رفعت الولايات المتحدة سقف محاولاتها امتطاء موجة الحراك الشعبي الدائر في العراق، بدعوتها إلى إجراء انتخابات نيابية مبكرة. دعوةٌ سرعان ما قوبلت بالرفض من قِبَل شريكَي الائتلاف الحكومي الرئيسيين، اللذين رفضا رفضاً قاطعاً الانقلاب على نتائج الانتخابات التي أجريت العام الماضي
البيان دفع زعيم «التيار الصدري» مقتدى الصدر، إلى الخروج ببيان ناري، رفض فيه أن تُحوّل أميركا العراق إلى سوريا كساحة أخرى للصراع، مؤكّداً أنّه «لن يسكت إذا كانت الانتخابات المبكرة (والتي كان دعا إليها هو في وقت سابق) بإشراف أميركي». وأضاف: «إذا تدخلت أميركا مرة أخرى فسوف تكون نهاية وجودها، من خلال تظاهرات مليونية غاضبة»، قائلاً: «كفاكم تدخّلاً في شؤوننا. فللعراق كبارٌ يستطيعون حمايته، ولا يحتاج إلى تدخلات لا منكم ولا من غيركم». بدوره، ردّ الأمين العام لـ«عصائب أهل الحق»، قيس الخزعلي، على البيان الأميركي، معتبراً أنه «كشف عن حجم التدخل الأميركي في الشأن العراقي»، عادّاً «مشروع الانتخابات المبكرة مشروعاً أميركياً»، باستغلال تشديد «المرجعية الدينية العليا» (آية الله علي السيستاني) على الانتخابات الدورية».
حذر السيستاني من «سلوك طريقٍ آخر» إذا فشلت السلطات في إصلاحاتها
الردّ العراقي على البيان الأميركي، والذي جاء من الشريكين الرئيسيين في الائتلاف الحكومي، يمثّل تحصيناً لحكومة عادل عبد المهدي، وتمسّكاً بنتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة (أيار/ مايو 2018)، والتي يعتقد الطرفان أن الدعوة إلى «انتخابات مبكرة» ليست إلا محاولة لإطاحتها، ومقدمة لانقلاب سياسي يستهدف تغيير الخريطة البرلمانية لمصلحة قوى تأمل واشنطن تسيّدها المشهد. هذا المشروع، وفق مصادر «الفتح»، هو «الخيار البديل» لمشروع «الانقلاب العسكري» المدعوم أميركياً، والذي أُجهض أواخر أيلول/ سبتمبر الماضي، وتثبيت لحقيقة سعي الولايات المتحدة إلى حرف وجهة «المطالب»، وتحويلها من معيشية إلى سياسية بحتة، وخاصة أن الإدارة الأميركية التمست ــــ في مكان ما ــــ عجز الحكومة عن استيعاب نقمة الشارع. هذه الفجوة رأت فيها واشنطن المساحة الأنسب لتصعيد الضغوط على طهران وحلفائها، وخصوصاً أن أداء عبد المهدي وخروجه عن «الطاعة» الأميركية في كثير من المواضع كان صادماً لها.
في موازاة ذلك، بدا لافتاً أمس استقبال السيستاني رئيسة «بعثة الأمم المتحدة»، جينين هينيس بلاسخارت، في النجف جنوبي العاصمة بغداد. وفي بيان صادرٍ عن مكتبه، أعرب السيستاني عن «ألمه الشديد وقلقه البالغ لما يجري في البلاد»، مشيراً إلى «تحذيره المتكرّر منذ سنوات عدّة من مخاطر تفاقم الفساد المالي والإداري وسوء الخدمات العامة وغياب العدالة الاجتماعية»، والذي «لم يجد آذاناً صاغية لدى المسؤولين»، داعياً إلى إجراء «إصلاحات حقيقية في مدة معقولة». وأعرب عن خشيته من أن «لا تكون لدى الجهات المعنية جدية كافية في تنفيذ أيّ إصلاح حقيقي»، محذراً من أنه ما لم تكن «السلطات الثلاث قادرة على إجراء الإصلاحات اللازمة… فلا بد من التفكير بسلوك طريق آخر». وفيما شدّد على رفض التدخل الأجنبي، واتخاذ البلد ساحةً لتصفية الحسابات بين بعض القوى الدولية والإقليمية، رحّب بمقترحات البعثة، والتي تضمّنت الإفراج عن كلّ المعتقلين من المحتجين السلميين، وإجراء تحقيق في عمليات قتل المتظاهرين، وإعلان الأصول المملوكة للزعامات السياسية لمعالجة اتهامات الفساد، وإجراء محاكمات للفاسدين، وتطبيق إصلاحات انتخابية ودستورية تسمح بمزيد من المحاسبة للمسؤولين خلال الأشهر الثلاثة المقبلة.
«المرجعية» تمهل عبد المهدي: الفرصة الأخيرة… وإلّا!
قوبِل خطاب «المرجعية» يوم أمس بترحاب كبير لدى القوى الداعمة لحكومة عادل عبد المهدي، والتي عدّته «تاريخياً». إذ إن الخطاب امتنع عن رفع الغطاء عن الحكومة، بل ومنحها بشكل أو بآخر فرصة لتنفيذ إصلاحاتها، ما يتيح وضع خارطة الحلّ والإصلاح على سكّة التنفيذ، الذي سيكون مرهوناً بجدول زمني محدّد، من بعده قد يصبح الشارع في حِلٍّ من أمره
هذه الدعوة تُفسّر بضرورة «إحداث صدمة إيجابية سريعة»، عن طريق إصلاحات جذرية تُفنّدها مصادر سياسية مطّلعة على الشكل الآتي:
1- إنتاج قانون انتخابي جديد يمنح المستقلين تمثيلاً أكبر، بعيداً عن التحالفات الحزبية الواسعة (راجع «الأخبار»، العدد 3902).
2- تغيير «المفوضية العليا للانتخابات»، بوصفها جزءاً أساسياً من منظومة الفساد المستشري في مؤسسات الدولة (راجع «الأخبار»، العدد 3902).
3- محاسبة الفاسدين وتقديمهم للمحاكمة، وإلغاء «حلقات الفساد» أو المجالس والإدارات الرسمية، الخاضعة للمحاصصة الطائفية والحزبية، كـ«مكاتب المفتشين العموميين» و«مجالس المحافظات» وغيرها، والتي تشكل مورداً مالياً كبيراً للأحزاب والمنتفعين.
4- إجراء تعديل جذري في التشكيلة الحكومية، يطال أكثر من نصفها، واستبدال الوزراء الحاليين بوزراء تكنوقراط شباب دون الـ 50 عاماً.
5- إجراء إصلاحات فورية على صعيد الفريق الخاص برئيس الوزراء، وتحديداً ديوان الرئيس والأمانة العامة للمجلس، والابتعاد في التعيين عن منهج المحاصصة واسترضاء القوى السياسية.
6- وقف التعيينات على قاعدة «التهريب» أو «البيع»، أو الارتهان لإرادة القوى السياسية (ثمة 6 آلاف موقع شاغر حالياً)، إذ إن الخضوع للعقلية الحاكمة في التعيين سيرتدّ سلباً على الحكومة ورئيسها تحديداً، إن اتبع آلية تقسيمها على الأحزاب والقوى.
تلك الإصلاحات، تنتظر النجف، وفق المصادر، تنفيذها، فيما سيترقّب الشارع أيّ انزلاقة في العمل عليها حتى يعيد الزخم إلى احتجاجاته. أما القوى السياسية، وعلى رأسها «تحالف الفتح»، فتؤكد التزامها رؤية «المرجعية»، توازياً مع دعم الحكومة لتنفيذ حزمة الإصلاحات التي أطلقتها وفق جداول زمنية محدّدة. وفيما توضح مصادر «الأخبار» أن المهلة الزمنية لمراقبة الأداء الحكومي «لن تتجاوز الأشهر الثلاثة»، فهي تقدّر أن «المرجعية» والشارع على السواء لن ينتظرا أكثر «إذا التمسا أي تكلؤ أو تباطؤ أو تسويف في تنفيذ الوعود الإصلاحية»، مضيفة إنه «لن تكون هناك فرصةٌ ثانية… هذه هي الفرصة الأخيرة، وأيّ تأجيل ليس من مصلحة الحكومة أو رئيسها»، والإصلاح «الجذري» سيكون ضمانةً لديمومتها، أما «العجز» فإشارةٌ إلى العودة إلى الشارع، ومنح الأخير خيارات مفتوحة في سقف المطالب، مع انحياز «النجف» إليه، وتبنّي سقوفٍ «قد تقلب الطاولة على الجميع».
أكد «تحالف الفتح» التزامه رؤية «المرجعية» ودعم الحكومة في الوقت نفسه
النقطة الثانية في بيان «المرجعية» شددت على ضرورة الحفاظ على سلمية الاحتجاجات، داعية إلى «توجيه القلّة التي تتعرّض للقوات الأمنية والممتلكات العامة والخاصة إلى الكفّ عن ذلك»، فيما بدا لافتاً تحديد البيان نوعية المتظاهرين بـ«العراقي البالغ الكامل»، ما فُهم منه رفض إشراك طلّاب المدراس في التظاهرات القائمة، فـ«المشاركة ليست ملزِمةً لأحد… وليست مثاراً لتبادل الاتهامات بين المواطنين». وإذ حمّلت «المرجعية» أطرافاً وجهات داخلية وخارجية مسؤولية «ما أصاب العراق من أذى»، مشيرة إلى أن تلك الأطراف «تسعى اليوم الى استغلال الحركة الاحتجاجية لتحقيق بعض أهدافها»، فهي حضّت المشاركين على «الحذر الكبير من أي استغلال أو اختراق لجمعهم وتغيير مسار حركتهم الإصلاحية». وختم البيان بالإشادة بالقوات المسلحة و«الحشد الشعبي» (من دون أن تُسمّيه)، ما دفع بالأخير إلى الردّ على ذلك بالقول إن «أبناءكم ملتزمون أشدّ الالتزام بكلّ ما يصدر من توجيهات، وداعمون للمطالب المحقّة».
إزاء ذلك كله، يبدو أن العراق أمام استحقاق مفصلي، من شأنه التأسيس لمرحلة جديدة من عمره الحديث. إذ إن أي فشل في إثبات القدرة على الإصلاح قد يضع الحكومة والقوى الداعمة لها على محكّ أصعب مما تمرّ به حالياً، حتى لو استطاعت امتصاص الغضب حتى صيف 2020 على أبعد تقدير.
العراق | 283 قتيلاً منذ انطلاق الاحتجاجات
أعلنت «المفوضية العليا لحقوق الإنسان» في العراق، أمس، مقتل 23 شخصاً جرّاء «أعمال العنف المرافقة للاحتجاجات الشعبية»، خلال الفترة الواقعة بين 3 و7 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، في محافظات بغداد وكربلاء وذي قار والبصرة. وأضافت أن ألفاً و77 آخرين من المتظاهرين والقوات الأمنية أصيبوا خلال الفترة نفسها، مشيرة إلى اعتقال قرابة 201 شخص خلال الفترة عينها، أُطلق سراح 170 منهم. وبهذا الإعلان، يرتفع عدد القتلى، منذ بدء الاحتجاجات مطلع تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، إلى 283 شخصاً، والمصابين إلى أكثر من 13 ألفاً.
وأكدت «المفوضية» استمرار القوات الأمنية في استخدام «الرصاص الحي والغازات المسيّلة للدموع والقنابل الصوتية لتفريق المتظاهرين»، إلى جانب استمرار حجب خدمات الإنترنت، في ظلّ «سوء خدمة شبكة الاتصالات الهاتفية». وفيما دعت المتظاهرين إلى «عدم السماح لِمَن يريد حرف التظاهرات عن سلميتها»، طالبت القوات الأمنية باعتماد «وسائل أكثر إنسانية في التعامل مع المتظاهرين، والإعلان عن نتائج التحقيقات الخاصة بنوعية الغازات المستخدمة»، و«إحالة الذين قاموا بإطلاق النار والغازات بشكل مباشر ضد المتظاهرين إلى التحقيق». وأشارت إلى «قيام عدد من المتظاهرين بغلق الطرق والموانئ وحقول النفط»، وإجبارهم دوائر حكومية عدّة على الإضراب، إلى جانب إضراب نقابة المعلمين، وتعطيل الدروس في الجامعات والمدارس، بالتوازي مع إلحاق عدد آخر منهم الأضرار بالممتلكات الخاصة في بغداد وكربلاء وذي قار.
بدورها، أوضحت «منظمة العفو الدولية» أن «القنابل المسيّلة للدموع المستخدَمة يبلغ وزنها 10 أضعاف وزن العبوات التي تُستخدم عادةً»، مُبيّنةً أنها «مصنوعة في بلغاريا وصربيا وإيران»، لافتة إلى أنها أسفرت عن مقتل 16 متظاهراً على الأقلّ، باختراقها الجماجم أو الصدور.