصولاً جديدة من «المؤامرة». تقرّ هذه المصادر بوجود حراك مطلبي جدّي، لكنها تؤكد في الوقت نفسه وجود قوى سياسية تسعى إلى تصفية حسابات في خضمّ ما يجري، وأيادٍ خارجية تريد استغلاله لتحقيق مآربها. هكذا، يبدو المشهد شديد الضبابية، في ظلّ مخاوف من انفجار متجدد، وهاجس من الانزلاق إلى المجهول بات يسكن كثيرين.