قرابة الواحدة والنصف بعد منتصف ليل الخميس ــــ الجمعة، دوّت انفجارات عدة في محيط مطار بغداد الدولي. في البداية، الأخبار الواردة من المكان تحدّثت عن قصف بصواريخ «غراد» طاول أحد مدارج المطار. بعد ذلك، بدأت تتّضح الصورة: سيارتان تحترقان قرب مخرج منطقة الشحن في المطار، ويبدو أن مَن فيهما قد قتلوا. بعد ساعة من الأخذ والردّ، والإعلان والنفي، أُعلن الخبر: صواريخ أصابت السيارتين اللتين تقلّان مجموعة من قياديّي «الحشد الشعبي» ومدير التشريفات فيه و«ضيوفاً» أجانب. مباشرة، بدا أن القوات الأميركية هي التي نفّذت الهجوم الصاروخي، ليتبيّن في ما بعد أن الهدفين الأساسيين هما قائد «قوة القدس» في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، ونائب رئيس «هيئة الحشد الشعبي» العراقي أبو مهدي المهندس.
في الرواية الأمنية للحدث، قَدم سليماني إلى بغداد على متن طائرة تابعة لشركة «أجنحة الشام» السورية. غادرت الطائرة مطار دمشق قبيل منتصف الليل، ووصلت إلى مطار بغداد بعد ساعة وأربع دقائق من التحليق. هناك، كانت سيارتان تنتظران «الحاج» على مخرج منطقة الشحن، في إحداهما أبو مهدي المهندس. وبحسب ما تؤكد مصادر أمنية عراقية، استهدفت السيارتان، فور انضمام سليماني وفريقه إليهما وانطلاقهما الى خارج المطار، بصواريخ عدة من طائرة مسيّرة أصابت السيارتين بشكل مباشر، لتحترقا بالكامل.
بعد نحو ساعة، تمّ التعرف إلى الشهداء على متن الموكب المستهدف. وهم، بالإضافة إلى القائدين، 4 عراقيين و4 إيرانيين من فريق سليماني الخاص. والشهداء العراقيون هم: محمد رضا الجابري، مدير تشريفات «الحشد» في المطار، حسن عبد الهادي، محمد الشيباني وحيدر علي. أما الشهداء الإيرانيون فهم: اللواء حسين جعفري نيا، العقيد شهرود مظفري نيا، النقيب وحيد زمانيان والرائد هادي طارمي.
ماذا يعني أن تتّخذ حكومة أكبر وأقوى دولة في العالم قراراً وتنفّذه عنوانه: اغتيال القائد العسكري العام لمحور المقاومة قاسم سليماني؟
منطقي أن يقفز الى الذهن، مباشرة، افتراض أن أميركا مستعدة للذهاب الى أبعد الحدود. وإذا ما جرت استعادة ضربة القائم قبل أيام، والتنكيل بعشرات المقاتلين في نقطة تخصّ مريدي سليماني، يمكن تثبيت الصورة بالقول إن أميركا تقول لإيران وحلفائها: اسمعوا، أنا مستعدة للذهاب الى أبعد مما تعتقدون، فاعقلوا!
حزن وغضب في طهران: سنثأر!
تشهد إيران بقيادتها، التي لم تهدأ عاصفة تصريحاتها، وبشعبها الذي ملأ عدداً من الساحات أمس، إجماعاً غير مستغرب على ضرورة الثأر من أميركا عقب اغتيالها قائد «قوة القدس» في الحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني، لكن شكل الردّ الإيراني المنتظر لا يزال مجهولاً.
كثيرة هي المنعطفات التي مرّت بها الجمهورية الإسلامية على مدار 30 عاماً من قيادة المرشد علي خامنئي، إلا أن هذا الأخير لم يسبق له أن تصدّر المشهد بنفسه كما فعل منذ ساعات أمس الأولى التي أعقبت إعلان الحرس الثوري استشهاد سليماني. حضور المرشد لم يقتصر على بيان التعزية الذي وجّهه إلى الشعب الإيراني، متوعّداً فيه بالانتقام من قتلة سليماني، بل زاد على ذلك ترؤسه الاجتماع العاجل للمجلس الأعلى للأمن القومي، وهو الأمر الذي لم يقم به إلا في حالات نادرة، أبرزها يوم عُقد المجلس لمناقشة سيطرة «التحالف الدولي» المشكّل برئاسة الولايات المتحدة ــــ في حينه ــــ على العاصمة الأفغانية كابول.a
كما أن خامنئي لم يتأخر في تنصيب خليفة لـ«الحاج قاسم»، إذ كلّف بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة في البلاد العميد إسماعيل قاآني بشغل المنصب. وجود المرشد في صدارة المشهد الإيراني اختُتم، أمس، بزيارة لمنزل عائلة الشهيد سليماني فور انتهاء اجتماع مجلس الأمن القومي، مؤدّياً واجب العزاء بـ«الفريق»، الرتبة الجديدة التي منحت للقائد الشهيد. ومن المنتظر، بحسب وسائل الإعلام الإيرانية، أن يؤمّ خامنئي، غداً، الصلاة على جثمان «الجنرال»، قبل أن يُنقل ليدفن في مسقط رأسه في محافظة كرمان جنوب شرق إيران.
تفاصيل ما قام به المرشد في الساعات التالية لعملية الاغتيال، والتي أظهرت تعاطياً مختلفاً من قِبَل الرجل الأول في الجمهورية الإسلامية، مقارنة بكثير من الأزمات التي شهدتها البلاد أو عاشها حلفاؤها في المنطقة، هي أدنى المؤشرات على خطورة المرحلة التي تمرّ بها طهران، إذ وضعت واشنطن بعملية الاغتيال النفوذ الإقليمي لإيران في دائرة الاستهداف المباشر، بعدما كانت تسعى إلى إجبار الإيرانيين على إنهائه بطريقة غير مباشرة من خلال الضغوط الاقتصادية، التي طمح الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى أن تؤدي إلى دفع القيادة الإيرانية لقبول الجلوس إلى مائدة التفاوض، ومناقشة النفوذ الممتدّ من طهران حتى غزة، مروراً ببغداد ودمشق وبيروت وصنعاء.
طهران، من جهتها، بدت مدركة هدف واشنطن من رفع مستوى المواجهة؛ إذ أكد خامنئي، في كتاب تكليف قاآني بقيادة «قوة القدس»، أن «برنامج عمل تلك القوة هو نفس البرنامج الذي كان في فترة قيادة الشهيد سليماني». كما أن البيان الصادر عن المجلس الأعلى للأمن القومي، بعد انتهاء اجتماعه الذي استمرّ أكثر من خمس ساعات، توعّد أميركا بأن «تكون منطقة الشرق الأوسط بأسرها ساحة للردّ على هذه الجريمة». وفي هذا السياق، أشار رئيس لجنة الأمن والسياسة الخارجية في البرلمان، مجتبى ذو النور، إلى وجود 36 قاعدة أميركية تحت مرمى نيران إيران، مؤكداً أن بلاده تمتلك بكلّ سهولة القدرة على توجيه ضربة قوية لتلك القواعد.
استمرّ اجتماع المجلس الأعلى للأمن القومي أكثر من خمس ساعات
على هذه الخلفية، يرى مراقبون أن لهجة الموقف الإيراني تُشير إلى أن طهران لن تتوانى، على رغم ما حصل، عن الحفاظ على نفوذها ومصالحها في المنطقة. لكن إزاء الإصرار الأميركي المقابل على إنهاء الوجود الإيراني في الإقليم، يقفز السؤال عما إذا كان الاشتباك بين الطرفين سيبقى على مساحة الإقليم الممتدّ خارج الأراضي الإيرانية، أم أن أميركا ستعمل مستقبلاً أمام الفعل الإيراني المستمر في ساحات المنطقة على رفع سقف هذه المواجهة، لتصل إلى مرحلة استهداف الأراضي الإيرانية مباشرة؟
العراق أمام التحدّي الأصعب: نحو إقرار قانون طرد الأميركيين؟
على اختلاف توجّهاتها ومواقفها، تواجه الأحزاب والقوى العراقية تحدّياً جدّياً قد يكون الأصعب منذ سقوط مدينة الموصل بيد تنظيم «داعش» في حزيران/ يونيو 2014. هذه القوى، وبدءاً من اليوم، أمام تحدّي تحقيق استقلال البلاد وسيادتها، بعد العدوانين الأميركيين في الأيام القليلة الماضية، والذي أسفر ثانيهما عن استشهاد نائب رئيس «هيئة الحشد الشعبي» أبو مهدي المهندس، إلى جانب قائد «قوّة القدس» في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني وآخرين. الأميركيون، بعدوانهم ووقاحته، لا يحسبون حساباً للدولة العراقية كما بدا واضحاً، بل ينظرون إلى هذا البلد كساحة لتصفية حساباتهم مع إيران وحلفائها. اغتيال المهندس (بمعزلٍ عما سيؤول إليه الموقف الإيراني من اغتيال سليماني) يفرض على الدولة العراقية إعادة الاعتبار إلى موقعها الهشّ، خصوصاً أن الشهيد المهندس شخصية رسمية تتولّى منصباً حكومياً فيها، يمثّل جوهر الروح الوطنية في الحرب على «داعش» (2014 – 2018).
يأتي اغتيال نائب رئيس هيئة «الحشد» في سياق مشروع أميركي لتصفية الأخير. قبل أشهر، وفي لقاء مع «الأخبار»، أشار المهندس إلى أن واشنطن «تقود مشروعاً لتصفية الحشد والقضاء عليه، وتفريغه من البيئة المحيطة به والمؤيدة له»، مضيفاً أن «المشروع بدأ باستهداف مقارّ الحشد (الصيف الماضي)، وسيُتبع بتصفيات جسدية لقادة الحشد وفصائل المقاومة». كانت لدى المهندس معطيات تفيد بأن انتصار العراقيين على «داعش»، بالتعاون مع الإيرانيين، ومن دون الحاجة الفعلية إلى الولايات المتحدة، سيكون سبباً كافياً لإطلاق مشروع تصفية «الحشد» الذي بات يمثّل يد العراق الطولى، بل ولم يعد محصوراً داخل حدوده. دور المهندس ورفاقه في بناء «قوة وطنية ذات قرار سيادي مستقل»، كان جزءاً لا يتجزّأ من مقدمات عملية الاغتيال.
قضت واشنطن على قائد عراقي كان له الدور الأبرز في الانتصار على «داعش»، مفتتحةً بذلك العام بـ«تصعيد خطير يشعل فتيل حرب مدمّرة في العراق والمنطقة والعالم»، بتعبير رئيس الوزراء المستقيل، عادل عبد المهدي، الذي اعتبر، في بيان، أن «اغتيال قائد عسكري عراقي يشغل منصباً رسمياً يُعدّ عدواناً على العراق دولة وحكومة وشعباً»، مضيفاً أن العدوان الأميركي يشكّل «خرقاً فاضحاً لشروط تواجد القوات الأميركية في العراق، ودورها المحصور بتدريب القوات العراقية ومحاربة داعش، ضمن قوات التحالف الدولي وتحت إشراف الحكومة العراقية»، داعياً الكتل البرلمانية إلى «جلسة استثنائية استناداً إلى أحكام المادة 58 من الدستور، لتنظيم الموقف الرسمي واتخاذ القرارات التشريعية والإجراءات الضرورية المناسبة».
عبد المهدي رفض تلقّي أيّ اتصال من الرئيس الأميركي دونالد ترامب ووزير خارجيته مايك بومبيو
وبحسب معلومات «الأخبار»، فإن عبد المهدي رفض تلقّي أيّ اتصال من الرئيس الأميركي دونالد ترامب ووزير خارجيته مايك بومبيو، احتجاجاً على عملية الاغتيال، توازياً مع سعيه إلى دفع البرلمان لـ«إعادة النظر» في الاتفاقية الأمنية «صوفا» (2009) المعنية بتنظيم عملية الانسحاب الأميركي من العراق، والقسم الثالث من اتفاقية الإطار الاستراتيجي (المعنية بتنظيم عملية التعاون العسكري والأمني بين الجانبين، والموقعة عام 2008). لكن وفق المعلومات، فإن اتصالات الساعات الماضية كشفت عن تضارب في وجهات النظر في هذا الشأن بين كتل «البيت الشيعي»، والمنقسمة على ثلاثة آراء:
1- «تحالف البناء» (ائتلاف نيابي يضمّ هادي العامري ونوري المالكي وآخرين) يدفع في اتجاه إقرار قانون إخراج الأميركيين.
2- كتلتا عمار الحكيم وحيدر العبادي تقولان إن الإلغاء يجب أن يكون عن طريق الحكومة وليس البرلمان، على اعتبار أن الأمر متعلّق بـ«اتفاقية» وبالتالي فهو لا يحتاج إلى قانون. لكن في الواقع، يبدو موقفهما أقرب إلى مناورة سياسية تغطّيان من خلالها تهرّبهما من المواقفة على مشروع القانون.
3- كتلة مقتدى الصدر، وعلى رغم أن موقف زعيمها بدا عالي السقف في الساعات الأخيرة، إلا أن ما ستتبنّاه في هذا الإطار ليس مضموناً بشكل كامل، وعليه، يفترض الانتظار حتى غد الأحد، موعد الجلسة المرتقبة، لمعرفة توجّهها الحقيقي.
على خطّ موازٍ، تتجّه الأنظار إلى ما سيكون عليه موقف فصائل المقاومة، سواءً تم إقرار القانون في البرلمان أم لم يتمّ، علماً أن الفصائل باتت تملك الحق الكامل في الركون إلى الخيار الميداني، والذي سيدخل معه العراق والمنطقة – في حال تحقّقه – مرحلة جديدة من المواجهة.
واشنطن: سليماني مسؤول عن «كلّ شيء»!
بدت واشنطن العاصمة، ومعها وسائل إعلامها ومراكز أبحاثها، في حالة استنفار قصوى. ما الذي جرى؟ وقعُ الخبر كان مُدوّياً في المركز السياسي لأميركا: قرّر دونالد ترامب أن «يمنع» حرباً وشيكة، وأن يجعل العالم الذي نعيش فيه «مكاناً آمناً». أمْرُ عمليات فجر الجمعة الثالث من الشهر الأوّل من العام الجديد: «اقتلوا قاسم سليماني». ساعات قليلة بعد الضربة الأميركية في بغداد حتى تبنّى «البنتاغون» العملية، بأمرٍ من القائد الأعلى للقوات المسلحة. تَعَمُّد العلانية ليس عادةً من عادات الأميركيين، وهو يفتح الباب على أسئلة كثيرة: هل أقدمت الإدارة الأميركية على خطوة بهذا الحجم، مع علمها المُسبق بتداعياتها المحتملة؟ أم أنها، كما قال السناتور الجمهوري ماركو روبيو، تعرف أن طهران ستردّ «بما يحفظ ماء وجهها… ليس أكثر».
«تحرَّكنا الليلة الماضية لمنع حرب، لا لإشعالها»… «الجنرال كان يخطّط لهجمات وشيكة ضد الأميركيين». في تصريحاته للصحافيين بعد انقضاء منتصف نهار أمس، وضع ترامب عملية الاغتيال في إطار ما يُعرف بـ«التهديد الوشيك». قبل ذلك، كانت الأسئلة تدور في فلك الحيثيات التي حملت الرئيس على اتخاذ خطوة بهذا الوزن من دون إخطار الكونغرس. أعضاء الكونغرس، خصوصاً الديمقراطيين، بدوا غاضبين جداً. رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب، إليوت إنغل، رأى أن «تنفيذ عمل بمثل هذه الخطورة من دون إشراك الكونغرس ينطوي على مشاكل قانونية خطرة، ويشكّل إهانة لصلاحيات الكونغرس»، وأن العملية الأميركية تشكّل «تصعيداً خطيراً لنزاعنا مع إيران مع عواقب لا يمكن التكهّن بها». مِن الناحية القانونية، يحقّ لترامب استخدام القوة العسكرية في الحالات الطارئة التي تستوجب السرعة في القرار لدرء أخطار «على وشك الوقوع». في هذا الاتجاه، جاء بيان «البنتاغون» وكلّ التصريحات التي تلته: «سليماني كان وراء هجمات على القواعد الأميركية خلال الأشهر الماضية، ومن بينها هجوم كركوك الذي أدى إلى مقتل متعاقد أميركي»، و«وافق» على اقتحام السفارة الأميركية في بغداد.
تقول واشنطن إنها راقبت منذ أشهر تحركات الجنرال سليماني عن قرب، وكان في مقدورها استهدافه قبل عملية الجمعة. بحسب وزير الخارجية، مايك بومبيو، فإن الجنرال كان يحضّر لما وصفه بـ«عمل كبير» يهدِّد «أرواح مئات الأميركيين». لكن الوزير امتنع في مقابلتين أجرتهما معه شبكتا «فوكس نيوز» و«سي إن إن» عن تفنيد تفاصيل «التهديد» المزعوم، مكتفياً بالقول: «كنا نعلم أنه وشيك»، عبر الركون إلى «التقييم الاستخباراتي الذي وجّه عملية اتخاذ قرارنا»، ليعود لاحقاً ويؤكد أن بلاده ملتزمة «خفض التصعيد».
بإزاحتها سليماني من المشهد، تكون إدارة دونالد ترامب قد عزّزت شوكتها في خاصرة المنطقة، وأقدمت على فعلِ ما عزفت عنه الإدارتان السابقتان (بوش وأوباما). يعني ذلك أن قراراً مؤجلاً اتُّخذ في ذروة التصعيد الإقليمي، ولكن لماذا الآن؟ بالنسبة إلى الرئيس الأميركي، فإن قائد «قوة القدس» كان يجب أن «يُقتل قبل سنوات عديدة»، بسبب دوره في «قتل أو إصابة آلاف الأميركيين بجروح بالغة على فترة طويلة، وكان يخطط لقتل عدد أكبر بكثير… لكنه سقط!». لاحقاً في المساء، بدأ ترامب بإعادة نشر تغريدات معجبيه. إحداها كانت لافتة بشكل استثنائي. وعلى طريقة تقديم معلومات مجانية، تقول التغريدة: «هل كنت تعلم: خطّط سليماني لهجمات ليبيا عام 2012، لأنه كان على علم مسبق بالسلاح المرسَل من ملحق وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية إلى المتمردين السوريين»، ليخلص كاتبها إلى أن الجنرال الشهيد يتحمّل «مسؤولية» ما جرى في بنغازي (قتل أربعة أميركيين من بينهم السفير). جرياً على عادته، ذكّر الرئيس الأميركي العراقيين بأن بلاده دفعت لهم «ملايين الدولارات في سنة واحدة، وتفعل ذلك منذ سنوات عديدة»، معتبراً أن ذلك «يأتي على رأس أمور أخرى فعلناها من أجلهم».
حربٌ «ديموقراطية»
مزيدٌ من الاستقطاب أرخى بثقله على أميركا بعد قرار رئيسها الذهاب بعيداً في التصعيد ضدّ إيران. يؤشّر على ذلك الانقسام الحادّ في المواقف بين الحزبين الرئيسين؛ إذ أعرب معارضو الرئيس عن خشيتهم من التداعيات الخطيرة لعملية الاغتيال ومآلاتها، بينما سارع المشرعون الجمهوريون إلى التعبير عن دعمهم القوي لخطوة ترامب. في هذا الإطار، كتب السناتور الجمهوري النافذ، ليندسي غراهام: «أنظر بتقدير إلى العمل الشجاع للرئيس دونالد ترامب ضدّ العدوان الإيراني»، مع الإشارة إلى أن بلاده قتلت «أقوى رجل في طهران». على المنوال ذاته، دافع السناتور الجمهوري، ماركو روبيو، عن قرار ترامب، مبرراً دفاعه بأن سليماني كان «يخطّط لانقلاب في العراق»، «بتوجيهات من المرشد الأعلى»، و«يسعى إلى السيطرة على العراق واتّخاذه منصة للهجوم على الولايات المتحدة».
مزيدٌ من الاستقطاب أرخى بثقله على أميركا بعد قرار رئيسها الذهاب بعيداً في التصعيد ضدّ إيران
وأشار إلى أن من الخيال الاعتقاد بأن الرئيس «اتّخذ إجراءات متهورة ومندفعة من دون تخطيط أو توقّع لما سيحدث بعد ذلك»، إذ تشير الحقيقة إلى خلاف ذلك، خصوصاً أن ترامب «التزم بالخطوط الحمراء التي وضعها، بعد استنفاد جميع الخيارات الأخرى، وإدراكاً منه بأن إيران سترد الآن، وإن كان لحفظ ماء وجهها ليس إلا». أما عن ردود الفعل الإيرانية المحتملة، فتوقّع أن تعمل الأخيرة على «تنشيط خطط الطوارئ لعناصر حزب الله وقوة القدس في جميع أنحاء العالم»، و«الدفع بأسلحة متقدمة إلى الجماعات غير الشيعية (أي طالبان) لشنّ هجمات»، إضافة إلى عمليات قد يشنها حزب الله ضد إسرائيل. ووسط تشكيك وتخوُّف واضحين، قالت رئيسة مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، إن اغتيال سليماني يهدّد بإحداث «تصعيد خطير للعنف»، معتبرة أن «أميركا والعالم لا يمكنهما تحمّل تصعيد في التوتر يصل إلى درجة اللاعودة». كما انتقد مرشحون إلى الرئاسة الأميركية الهجوم؛ إذ قال جو بايدن: «ألقى ترامب للتوّ إصبع ديناميت في برميل بارود، وعليه أن يقدِّم توضيحات للشعب الأميركي»، متحدثاً عن «تصعيد هائل في منطقة خطيرة أساساً». وأضاف «من المؤكد أن إيران ستردّ. ربما نكون على حافة نزاع كبير في الشرق الأوسط». وأكد بيرني ساندرز، بدوره، أن «تصعيد ترامب خطير، ويقرّبنا أكثر من حرب كارثية أخرى في الشرق الأوسط»، وأضاف: «ترامب وعد بإنهاء الحروب المزمنة، لكن عمله هذا يضعنا على طريق حرب أخرى».
مئات الجنود إلى بيروت؟
أرسلت الولايات المتحدة، في الأشهر الأخيرة، أكثر من 14 ألف عسكري في سياق تعزيز حضورها الإقليمي. كما أعلنت إرسال نحو 750 جندياً إضافياً عقب اقتحام السفارة الأميركية في بغداد يوم الثلاثاء. وبحسب وزارة الدفاع الأميركية، فإن كتيبة من «قوّة الاستجابة العالمية» للفرقة 82 المحمولة جواً (تراوح بين 3000 إلى 4000) عنصر ستتوجّه في الساعات المقبلة إلى الشرق الاوسط، وستنتشر في الكويت لرفع قدرات القوات الأميركية وجهوزيتها، في استعراض للقوّة بعد اغتيال الجنرال قاسم سليماني. كذلك، وضعت الولايات المتحدة قوة عسكرية قوامها المئات في حالة تأهب، للتوجه إلى لبنان لحماية السفارة الأميركية في بيروت، وفق ما أفاد به مسؤول عسكري أميركي وكالة «أسوشيتد برس». وقال المسؤول إن القوة المتمركزة في إيطاليا وُضعت في حالة تأهب، كخطوة ضمن عدد من الإجراءات العسكرية لحماية المصالح الأميركية في المنطقة، موضحاً أن «البنتاغون» قد يرسل ما بين 130 و700 جندي إلى بيروت.
الصحف الأميركية: «مقامرة» ترامب خطيرة… والردّ غير تقليدي
دا واضحاً، حتى مساء أمس، أن غالبية الصحف الأميركية حائرة في كيفية التعامل مع اغتيال قائد «فيلق القدس» في الحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني. ومن هنا، كان التعامل مع الواقع المستجدّ من منطلق أن مَن فرضه هو دونالد ترامب، وبالتالي فهو يمثل إحدى لحظات «تهوّر» الرئيس ليس معروفاً إلى أين ستؤدي.
باربرا سلافين، الباحثة في «مجلس الأطلسي»، اعتبرت، في مقال في صحيفة «ذي نيويورك تايمز»، أن «اغتيال سليماني سيُطلق الفوضى». وانطلاقاً من فكرة أن «الانتقام ليس استراتيجية»، رأت أن هذه الخطوة هي «تصعيد كبير وخطير مع إيران… سيؤدي إلى المزيد من عدم الاستقرار، وخسارة المزيد من الأبرياء». بالنسبة إلى سلافين وغيرها من المحلّلين، فإن المنطق يقول إن «أيّ فرصة للدبلوماسية مع إيران قد قضي عليها خلال الفترة المتبقية من رئاسة ترامب، إذا لم يكن أكثر». وأشارت إلى أن المقامرة التي بدأها ترامب عام 2018 بانسحابه من الاتفاق النووي، تتواصل على نحو أكثر خطورة. وهو ما ذهب إليه أيضاً ديفيد سانجر في مقال آخر في «نيويورك تايمز»، وصف فيه اغتيال سليماني بأنه «مقامرة خطيرة لردع إيران». وإذ لفتت سلافين إلى أن «الدبلوماسيين والعسكريين الأميركيين حول العالم باتوا الآن بحاجة إلى مزيد من الحراسة، كما أن المدنيين قد يكونون أهدافاً، واصفة الوضع الحالي بأنه «تراجيدي، ونتيجة سلسلة من الأخطاء الاستراتيجية»، اعتبر سانجر أن ترامب «الذي طالما ردّد إصراره على الانسحاب من الشرق الأوسط»، «لن يتمكن بعد الآن من الهرب من المنطقة في بقية رئاسته»، على اعتبار أنه «أدخل الولايات المتحدة في قتال لا تُعرف أبعاده، في الوقت الذي يسعى فيه آية الله علي خامنئي إلى الانتقام». ورغم أن سانجر وسلافين وغيرهما حاولوا تأطير التصعيد بين الطرفين ضمن حرب غير تقليدية، استند سانجر إلى الوقائع التاريخية ليقول إن «الإيرانيين لن يواجهوا الولايات المتحدة بشكل مباشر»، مقدّراً أن ردّهم سيكون «بدءاً من العراق، ولكن من الصعب أن ينتهي في ذلك البلد».
الفكرة ذاتها تكرّرت لدى روبن رايت في مجلة «نيويوركر». الأخير ذهب إلى أبعد من ذلك بقليل، مشيراً إلى أن «اغتيال سليماني معادل لعمل حربي». إذ أن هذه الضربة «هي العمل الأميركي الأكثر جرأة في مواجهة إيران منذ الثورة عام 1979»، لافتاً إلى أنها بما تحمله من معانٍ «تمثل تصعيداً صارخاً بين واشنطن وطهران، ويمكن أن تكون لها نتائج عكسية». ولتأكيد ما ذهب إليه، لجأ رايت إلى الجنرال المتقاعد ديفيد بترايوس، الذي قاد القوات الأميركية في العراق، وعمل لاحقاً مديراً لوكالة الاستخبارات الأميركية. بترايوس، الذي كان سليماني من ألدّ أعدائه على مدى ثماني سنوات، نقل رايت عنه تشديده على أن «هناك عالماً كاملاً من الاحتمالات الآن»، وأن كلّ شيء ممكن «انطلاقاً من انتقام الوكلاء، إلى اختطاف المواطنين الأميركيين، إلى الأعمال ضد الشركاء في التحالف، حتى إلى محاولة القيام بعمل ما في الولايات المتحدة…». لكن السؤال الأهمّ عند رايت يبقى: «هل كان الهجوم الأميركي عملاً حربياً؟». هنا، استعان الكاتب بدوغلاس سيليمان، الذي كان سفيراً للولايات المتحدة في العراق حتى العام الماضي، وهو يدير حالياً «معهد دول الخليج العربي في واشنطن»، ونقل عنه قوله إن «مقتل سليماني يوازي قتل قائد عمليات عسكرية أميركية في الشرق الأوسط وجنوب أفريقيا»، ما يعني أن إيران يمكن أن تردّ بالمثل، وبالتالي فإن اغتيال سليماني عبارة عن عمل حربي.
«ذي أتلانتك»: اغتيال سليماني نقل العنف بين واشنطن وطهران إلى مكان أقرب للحرب المباشرة
في محاولته الإجابة عن السؤال ذاته، رأى مهدي حسن، في موقع «ذي إنترسبت»، أن «ترامب، الذي لم يكن يعرف من هو سليماني قبل أربع سنوات، ربما أعطى إشارة البدء بالحرب العالمية الثالثة». ولكن هل هي فعلاً إرهاصات حرب عالمية ثالثة؟ بالنسبة إلى البعض، إن لم يتحوّل التصعيد بين إيران والولايات المتحدة إلى حرب بالمعنى التقليدي، فلن تكون هناك حرب عالمية ثالثة. ويستند هؤلاء إلى الفكرة التي تقول إن إيران لا تفضّل المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة، بل ساحاتها الأخرى كثيرة، ويمكنها أن تكون مساعدة أكثر على تحقيق ردّ انتقامي على اغتيال سليماني. لكن في المقابل، ثمة من يرى أنه في ظلّ رئيس مثل ترامب بات كلّ شيء وارداً، لا سيما أن اغتيال سليماني يعدّ أكثر الأعمال تهوّراً التي قام بها الرئيس منذ تبوئه منصبه. كاثي جيلسينان ومايك جيغليو أكدا ذلك في مقال في مجلة «ذي أتلانتك»، نبّها فيه إلى أن «اغتيال سليمان يؤشر إلى فصل جديد وخطير في منطقة ساعَد سليماني في تشكيلها على مدى أكثر من عقد، كما نقل العنف والتخريب بين الولايات المتحدة وإيران إلى مكان أقرب للحرب المباشرة». الكاتبان تحدثا عمّا ذهب إليه الكثير من المحلّلين الذين شبّهوا اغتيال سليماني باغتيال كلّ من بن لادن وأبو بكر البغدادي، ولكنهما أشارا هنا إلى أن «سليماني يملك القوة والموارد لدولة كاملة وراءه، كما يملك الدعم المفتوح على مستويات عالية في حكومة الدولة حيث قُتل»، أي على عكس بن لادن والبغدادي اللذين قُتلا عندما كانا مختبئين وهاربين. وبينما لفت الكاتبان إلى أن «الأيام المقبلة ستُظهر ما ستقوم به إيران»، فقد نقلا عن إيان غولدبرغ، الذي عمل في الشأن الإيراني في وزارة الدفاع خلال عهد الرئيس باراك أوباما، قوله إن «الردّ قد يتضمّن تصعيداً في العراق أو هجمات صاروخية على حلفاء واشنطن الإقليميين مثل السعودية أو الإمارات».