«أنا قاسم سليماني»
«أنا قاسم سليماني، قائد فيلق صاحب الزمان السابع التابع لمحافظة كرمان. ولدت سنة 1958 في قرية قنات ملك من ضواحي كرمان، حائز شهادة البكالوريا، متزوج ولديّ ولدان، صبي وبنت. قبل الثورة، كنت موظفاً في مصلحة مياه كرمان. وبعد انتصار الثورة الإسلامية، التحقت بحرس الثورة في الأول من شهر أيار سنة 1980. مع اندلاع الحرب وهجوم النظام العراقي على مطارات البلاد، بقيت مدة أحرس الطائرات في مطار كرمان. بعد شهرين أو ثلاثة على اندلاع الحرب، انطلقنا إلى جبهات سوسنكرد ضمن القوات الأولى المرسَلة من كرمان والتي كان تعدادها 300 شخص تقريباً، بصفة قائد فصيل. في الأيام الأولى لالتحاقي بالجبهة، اعتقدت بأن العدو قادر على القيام بأيّ شيء، لكننا تمكّنا في أوّل هجوم لنا من إرغامه على التقهقر من جانب طريق سوسنكرد إلى الحميدية، وكبّدناه خسائر أيضاً. وقد أدّى هذا الأمر إلى زوال التصوّر الخاطئ عن العدو من ذهني».
(الجنرال قاسم سليماني لمجلة «نداء الثورة» عام 1990)
بعد ثلاثين عاماً: هنا البوكمال
شاهده في البوكمال السورية. المعركة في ذروتها، القتال كان من مسافة قريبة، وهو لا يبعد عنه سوى أمتار معدودات. في الخط الأمامي على مشارف المدينة، كان الشهداء يتساقطون، وذلك المقاتل في حزب الله يوزّع عيناً على العدو وأخرى على «الحاج» غير المبالي بسلامته الشخصية. كانت البوكمال آخر المعارك الكبرى التي خطّط لها وقادها وحقق فيها انتصاراً كما اعتاد.
الخروج إلى الضوء
منذ انطلاق الحرب على «داعش»، لم يعد قاسم سليماني «قائد الظل» كما لقّبته الصحف الأميركية في 2009 بعيد تجنب العدوّ إياه في عملية اغتيال عماد مغنية في دمشق. كان الحضور العلني للواء الإيراني في الميدان، بالنسبة إلى القيادة في طهران، خروجاً إلى الضوء وإيذاناً بنقطة تحوّل في ملف الوجود والنفوذ خارج الحدود. بدأت صور «الحاج قاسم» تنتشر في كل مكان، بين المقاتلين على مختلف الجبهات، وفي غرف العمليات والاجتماعات. عشية انطلاق المعارك في العراق، استأنف علاقة ثانية له مع مطار بغداد (محطته الأخيرة ليل الخميس – الجمعة الماضي)، حيث بات يتردّد باستمرار بموازاة خطّ إمداد لوجستي وتسليحي يرافق تحرّكاته. سريعاً، جمع حلفاءه في المقاومة العراقية ضدّ الاحتلال الأميركي، وراح يوزّع بتنقلاته المكوكية جهده باتجاهين: وضع الخطط لاحتواء التمدد «الداعشي» ولإطلاق المعارك المضادة، وإعداد برامج التنظيم والتدريب للفصائل المقاتلة قيد الإنشاء تلبية لفتوى المرجعية، أو تلك التي تحتاج تأهيلاً لاستيعاب آلاف المتطوّعين الجدد، إلى أن أُطلقت عملية جرف الصخر باكورة المعارك الواسعة.
ليلبس جند أميركا الحفّاضات
تلك كانت حرباً للدفاع عن العراق ولحماية حدود إيران وأمنها في آن. لكن لم تكن أولى المعارك التي خاضها لتحقيق الهدفين معاً. فالمساهم الأول في تأسيس تشكيلات المقاومة العراقية ودعمها، عمل وفق استراتيجية إيرانية تعتبر غزو بغداد توطئة لاستهداف إيران، ما يحتّم إشعال حرب استنزاف تُبعثر حسابات الأميركي الآتي إلى أفغانستان والعراق ومهدّداً سوريا. كان لسليماني ما أراد، وفي تلك المرحلة، بدأ يتردّد اسم قائد «قوة القدس» في الحرس الثوري همساً، ويأخذ بالانتشار شيئاً فشيئاً. عادت يومها استراتيجية في السياسة الخارجية يقال إن واضعها هو الامام الخميني: يد تضرب العدو ويد تفاوضه في مكان آخر في الوقت ذاته. تَعزّز هذا المسار أخيراً في ظلّ ازدواجية الحضور الإيراني في المنطقة، بين ابتسامة جواد ظريف وعبوس قاسم سليماني.
يحفظ العاملون مع اللواء سليماني الكثير من القصص أيام المقاومة العراقية. هي شواهد على نبوغ عسكري وأمني تَسبّب، غير مرة، في إحباط لدى ضباط ودبلوماسيين أميركيين راوغهم في الأمن والعسكر وحتى السياسة. وتلك صفة يعزوها عارفون بالرجل إلى موهبة متأصلة فيه تحاكي «الدهاء الفارسي» على حدّ تعبير أحدهم. قال دونالد ترامب أمس: «سليماني أسقط آلاف الأميركيين بين قتيل وجريح على مدى فترة طويلة». لم ينكر «الجنرال» هذه التهمة ولا الخوف الذي زرعته عبواته بالجنود الأميركيين، وقال في إحدى المناسبات ساخراً من جبن الجنود الأميركيين: إن القوات الأميركية كانت بحاجة لإمدادات من «حفّاضات البالغين».
«الفارس النبيل»
بالنسبة إلى أعدائه في الغرب، هو الرجل الثاني في الجمهورية الإسلامية. لكنه ليس كذلك في طهران، لا في النفوذ ولا الرتب. مع هذا، فهو أخذ منذ عقد مكان البطل الأسطورة. هو للإيرانيين القوميين بطل رمز يشبه أبطال الأساطير في الإمبراطوريات الفارسية الغابرة. لكنه ليس هكذا بالنسبة إلى نفسه أو «إخوته» الإسلاميين في الحرس الثوري وإيران والمنطقة عموماً. يرى نفسه «جندياً للولاية على طريق القدس»، وفق أدبيات الثورة الإيرانية، ويراه رفاق سلاحه حاملاً لراية هذه الثورة خلف الحدود، ليحمي مصالح البلاد من جهة، ويبقي جذوة الثورة بنسختها الأممية مشتعلة. لقّبه المرشد علي خامنئي بـ«الشهيد الحي»، وراح الإيرانيون يرفعون صور المتحدّر من عائلة فقيرة في حياته، في ظاهرة نادرة كانت حكراً على الخميني وخامنئي وقادة الثورة الشهداء كمطهري وبهشتي وشمران وآخرين.
لدى العدو، هو «رجل المهمات القذرة» و«السفاح» و«المرعب»، حين يقاس الأمر بعبء سياسته على إسرائيل والولايات المتحدة وحلفائها من مشيخات الخليج. لكن أحد رفاق درب «الجنرال» يكثّف صفاته بعبارة «الفارس النبيل»، ويشرح «أبوّة» القائد العسكري ولطفه وتواضعه مع الجميع، حتى الأعداء القادر على إبادتهم كان يسعى إلى التعامل الرحيم معهم بأقصى قدر ممكن. دبلوماسي مفاوض، متواضع ولبق وشهم وخلوق وقريب من القلب، لا يقطع الجسور مع أحد. نشيط ومبادر و«روحاني»، بحسب الصفات التي يسوقها الراوي، منبّهاً إلى أنها قد لا تخطر ببال من يراقب عمله العسكري عن بعد.
«هيبة» المحور… وقطبه
أن تكون قائداً لـ«قوة القدس» التي تبلورت بعد حرب الخليج من رحم الحرس الثوري لتنظّم نشاط «الحرس» الخارجي أيام «السلم»، فهذا يعني أنك مسؤول عن العمليات الخارجية في كلّ مكان خلف حدود إيران، وبالحدّ الأدنى في الإقليم أو «غرب آسيا» كما يسمّيها الإيرانيون. وهنا، منطقة تزدحم بالأعداء الذين يجب التعامل معهم: الولايات المتحدة ومعها القوات البريطانية والغربية عموماً، حلفاؤهم العرب، إسرائيل، الانفصاليون الكرد، وأخيراً التنظيمات التكفيرية. في الوقت عينه، تزدحم بالحلفاء والأصدقاء: سوريا، فصائل المقاومة في العراق ولبنان وفلسطين واليمن. كانت مهمة «سردار سليماني» (القائد بالفارسية) أو «الحجي أبو دعاء» كما يشير إليه العراقيون، نقل التكتيكات القتالية التي استخلصها الحرس الثوري من حرب السنوات الثماني مع العراق ودشّن على أساسها صناعته العسكرية. وهي تقوم على ملاحظة التفوق التسليحي للعدو ومواجهته بقتال غير تقليدي أو لا متناظر، عماده الأساس: الصواريخ مقابل التفوق الجوي.
باتت على عاتق سليماني، منذ استلامه منصبه أواخر التسعينات، مهمة نقل الخبرات والتسليح، وإنشاء بنية تحتية قتالية صلبة لدى الحلفاء. سنوات قليلة وسيتردّد مصطلح «محور المقاومة». محور، كان سليماني يشكّل البنّاء ومن ثم المركز له، حتى بات أحياناً يطلق عليه البعض «محور قاسم سليماني». حرب تموز كانت محطة أساسية لاختمار التجربة. بأمر من المرشد خامنئي، صار يستقلّ بجزء من دور سليماني في اتخاذ القرارات في شأن الملفات الإقليمية (لا سيما منها المرتبطة بحركات المقاومة ضد إسرائيل) حزبُ الله في لبنان، وتحديداً أمينُه العام السيد حسن نصر الله، وقائدُه العسكري آنذاك الشهيد عماد مغنية.
ماذا عن ما لم ينجزه؟ يجيب أحد أكثر المقرّبين منه في الآونة الأخيرة: «القدس!»
في غزة ولبنان، ولاحقاً في سوريا والعراق واليمن، أخذ ينظر الحلفاء إلى الرجل كسند لحركاتهم، حيث بصماته خلف كلّ إنجاز وانتصار. لم يقتصر دوره على العسكري فحسب، إذ كان شديد الاهتمام بالإعلام والسياسة لرفد الحركات الحليفة بـ«قوة ناعمة»، لا بالسلاح فحسب. ولعلّ أهم ما ساعده في تنويع خبراته، بل واختياره للمنصب، دوره في محافظة كرمان كقائد للحرس الثوري، وهي منطقة قريبة من الحدود الأفغانية، حيث عمل على مكافحة تهريب المخدرات. تلك المسؤولية سمحت له بتجربة العمل الأمني والإسهام في حماية الحدود، ليحقق خلالها نجاحات لافتة ضدّ عصابات تهريب الأفيون.
تَكَرّس سليماني، مع تمدّد محور المقاومة، اللاعب السياسي والعسكري الأول في المنطقة، إلى جانب أذرع أخرى لطهران تجتمع في المجلس الأعلى للأمن القومي، وتخوض نقاشاً حادّاً تتنوع فيه الآراء، وقد لا تكون الكلمة الفصل فيه لسليماني، كما يظن البعض. يستفيض قيادي في محور المقاومة، على اطلاع على آلية صنع القرار بين أطراف المحور، في شرح حجم خسارة سليماني. سريعاً يستدرك: «الحرس مؤسسة»، وإذا ما أردنا تشخيص الخسارة الأكبر باغتيال «الجنرال»، فهي ضرب «هيبة المحور» التي أسهم في صنعها طوال السنوات، أمام العدو وأمام الحليف، بالكثير مما أَنجز. ماذا عما لم ينجزه؟ يجيب أحد أكثر المقرّبين منه في الآونة الأخيرة لـ«الأخبار»: «القدس. كانت برنامجه العملي وحلمه وهاجساً شخصياً يلهج به في الجلسات الخاصة!».
المهندس الذي «أتعب» أميركا
ممكن… إن شاء الله شهيد.
ذلك مقطع من حوار تلفزيوني أُجري مع الحاج جمال جعفر محمد علي آل إبراهيم، عقب الانتخابات التشريعية العراقية الأخيرة في أيار/ مايو 2018. إجابة سريعة ومكثّفة جلّت قناعة الرجل الستيني، الراسخة كرسوخ نخل البصرة الجنوبية، مسقط رأسه، منذ تخلّى المهندس الشاب، خرّيج جامعة بغداد، عن اسمه المدني، ليحمل لقباً اختاره بنفسه: «أبو مهدي».
متنقّلاً بين تنظيمات الإسلام السياسي، ودول الصراع في منطقة الشرق الأوسط، راكم المهندس تجربة غنية: أمنية وعسكرية وسياسية، ليُعرف لاحقاً – وتحديداً بعد الاحتلال الأميركي للعراق في نيسان/ أبريل 2003، بـ«رجل إيران في العراق»، ما دفع واشنطن إلى إدراجه على لائحة العقوبات الخاصة بها لعام 2009. علّق المهندس على تلك الخطوة بأن «الأميركيين تحسّسوا منّي بسبب خلفيّتي الجهادية وحضوري في أكثر من ساحة، خصوصاً في أحداث النجف (2004) وما تلاها. كذلك، تحسّسوا من دوري المتواضع في إنشاء الائتلاف الوطني العراقي، الأول والثاني».
استطاع المهندس، بوصفه وحداً من أبرز وجوه محور المقاومة، بناء شبكة من العلاقات المتشعّبة من طهران إلى غزة، مروراً ببغداد ودمشق وبيروت. استثمر صداقاته القديمة في مشروع بناء المقاومة العراقية، منذ تسعينيات القرن الماضي ضدّ النظام السابق برئاسة صدام حسين، وصولاً إلى مطلع الألفية الثانية ضدّ الاحتلال الأميركي، قبل أن يُتوّج مسيرته بالحرب ضدّ تنظيم «داعش» في حزيران/ يونيو 2014، والتي تسنّم خلالها منصب نائب رئيس «هيئة الحشد الشعبي».
مسيرته «الجهادية» الحافلة كرّسته رقماً صعباً في حسابات «قوة القدس» في الحرس الثوري الإيراني. يصفه البعض بـ«العضد العراقي» لقائد القوة اللواء الشهيد قاسم سليماني، حتى اقترن اسمهما ورسمهما، خصوصاً في الأعوام الخمسة الأخيرة، على سواتر المواجهة ضد «داعش»، من حزام بغداد إلى تلعفر (شمال غربي البلاد)، وصولاً إلى القائم – البوكمال (عند الحدود العراقية – السورية). الرحلات المشتركة لم تعرف حدوداً؛ مرة يطلّان من العاصمة السورية دمشق حيث يزوران مقام السيدة زينب، وأخرى في جرود القلمون عند الحدود السورية – اللبنانية إبّان معارك المقاومة ضدّ المجموعات الإرهابية، وثالثة عند الحدود مع فلسطين المحتلة خلال الاطلاع من قيادة المقاومة على تفاصيل عملية الردّ على اغتيال الشهيد جهاد عماد مغنية ورفاقه.
طوال أعوام الدم والنار ضدّ «داعش»، بدا الحاج الذي غزاه الشيب بحيوية الشباب. تراه في مقرّه مجتمعاً بضيوفه، ليتوجّه من دون سابق إنذار إلى خطوط التماس، وتَعرِف لاحقاً أنه حطّ على الساتر الأمامي في إحدى الجبهات للإشراف على إنجاز مهمةٍ مستعجلة. كان يصل ليله بنهاره، ما انعكس دائماً إرهاقاً على وجهه.
في أيّامه الأخيرة، كان حنين الرجل كبيراً إلى رفاق سلاحه الشهداء
الثابت الأبرز في مسيرة المهندس عداؤه المطلق لواشنطن، وإيمانه بالمقاومة المسلّحة لطردها. يصف الحضور الأجنبي في العراق بأنه «خطٌّ أحمر قاتم بلون الدم»، مؤكداً – باللهجة المحكية المصحوبة بضحكته المعهودة – أن الروح المقاوِمة «لا تتعب… أميركا هي اللي تتعب». هذا الثبات شكّل محطّ إشادة في ردود الفعل التي أعقبت نبأ اغتياله، وعلى رأسها موقف المرشد الإيراني، السيد علي خامنئي، الذي وصفه في بيانه أمس بـ«مجاهد الإسلام الكبير»، وأيضاً بيان الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، الذي عدّه «قائداً كبيراً»، علماً أن المهندس كان ضيفاً دائماً على القائدَين، خصوصاً نصر الله الذي كانت زياراته إليه دورية، وآخرها في أيلول/ سبتمبر الماضي.
في أيّامه الأخيرة، كان حنين الرجل كبيراً إلى رفاق سلاحه الشهداء، وحديثه دائماً عن الشهادة. تحدّث – كما يُنقل عمّن التقاه أخيراً – عن «السابقين»، آملاً أن يكون من «اللاحقين». تحقّقت للمهندس أمنيته، برفقة من كان يصفه بأنه «قائده». سقطا معاً في الطريق إلى بغداد، فيما كانت الوجهة حتماً: القدس.
«الجنرال»: سنهزم أميركا في سوريا
لم تكن علاقة الحاج قاسم سليماني بسوريا وليدة الحرب، على الرغم من أنها بلغت ذروتها خلالها. هذه العلاقة بدأت مبكرة قبل تحرير الجنوب في العام 2000 بسنتين، حين تمّ تعيينه كقائد لـ«فيلق القدس» عام 1998. آنذاك، كان قادة «الحرس الثوري» المعنيون بمتابعة الملفات الخارجية، وخصوصاً العلاقة مع قوى المقاومة في لبنان وفلسطين، يتخذون من سوريا مكاناً لإقامتهم. منذ ذلك الوقت، كان الحاج قاسم ينظر إلى سوريا كقاعدة «آمنة» لتوزيع المهام وعقد اللقاءات، والاستفادة من موارد الجيش السوري وقدراته، وأيضاً من وجود شخص رئيس الجمهورية بشار الأسد. في ما بعد، كان الغزو الأميركي للعراق عام 2003، حيث ظهرت سوريا كهدف تالٍ للغزو الأميركي، وشكّلت في ذلك الوقت قاعدة لرفد المقاومة العراقية بالتجهيزات والسلاح لقتال الأميركيين، وهو ما كان لقاسم سليماني دور بارز فيه.
على الرغم من قِدَم نشاط سليماني في سوريا، إلا أن التحوّل الحقيقي في العلاقة كان بعد حرب تموز 2006. في تلك الفترة، بدأ دوره في سوريا يكبر باطّراد، مع انطلاق مرحلة جديدة من العمل برفقة صديقه وشريكه في حزب الله الشهيد القائد عماد مغنية. آنذاك، وفي ظلّ العمل على نقل تجربة حزب الله إلى الفصائل الفلسطينية، تحوّلت سوريا إلى أكثر من خط إمداد للمقاومة، إذ صارت حلقة وصل حقيقية بين قوى المقاومة في لبنان والعراق وفلسطين، وبإشراف من الحاج قاسم. بعد سنتين، استشهد مغنية، شريك مشاريع سليماني في سوريا، لتتحوّل كلّ أعباء الملف إلى مسؤولية الأخير وحده.
نقطة التحول الثانية في سياق علاقة سليماني بسوريا كانت في العام 2011. تنبّه الحاج مبكراً لما يخطط لهذا البلد. بعد فترة قصيرة من المراقبة، اتخذ قراراً بتعزيز دور المستشارين الإيرانيين هناك، بموجب الاتفاقات الموقعة مع بين طهران ودمشق، قبل أن يضع خطة عمل مبدئية تقوم على: «أولاً، الحفاظ على الرئيس الأسد كشخص وموقع. ثانياً، الحفاظ على تماسك الجيش السوري قدر الإمكان. ثالثاً، الحفاظ على العاصمة دمشق بعد بدء سقوط المحافظات الأخرى. رابعاً، منع قطع الوصل بين غرب سوريا وعاصمتها دمشق عبر منع سقوط حمص». بعد ذلك، شرع الحاج بالتعاون مع القيادة السورية في بناء جيش رديف (الدفاع الوطني) وتطويره. كان تشخيص الحاج قاسم أن «الأعداء ذاهبون إلى تدخل أكبر بكثير في الحرب في سوريا، ولن نقف مكتوفي الأيدي». أظهر اهتماماً خاصاً بمعارك محافظة حمص، وخصوصاً منطقة القصير، ومعارك ريف دمشق الشمالي الغربي، وخصوصاً منطقة القلمون. تابع معارك القلمون الأولى والثانية بنفسه، وجال خلالها ميدانياً. «كان يرى فيها بعدين: الأول أن هذه المناطق تمنح قدرة على تأمين شريان حياة للعاصمة دمشق نحو لبنان وحماية الأخير، والثاني تأمينها ضمن خطط تحصين العاصمة السورية». في تلك الفترة، بدأت المعارك في الساحل أيضاً، ليبدأ الحاج بتعزيز «الدفاع الوطني» بالعتاد والعديد، مولياً اهتماماً أيضاً للحرب الإعلامية والنفسية ضدّ المسلحين ومشغليهم.
في العام نفسه الذي انطلق فيه العمل لتأمين دمشق، خصوصاً من جهة لبنان، برز تهديد الولايات المتحدة بـ«الردّ» على هجوم كيميائي مفترض وقع في ريف دمشق، واتُهَم به الجيش السوري. في ذلك الوقت، تواجد الحاج قاسم في دمشق، وأجرى اتصالات عدة، فضلاً عن عمليات تعزيز عسكرية، وإجراءات ميدانية في عدة بلدان في المنطقة. كما وجّه رسائل مباشرة وغير مباشرة إلى الأميركي تحذّره من مغبة الخوض في حرب على سوريا. «نُصح أوباما بأن هذه تجربة العراق أمامك»، يقول أحد المقرّبين من الحاج، مضيفاً: «كان القرار أن سوريا لن تسقط حتى لو ذهبنا إلى خيارات استشهادية». حينها سُرِّب إلى الإعلام نقلاً عن سليماني قوله: «بلاد الشام هي معراجنا إلى السماء وستكون مقبرة الأميركيين»!
العام التالي، عام سيطرة تنظيم «داعش» على أجزاء من العراق، رصدت فرق الحاج تحركات التنظيم ونشاط عناصره. مباشرة، حطّ ليلاً في بغداد: «كان التشخيص منع سقوط بغداد»، يقول مصدر مقرب من سليماني. بعد مدة قصيرة، ظهر أبو بكر البغدادي، زعيم التنظيم، في خطبة في غرب الموصل أعلن فيها قيام «الخلافة». تسارعت الأحداث، فتمدّد «داعش» في العراق ثم سوريا. مباشرة، شرع الحاج في رسم خريطة عمل، أقرّ بموجبها «علاجاً» باتجاهين: الأول تعزيز «الحشد الشعبي»، والثاني تعزيز الجيش السوري والقوى الرديفة في سوريا والتجهيز لقتال التنظيم. في عام 2015، مع تعاظم خطر «داعش» واستعار المعارك حول مدينة حلب، بدأ سليماني مساعيه لإدخال روسيا على خطّ الحرب السورية. هكذا، توجّه إلى موسكو، بعد «اتصالات روسية إيرانية رفيعة المستوى أدت إلى اتفاق يقضي بضرورة ضخّ دعم جديد للأسد»، و«توفير أسلحة روسية أكثر تطوراً للجيش السوري، وإنشاء غرف عمليات مشتركة تجمع هؤلاء الحلفاء معاً بالإضافة إلى العراق».
جنوباً، ومع بدء الغارات الإسرائيلية في سوريا، ذهب الحاج مباشرة بإطلاق المقاومة الشعبية في الجولان، وكان مسألة «ربط نزاع» أكثر من كونه اتجاهاً عملياتياً ضخماً. بعد غارة القنيطرة الشهيرة التي استشهدت فيها مجموعة من حزب الله والحرس الثوري، أخذ سليماني قراراً بالذهاب نحو أبعاد أخرى للعمل في الجنوب، عبر توسيع العمليات في المدن والبلدات الجنوبية (الشيخ مسكين …). وفي السياق نفسه، سعى دائماً الى تفعيل برامج التطوير والتحديث في الأعمال العسكرية والتسليحية لقوى المقاومة في سوريا وانطلاقاً منها. وعلى هذا المنوال، وضع برامج تشغيلية لعدد كبير من القوى متعددة الجنسيات للعمل عليها وتدريبها وتجيزها لقتال إسرائيل، والإعداد لـ«المعركة الكبرى».
كسر الحدود
كان استحقاق الشمال السوري (حلب 2015 – 2016 / الشرق 2017) منعطفاً حقيقياً في الحرب، أولاه الحاج قاسم اهتماماً كبيراً. يقول أحد القادة الميدانيين الذين شاركوا تحت قيادته في المعركة إن الحاج «تواجد شخصياً في الميدان وعاين السواتر بنفسه»، كما كان يقوم «بعشرات الرحلات، بعضها يومي، بين بغداد ودمشق وبيروت وطهران» لتنسيق العمليات. شكّلت معركة حلب بالنسبة إليه «المعركة الحاسمة». كان الرئيس الأسد، بعد السيطرة على المنطقة الوسطى، قد ارتأى أن تكون حلب هي الوجهة المقبلة، وهو ما تبنّاه الحاج أيضاً. لم يتأخر سليماني عن المهمة: سرعان ما بدأ بالتخطيط، ليُعلَن لاحقاً عن غرفة «عمليات الحلفاء» وينطلق التحشيد العسكري والإعلامي. أراد الحاج معركة حلب «باكورة التعاون بين قوى محور المقاومة وروسيا»، بحسب ما يقول قائد ميداني كان برفقته حينها. أشرف سليماني شخصياً على التجهيزات، وأجرى لقاءات مع كلّ الفصائل المشاركة في العمليات. وفي العام 2016، بدأ الحديث عن سلامته الشخصية، وإمكانية تعرّضه لاغتيال. يومها، قال له القائد علي خامنئي: « شاهدتك على التلفاز».
كان استحقاق الشمال السوري منعطفاً حقيقياً في الحرب، أولاه الحاج قاسم اهتماماً كبيراً
أما في معارك الشرق السوري، خصوصاً عمليات البادية السورية، فقد كان الحاج قاسم حاضراً شخصياً أيضاً. تهيّب الجميع الدخول في تلك المعارك: صحراء قاحلة ومساحات مفتوحة ممتدة على العراق، ولا أفق للعمليات فيها. أصرّ على خوض غمار البادية مقاتلاً. أعلن بدء عمليات «والفجر» الكبرى، وكان يقودها ميدانياً. يروي أحد القادة أن سليماني أرسل مبعوثاً إلى مقرّ واحد من «الكوادر» في حزب الله، طالباً ملاقاته على وجه السرعة. كان ذلك في يوم من أيام شهر رمضان من العام 2017. تحرّك المسؤول سريعاً، وحين وصل سأل الحاج: ألم تكن تنتظر المسألة إلى ما بعد الإفطار؟، فردّ سليماني: «يجب أن نهزم أميركا». كان الحوار المتقدم قبيل توجّه الرتل الأول من قوى المقاومة نحو الحدود مع العراق، والإعلان عن التقاء القوات السورية والعراقية والحليفة عند الحدود. قبيل ذلك، وصل الحاج قاسم إلى خط الجبهة في البادية، وأجرى اجتماعاً مع القادة الميدانيين هناك، وأعلمهم أن «الأميركي يريد الدخول إلى البوكمال إذا لم ندخل خلال 5 أيام»! بعد الاجتماع، خرج ووقف على الساتر، وطلب من العسكريين فتحه أمامه، ليتقدم بنفسه بسيارته وسيارات مرافقيه، حتى قطع 35 كم في ساعة ووصل إلى البوكمال، قبل أن يصل الأميركيون.
«الحاج» في العراق: قائد بلا أوامر
كان ذلك ذات مساء بارد، مطلع شهر آذار عام 2015. في اليوم الأول من عمليات «لبيك يا رسول الله» المخطط لها أن تحرر نحو ألفي كلم مربع شرقي نهر دجلة ما بين سامراء وبيجي باتجاه نهر العظيم. صعد الحاج قاسم سليماني في آلية عسكرية مصراً على التوجه إلى الخطوط الأمامية على محور سد العظيم، حيث واجهت القوات عقدة دفاعية للعدو راوحت عندها. كعادته، أعطى توجيهاته مجبولة بشحنة عالية من المعنويات سرعان ما وجدت ترجمتها باندفاعة متجددة للقوات دفعت بها نحو عمق منطقة العدو. في طريق العودة، سلكت سيارة الدفع الرباعي، محمّلة بقياديَين من الحشد ومستشار لبناني من حزب الله، طريقاً عسكرية شقتها آليات سلاح الهندسة التابع للحشد لتجاوز العبوات المنتشرة في المنطقة بكثافة. على أطراف الطريق، كانت مجموعة من المقاتلين تأخذ استراحة محارب، بينهم شاب عشريني يرتدي كنزة خفيفة ويبدو عليه التأثر ببرودة الجو. ما إن اجتازت السيارة جوار المجموعة حتى طلب الحاج قاسم من المستشار الذي كان يقود السيارة التوقف فورا. وسط تفاجؤ الجميع، فتح باب السيارة ونزل سريعا متوجها نحو مجموعة المقاتلين. ارتبك مرافقو الحاج، وسارعوا إلى اللحاق به خشية عليه من العبوات. اقترب الجنرال مبتسماً من ذاك المقاتل، مدّ يده إلى جيب السترة التي كان يرتديها، أخرج منها بعض الأوراق، ثم خلعها ووضعها على كتفي المقاتل المذهول، تناول رأسه بيديه وطبع قبلة على جبينه ثم قفل عائدا إلى السيارة. فيما كان المرافقون يلملم بعضهم البعض الآخر، تقدم أحدهم نحو الشاب وسأله: هل تعرف من هو هذا الشخص؟ نفيٌ بريء عكسته سريعا ملامح الشاب، قبل أن يأتيه الجواب من السائل: هذا الحجي قاسم، هنيئا لك سترته. كابَرَ المرافقون على الدمع الذي اجتاح عيونهم، حاولوا قول شيء ما، لكن الحاج رمقهم بواحدة من نظراته الحاسمة أفهمهم بها بأن الموضوع انتهى ولا يرغب بالحديث عنه.
في الغداة انطلقت القوات نحو مغامرتها، عديدها بالمئات، وعتادها أسلحة خفيفة في الغالب، وبعض الأسلحة المتوسطة، مشفوعة ببعض الهامرات ودبابتين من نوع أبرامز. قريباً من منطقة الإسحاقي، في منتصف الطريق إلى سامراء، تعرقل التقدم البطيء أصلاً، ثم ما لبث أن جمد إثر التعرض لرمايات من جهة العدو. عقد الحاج قاسم اجتماع عمليات ميداني، وتحدث مع الجمع باطمئنان استغربه الحاضرون الذين كانوا مأخوذين بالرعب الداعشي. قال لهم: هذه هي النقطة التي سينكسر فيها داعش؛ إذا ثبتم وحررتموها ستكون الطريق مفتوحة إلى سامراء. لم يُطل الكلام: «سنواصل التقدم»، ختم ثم صعد في سيارة دفع رباعي طالباً من السائق التحرك قدما. ليست الأوامر العسكرية، ولا الإنضباط التنظيمي كانا ما حركا القوات خلفه على تردد. وحده الخجل من شجاعته، والشعور بالذنب من احتمال تعرضه لمكروه، دفعا نحو خمس عشرة آلية للحاق به متقدماً غير آبه برمايات أصاب بعضها سيارته. في غضون دقائق، تجاوز الرتل المتقدم منطقة التماس، فإذا بالقوات المتبقية تنتابها الحماسة وتندفع خلف موكب الحاج وتلتحق به. مع الوصول إلى سامراء كان الرتل ممتداً كيلومترات على الطريق؛ ينظر الحاج قاسم إليه وسط سعادة غامرة اعترت الجميع بالإنتصار المتحقق ويعلق ممازحاً: ما شاء الله، كنا في البداية نتوسل القوات، والآن بفضل الله القوات كلها وراءنا.
في اجتماعات التخطيط للعمليات، إختار أن يكون دائما آخر المتكلمين. يعطي الكلام بالدور للحاضرين مستمعاً إلى وجهات نظرهم. يستمزجها، ثم يدلي برأيه حاسماً النقاش من دون الحاجة إلى ممارسة سطوة القيادة في إصدار الأمر. كان يكفي أن يحمل القلم بيده الجريحة ويرسم على الخريطة منطقة العمليات المفترضة ومحاور التقدم الأولية إليها كي يسلّم الجميع بالمهمة طواعية، نزولاً عند عشقهم للحاج، لا عند إمرته لهم. غالباً ما كانت الدوائر التي يحددها لمنطقة العمليات شاسعة المساحة، بما يفوق توقعات الحاضرين. درجت في أعقاب ذلك دعابة وسط بعض المستشارين الإيرانيين تدعو إلى أن تكون مقاييس خرائط التخطيط المقدمة إلى الحاج دون «الواحد على عشرة آلاف»، كي تصغر مساحة الدائرة التي يرسمها لمنطقة العمليات.
بيجي، تشرين أول 2015. عند مشارف نهاية العمليات التي أفضت إلى تحرير المدينة ومحطيها الأوسع، يكون الحاج قاسم في خلوة استراحة قصيرة في أحد مقرات العمليات. يتسلل مقاتل إلى مكان استراحته، يقف بالباب، ويومئ إليه على خجل بوجود ثلة من رفاقه يرغبون بالتقاط الصور معه. يبتسم الحاج: «در خدمتيم» (بخدمتكم) وينهض من فوره، يرتب ثيابه ويخرج إلى المجموعة التي تنتظر في الخارج على أمل. يتوسطهم وتبدأ حفلة التصوير التي، كما في كل مرة يجري ضبط الحاج فيها بحضور كاميرا، لا تنتهي. الجنرال الذي يملأ صيته المشرق والمغرب، كان بين المقاتلين كأحدهم، يتودد إليهم، يمازحهم، يقبلهم، يأنس بهم، ويفيض بطاقة استثنائية لإشباع رغباتهم التواقة إلى التقرب منه، تقبيله وضمه، التصور معه، أو اغتنام شيء من أثره، عادة ما يكون شالاً على كتفه، أو خاتماً في إصبعه. لم يكن شيئاً غير مألوف أن تجده يركب دراجة نارية وراء أحدهم متفقدا وضعية القوات أثناء العمليات، أو في سيارة بيك آب، التي كان يفضلها على سيارات الدفع الرباعي الفخمة ويهرب من طوابير مواكبها التي تحرص، لأغراض حمائية، على الإلتصاق بحركته.
البوكمال، تشرين الثاني 2017. يتنفس الحاج قاسم بصعوبة. النزلة الصدرية التي ألمت به تزداد سوءاً، وتُخمد همته المستديمة على الحضور في الميدان. يلتحف عباءة عربية ويحزم رأسه بلفحة عربية أيضاً، ويجلس وعلى محياه الإعياء في احدى غرف مقره، مصراً على مواكبة سير عمليات تحرير المدينة. يرفض نصيحة الجميع بالذهاب للعلاج والراحة. ما هي إلا أيام وتنتهي العمليات بتحرير المدينة. يدعو إلى اجتماع موسع. ربما كان أحد الإجتماعات النادرة التي ضمت معظم مكونات القوات المقاتلة في محور المقاومة: عراقيون، سوريون، لبنانيون، إيرانيون، أفغان وباكستانيون. بارك في كلمته للجميع الإنتصار على داعش وأثنى على التضحيات معلناً إنجاز المهمة التي «بدأتموها قبل ثلاث سنوات ونصف». ينصرف الجميع، ويبدأ الحاج بإعداد نفسه للرحيل. قبل أن يغادر المنزل، يخط بيده رسالة لصاحب الدار التي كان اتخذها مقرا لإقامته، يبلغه فيها أنه أهداه صلاة ركعتين ودعا له بحسن العاقبة، ويطلب فيها منه مسامحته على اضطراره إلى استخدام المنزل ويطلب منه أن يتواصل معه على رقم الهاتف المدون أسفل الرسالة للحصول على التعويض الذي يرتأيه لإبراء ذمته. توقيع الرسالة: إبنكم وأخوكم، سليماني.
القدس… قِبلته التي لا تتبدّل
في الحديث عن علاقة الشهيد الجنرال قاسم سليماني بفلسطين كلام طويل، وقصص مخبّأة ربما ستظهرها الأيام القريبة. لكن معرفة النزر اليسير منها يكفي لفهم ما كانت تعنيه فلسطين، والقدس خصوصاً، لقائد «فيلق القدس». وإن كانت علاقة سليماني بفلسطين قد بدأت منذ شارك في طلائع الثورة الإسلامية في إيران، فإنها أخذت مسارها عسكرياً وإدارياً سنة 1998، عندما استلم قيادة الفيلق، وهو جزء من «حرس الثورة»، خَلَفاً لأحمد وحيدي الذي أدار هذا الملف لسبع سنوات. منذ ذلك التاريخ وحتى استشهاده أمس، قاد سليماني الفيلق الشهير 21 سنة، شهدت خلالها فلسطين انتفاضة الأقصى الثانية (2000) التي تَلَتْها نقلة نوعية في قدرات المقاومة الفلسطينية، ما عادت خافية على أحد.
«تقريباً لا يوجد في فلسطين صاروخ، أو حتى بندقية، ليست عليها بصمة سليماني»، يقول قيادي في المقاومة. ربما يكون في ذلك مبالغة؟ يردّ القيادي: «من يعرف كيف كان يتعامل الحاج مع فلسطين لا يرى في هذا الكلام أيّ مبالغة… صحيح أنه يهتمّ بأدق التفاصيل في كلّ خطواته والمعارك التي خاضها، لكن عندما يتعلق الأمر بفلسطين تصير التفاصيل عشقاً، لدرجة أنه كان يمكن أن تسأل الحاج الكبير، كما كنا نُكنّيه، عن شوارع في غزة أو جنين فيجيبك عنها». هذه التفاصيل هي التي قادت الشهيد إلى الإشراف شخصياً على إيجاد طريق للصواريخ والأسلحة كي تصل القطاع وتُغيّر المعادلات، التفافاً من الخليج إلى البحر الأحمر، فالقرن الأفريقي، مروراً بإريتريا ثمّ السودان حيث المصانع المُخصّصة لتجميعها، قبل أن تُرسَل إلى المقاومة عبر شبه جزيرة سيناء. كان هذا المسار الأول لرحلة الصواريخ قبل أن يُؤخذ القرار بأن تصنع غزة سلاحها بأنواعه. «عندما كان الوضع صعباً في سيناء، في مراحل عدة، وكانت المقاومة بحاجة ماسة إلى السلاح، غامر الحاج بفكرة أن تعبر السفن قناة السويس وتلقي الأسلحة ببراميل بعد دراسة التيارات البحرية الواصلة إلى غزة»، يروي القيادي، مضيفاً أن «المقاومين كانوا يدخلون مسافة قصيرة في البحر ويلتقطون غالبيتها… التوفيق الإلهي عاملٌ أساسي في عمل الشهيد سليماني، لكن الجنون والإبداع يحضران دوماً».
بعد خروج العدو الإسرائيلي من غزة عام 2005، صارت فكرة «تسلّل» الحاج إليها مطروحة عنده فعلياً. هل دخل إلى القطاع؟ «ثمة حديث عن دخول الشهيد عماد مغنية مرة. لا أحد يستطيع أن يؤكد هذا الشيء. لكن سليماني كان يذكر هذا الأمر كتمنٍّ، وأحياناً ما بين المزح والجدّ. الفكرة كان أمامها موانع كثيرة… عملياً لم تَقْوَ شوكة المقاومة وتبسط سيطرة فعلية على غزة إلا بعد سنوات»، يستدرك القيادي. مع ذلك، ما من قائد فلسطيني بارز، عسكري أو سياسي، إلّا والتقاه الحاج، لأنه كان معنياً بلقاء الكلّ من دون استثناء لأيّ طرف مهما كان حجمه الميداني والشعبي، والإصغاء إليهم في أدق التفاصيل. أكثر من ذلك، تَوسّط في حلّ عدد من الخلافات بين الفصائل في مراحل مختلفة. كان يشاركهم الطعام، ولم تقتصر لقاءاته معهم على إيران، بل جرت في سوريا ولبنان… «ودول أخرى»، بحسب القيادي نفسه.
كان الرجل متابعاً دقيقاً لكلّ ما يتعلق بفلسطين، ليس في الشؤون العسكرية والأمنية فقط، بل وأيضاً التاريخية والجغرافية وحتى التراثية. وقد أنشأ وحدات متعدّدة المهمّات في الملف الفلسطيني، مثل الإعلامية والسيبرانية والحرب النفسية… إلخ. «تابع كلّ شاردة وواردة في فلسطين. وكان عاشقاً للقدس وتاريخ المدينة… ربما يكون انشغل بسبب الحرب في العراق وسوريا وأيضاً اليمن، وأوكل جزءاً من مهماته إلى نائبه (إسماعيل قاآني، المسؤول عن الفيلق الآن) ومسؤولي الملفات المشهورين بأسمائهم المستعارة، لكنه في المحطات المفصلية كان حاضراً دائماً، ولم يُفوّت لقاء واحداً مع الفصائل الفلسطينية عندما كان يُطلب منه». يقول القيادي: «ثمة مثال بسيط على عمق العلاقة: لمّا قرّرَت حماس تعديل ميثاقها السياسي، بادرت بأن أرسلت إليه نسخة للاطلاع عليها بعد أن اعتمدها مكتبها السياسي، لكي تأخذ ملاحظاته قبل أن تعلن الميثاق».
لما أعلن ترامب القدس «عاصمة لإسرائيل» سارع سليماني إلى الاتصال بغزة
أما ما حصل عليه سليماني من تسهيلات كبيرة من القيادة السورية للمقاومة الفلسطينية، فكانت توازي ما أخذته تلك الفصائل تلقائياً من دمشق خلال سنوات العلاقة الطويلة بينها. إذ حصل الجنرال على إذن من الرئيس بشار الأسد لإجراء التجارب الصاروخية في البادية السورية، كما نال إذناً بهبوط طائرات على مدرج خاص في أحد المطارات العسكرية، من دون أن يسأل العسكريون السوريون عن هويات الآتين والخارجين، إلى جانب امتيازات أخرى كثيرة. وما هي إلا سنوات قليلة حتى أتى الاختبار الصعب: الحرب في سوريا. يجزم كلّ العارفين بالعلاقة أن سليماني لم يقطع، حتى في أسوأ مراحل التوتر بين «حماس» وإيران، التواصل مع الحركة، ولاسيما جناحها العسكري الذي استمرّ في تزويده بالسلاح والمال من دون تأخير أو منع. كان هذا ثابتاً أساسياً لدى سليماني: لا شيء يمنعنا من أن ندعم فلسطين حتى لو خضنا مواجهة مباشرة مع أيّ فصيل فلسطيني! وبمجرد أن انتهت المعارك الكبرى في سوريا، سارع الجنرال إلى تحسين العلاقات بين أطراف المحور كافة، فأصلح كثيراً منها وخفّض حدّة التوتر في أخرى، على أن يأخذ الوقت مداه في حلّ ما تبقى.
حتى الأسابيع الأخيرة، أجرى سليماني لقاءات مع عدد كبير من القياديين الفلسطينيين، العسكريين والسياسيين، دارساً معهم بالتفصيل احتياجاتهم الملحّة في ضوء الضغوط الاقتصادية المتصاعدة على محور المقاومة، ومُقيِّماً معهم المواجهات الأخيرة مع العدو الإسرائيلي. يستذكر قياديون أنه في الشهر الأخير من عام 2017، لما أعلن دونالد ترامب القدس «عاصمة لإسرائيل»، اتصل سليماني بقيادة «كتائب القسام»، الذراع العسكرية لحركة «حماس»، و«سرايا القدس»، الجناح العسكري لـ«الجهاد الإسلامي»، في غزة. كان الاتصال مباشراً و«حميمياً»، وفيه تأكيد من الحاج لاستمرار «الدعم المفتوح» لفصائل المقاومة كي تكون «جاهزة للدفاع عن المسجد الأقصى». لم يحدّد لهم الآليات والكيفية، كما العادة، بل قال إن «كلّ مقدّراتنا وإمكاناتنا تحت تصرفكم في معركة الدفاع عن القدس».
إسرائيل «ترتاح» من أكبر الأعداء: أسئلة اليوم التالي
لا جدال في أن الفائدة الاستراتيجية التي تحقّقت لإسرائيل، جرّاء الاستهداف الأميركي لقائد «فيلق القدس» اللواء قاسم سليماني، كبيرة جدّاً. إخراج الرجل من المعادلة يؤمّن لإسرائيل، وفق ما ورد في التقارير العبرية أمس، «الانفكاك عن أكبر أعدائها على مرّ كلّ الأزمنة». فائدة استراتيجية أخرى جنتها تل أبيب من اغتيال نائب رئيس هيئة «الحشد الشعبي» في العراق، أبو مهدي المهندس، أحد القادة المتقدّمين الذين يثيرون خشية تل أبيب من أن يُخرجوا القوة العراقية الرافضة للاحتلال من حيّز الإمكان إلى الفعل.
لكن تلك الفوائد، على أهميتها، لا ترقى وحدها إلى التسبّب بتغيير فعلي في البيئة الاستراتيجية لإسرائيل، والتي باتت مشبعة بالتهديدات ومقبلة على مزيد منها. وهنا محلّ القلق الإسرائيلي الذي ينطوي عليه الترحيب بعملية الاغتيال. قلقٌ لا يرتبط فقط بإمكانية أن يكون الكيان العبري بين أهداف الردّ الإيراني، بل يتصل بنوايا الحليف الأميركي، وما إن كان مستعدّاً فعلاً للذهاب بعيداً في المواجهة مع إيران حتى كسرها. وفي هذا الإطار، تخشى تل أبيب من أن تكون خطة الإدارة الأميركية مقتصرة على هدف محدود: ردع إيران وحلفائها.
عملية اغتيال سليماني، بوصفه شخصية إيرانية وازنة واستراتيجية، ستجرّ حكماً، بحسب صحيفة «هآرتس»، ردوداً إيرانية بمستويات عالية، وهو ما لا يتساوق مع ذلك الهدف «الردعي». لذلك، ترى الصحيفة أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد يتسبّب فعلاً بحرب مع إيران، حتى من دون خطة معدّة مسبقاً. وفي الوقت نفسه، يمكنه العودة إلى الانكفاء. إلا أن إخراج الولايات المتحدة من «ورطة» التصعيد الأخير قد يلحق الضرر بمصالحها ومصالح حلفائها. قد تكون إسرائيل نجحت في دفع الولايات المتحدة، في نهاية المطاف، إلى مواجهة إيران بشكل مباشر، أو ساهمت في حملها – إلى جانب عوامل أخرى – على اتخاذ موقف عدائي متطرف تَجاوَز قواعد الاشتباك في العراق والإقليم. إلا أن الحسابات باتت اليوم متعلّقة بما سيلي الردّ الإيراني الذي تُقدّر إسرائيل، كما تسرّب عنها أمس، أنه آتٍ لا محالة.
في ظاهر موقف تل أبيب تهليلٌ عارم ورضا كامل عن التسعير الأميركي للمواجهة مع طهران، خصوصاً إذا ما كان اغتيال سليماني مقدّمة لخطوات لاحقة ضمن استراتيجية أميركية محدّدة مسبقاً، تستهدف إخراج إيران من العراق وسوريا والإقليم. لكن هل هذا هو الهدف الأميركي؟ لا إجابات إسرائيلية قاطعة، وإنما تقديراتٌ، لعلّ أبرز من عبّر عنها، أمس، الرئيس السابق لشعبة الاستخبارات العسكرية في الجيش الإسرائيلي، الرئيس الحالي لـ«مركز أبحاث الأمن القومي»، اللواء عاموس يدلين. إذ رأى أن «إيران وأميركا غير معنيتين بأن تتسبّبا بحرب بينهما، على رغم أنهما تسيران حالياً على حافة المواجهة، علماً أنه في الديناميكية الاستراتيجية يُمنع الافتراض أن الخصم سيستمرّ في التصرّف كما في الماضي. استمرار الأمور على حالها مرهون بالردّ الإيراني، في حين أن الحفاظ على الردع الذي أُنجز، ومنع ردّ إيراني ضمن ضبط التصعيد، هو تحدٍّ استراتيجي للولايات المتحدة».
تخشى تل أبيب من أن تكون خطة الإدارة الأميركية مقتصرة على هدف محدود
في التسريبات العبرية أمس، ورد أيضاً أن إسرائيل كانت على علم مسبق باستهداف سليماني، بل إن عملية اغتياله شكّلت مادّة للأخذ والردّ في الزيارات والاتصالات المتبادلة بين الجانبين، ومن بينها ثلاثة اتصالات هاتفية أخيراً بين رئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو ووزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو (القناة 12)، ولذا «لم تفاجأ إسرائيل بالتصفية الدراماتيكية» لسليماني. لكن، مع ذلك، رفض نتنياهو الإجابة عن سؤال عمّا إذا كان على علم مسبق بالضربة، في ما بدا محاولة متجدّدة لضمان إبقاء إسرائيل بعيدة عن المواجهة الأميركية – الإيرانية. وكان نتنياهو قرّر قطع زيارته إلى اليونان، والعودة إلى فلسطين المحتلة، توازياً مع إصداره تعليمات إلى وزرائه بالامتناع عن التعليق خوفاً من التبعات. وفي حديث مع الإعلاميين حرص مكتبه على تعميمه، قال نتنياهو إن «للولايات المتحدة الحق في الدفاع عن مواطنيها ومصالحها»، مضيفاً أن «سليماني كان المسؤول عن مقتل العديد من المواطنين الأميركيين ومدنيين عزّل آخرين»، وأنه «خطّط للمزيد من الاعتداءات الإرهابية». ورأى أن «ترامب تصرّف بحزم وبقوة وبسرعة، وإسرائيل تقف إلى جانب الولايات المتحدة في النضال من أجل توفير الأمن والسلام والدفاع عن النفس».
من جهته، سارع وزير الأمن، نفتالي بينت، إلى عقد جلسة تقييم وضع في تل أبيب، بمشاركة رئيس أركان الجيش أفيف كوخافي، وكبار المسؤولين الأمنيين الآخرين، تَقرّر في أعقابها، بحسب مصادر عسكرية، رفع مستوى التأهّب العسكري على كلّ الجبهات، ولا سيما الجبهة الشمالية (لبنان وسوريا).
الراقص على حبال الموت
فجر 12 شباط/ فبراير 2008، كان الوقت مناسباً لتنفيذ عملية الاغتيال. عندما نزل عماد مغنية من سيارته في منطقة كفرسوسة، رصد منفّذو العملية وجود شخص آخر إلى جانبه: لم يكن إلا قائد «فيلق القدس» قاسم سليماني. تحدث الرجلان وقوفاً قليلاً، قبل أن يدخلا أحد الأبنية للاجتماع مع قادة فلسطينيين. أتيحت للموساد، يومها، فرصة لا تتكرّر لقتل الرجلين معاً. لكن المعادلات وقتها على الإسرائيليين عدم المساس بسليماني. انتظر المنفّذون خروجه من المكان وحيداً. فيما كان في طريقه إلى المطار، خرج مغنية من المبنى لتحين الساعة الصفر، ويتمّ الضغط على زرّ التفجير. أقلّ من 5 سنوات كانت كافية ليعبّر عدد من قادة الاستخبارات، الأميركية والإسرائيلية، عن ندمهم على تفويت تلك الفرصة، خصوصاً أن دور الرجل تطوّر حتى بات «الوحيد القادر على جرّ الجيش الإسرائيلي إلى حربه المقبلة»، بحسب تعبير رئيس الموساد السابق تامير باردو.
م تكن تلك المرة الأولى ولا الأخيرة التي اقترب فيها سليماني من حافة الموت. الرجل، الذي عُيّن قائد لواء وهو لمّا يزل في الـ19 من عمره، وضعته الظروف على حافة الشهادة مرات عدّة، فضلاً عن إصابات بالغة تعرّض لها غير مرة، في إيران والعراق وسوريا ولبنان. مسافة صفر من العدو كانت أمراً معتاداً بالنسبة إليه. عام 2004، على الحدود اللبنانية – الفلسطينية، كان هو والحاج عماد وقياديون آخرون يتجوّلون على الحدود، متجهين صوب نقطة المنارة. اقتربوا لحظتها من السلك لمعاينة المشهد من هناك. توقفوا قليلاً، وبعد لحظات وصلت دبابة وآلية إسرائيليتان. ترجّل منهما الجنود سريعاً ووجّهوا الأسلحة نحوهم. لم يتزحزح أحد منهم، بل على العكس، قاموا هم أيضاً برفع الأسلحة بوجه الجنود. ساد صمت لدقائق معدودات لم يبادر فيها أحد إلى فتح النار، قبل أن يتراجع الإسرائيليون ويكملوا دوريتهم، ويبقى الحاج قاسم ومَن معه في مكانهم.
عام 2006، وبحسب ما يروي أحد قادة «سي آي إيه»، وصل الى الاستخباراتِ الأميركية تقريرٌ مفاده أن موكباً إيرانياً يضمّ سليماني يتجه نحو شمال العراق. جرى البحث سريعاً في القرار الذي يجب اتخاذه: هل نهاجم القافلة؟ هل نفجّرها؟ أم لا نفعل شيئاً؟. «كنا متأكدين 100٪ أن قاسم كان هناك»، يقول القائد المذكور، مضيفاً أنه «كانت لدينا مشروعية ملاحقته وتصفيته». انتظر الأميركيون حتى يصل الموكب مكاناً يمكنهم فيه السيطرة عليه. اعتقلوا خمسة أشخاص أقرّوا لاحقاً بأنهم دبلوماسون إيرانيون، لكن سليماني، الذي كان على متن الموكب بالفعل، «باغتنا ونجح في الخروج منه من دون أن نتمكن من رؤية ذلك»، وفق المسؤول الأميركي.
لم تكن واقعة 2008 المرة الأولى أو الأخيرة التي اقترب فيها سليماني من حافة الموت
في سوريا، وبعد دخول معركة القصير أسبوعها الثاني، زار سليماني غرفة العمليات للاطلاع على مسار المعركة. أُفردت له خريطة العمليات. لكنه أراد أن يعاين المشهد بنفسه. طلب الوصول إلى مركز بلدية المدينة، خطّ التماس الأخير. تَقدّم مع قائد المعركة رويداً رويداً داخل القصير، وكلّما كان القائد يطالبه بالاكتفاء، كان يطالب بالمزيد، علماً أن السيد حسن نصر الله أوصاه شخصياً بألا يخاطر بنفسه. لكنه سليماني ظلّ مصرّاً على الوصول إلى أقرب نقطة، أي على بعد أمتار من المسلّحين. هناك، وقف بارتياح، ليوصي بإقامة غرفة عمليات متقدّمة تكون أقرب إلى مجريات المعركة.
تعرّض لمحاولات أخرى سابقة ولاحقة أدّت إلى جرحه. كما تعرّض لمحاولات اغتيال أثناء معالجته في المستشفيات. أثناء الحرب الإيرانية – العراقية، تعرض لإصابة بليغة في صدره. ينقل الدبلوماسي صادق خرازي أن أحد أنصار «المنافقين»، وكان يرأس غرفة العمليات، أبقى صدر سليماني مفتوحاً ليزداد وضعه صعوبةً، قبل أن تنتبه ممرضة للأمر وتبلغ المعنيين. محاولات كثيرة، جميعها باءت بالفشل، قبل أن يقضي «الحجي» في كمين الفجر في بغداد.
«عماد مغنيّة» شهيداً…
خرجت صورة قائد قوة القدس قاسم سليماني للمرة الأولى إلى العالم بعد عام 2008، عقب استشهاد صديقه القائد العسكري للمقاومة الإسلامية في لبنان الحاج عماد مغنية. ينقل عارفو سليماني أن خروجه إلى الضوء جاء كردة فعل على استشهاد مغنية.
العلاقة بين الرجلين عاينها العدو بعينه. يروي الصحافي الإسرائيلي رونين برغمان في كتابه «انهض واقتل»، أنه صبيحة اغتيال الحاج رضوان، في 12 شباط 2008، رصدت أعين الاستخبارات الإسرائيلية مغنية واقفاً مع صديقه الحاج قاسم بالقرب من السيارة المفخخة. بحسب الكاتب، لم تسمح الإدارة الأميركية بقتلهما معاً لاعتبارات عدة، بينها أن قتل سليماني قد يؤدي إلى حرب مع إيران، وأنه يريد ضمان «قتل الهدف». بعد اغتيال مغنية، احتفظ سليماني بـ«الكنزة» السوداء التي كان يرتديها الحاج عماد لحظة استشهاده. وضعها في صندوق زجاجي في صالون بيته في طهران. فوق الصندوق، ثبّت لوحة عليها صور قادة وشهداء إيرانيين ولبنانيين (بينهم السيد موسى الصدر والسيد حسن نصر الله) وفلسطينيين وعراقيين وأفغان، والثائر الليبي عمر المختار. مرات عدة، عبّر الحاج قاسم عن اشتياقه للحاج رضوان، وكيف أنه باستشهاده فقد صديقاً من الصعب تعويضه. كان يشير إلى كنزة صديقه ويطلب من زائريه التدقيق في الثقوب التي خلفتها الكرات المعدنية التي اخترقت جسده. اعتاد الحاج قاسم استرجاع لحظة استشهاد مغنية، وكيف وجده أحد رفاقه ساجداً. أحب سليماني إخبار زائريه عن علاقته بمغنية ولم يقدر على منع انسياب الدمع خلال حديثه عنه. بعد استشهاد الحاج رضوان، أصبح سليماني فرداً من عائلة مغنية. اعتبر نفسه مسؤولاً عنها.
بعض أفراد عائلة الحاج عماد كانوا قد التقوا سليماني سابقاً، لكنهم لم يكونوا يعرفون هويته. كل ما عرفوه عنه أنه «صديق عماد». إبان حرب تموز ــــ آب 2006، شاهدت زوجة الحاج عماد، سعدى بدر الدين، قاسم سليماني مع زوجها عندما كانا يحضران لتسلّم الطعام منها، في نقطة متفق عليها مسبقاً في الضاحية. كانت تنظر إليهما، متسائلة عن الرجل الذي لا يفارق زوجها والذي يُحتمل أن يقتل معه في أي لحظة. لم تعرف أنه قاسم سليماني إلا ما بعد استشهاد رفيق عمرها.
في الآونة الأخيرة، استذكر الحاج قاسم بعضاً من أيام حرب تموز التي قضاها في لبنان برفقة الشهيد مغنية والسيد نصر الله. في إحدى المرات، كان الموت قاب قوسين أو أدنى من الثلاثة. خرجوا من المكان الذي كانوا فيه، تظلّلوا بشجرة كبيرة بعدما شعروا بأن مقرهم في الضاحية الجنوبية لبيروت سيستهدف. طلب عماد من سليماني حماية السيد نصر الله. غاب لدقائق وعاد يقود سيارة. صعدوا فيها، ولحظات حتى انهمرت الصواريخ الإسرائيلية مستهدفة المكان الذي كانوا فيه. قاد الحاج عماد السيارة بسرعة كبيرة حتى وجد الثلاثة أنفسهم في منطقة بعيدة جداً. انتبهوا إلى أنهم ابتعدوا كثيراً عن الخطر، فكانت ردة فعلهم الضحك. يسرد الحاج قاسم هذه الرواية، ويختمها بابتسامة قائلاً: «ما لا يفارق ذهني وما لم أتمكن من سؤال عماد عنه، هو من أين أتى بالسيارة؟».
بعد الحرب، توطدت علاقة سليماني مع عائلة مغنية، وخصوصاً أنه في مرات عدة رافق الحاج رضوان وانتظره للانتهاء من لقاء عائلته. بعد استشهاد مغنية، حرص سليماني، خلال زياراته لبيروت، على لقاء أفراد العائلة والاطمئنان إلى أحوالهم، ومتابعة تفاصيلهم اليومية. بدورها، عائلة الحاج عماد اعتبرت سليماني واحداً منها. فلطالما كانت الحاجة آمنة سلامة (أم عماد)، تعاتبه، لمخاطرته بنفسه، ولعدم نيله قسطاً كافياً من الراحة والنوم.
عند استشهاد جهاد عماد مغنية، شعر سليماني بأنه فقد ولده. جاء إلى منطقة الغبيري في الضاحية الجنوبية لبيروت، وقف مستقبلاً المعزّين، متجاوزاً المخاطر التي أحاطت بعد التهديدات الإسرائيلية باستهدافه بسبب العمل العسكري على جبهة الجولان. ليلة استشهاد «جهاد الكبير» (كما تلقّبه عائلته)، توجّه سليماني إلى قبره، وانتشر له فيديو وهو يقرأ القرآن على قبره. في إيران، وعلى مدى يومين، أقام مراسم العزاء وتقبّل العزاء برحيل جهاد.
في الذكرى السنوية العاشرة لاستشهاد الحاج رضوان، أطلق الحاج قاسم العنان لنفسه للحديث عن صديقه. عند سؤاله: لماذا قررت الآن الحديث عن مغنية؟ كان يجيب أنه يحب الحديث عنه، لكنه يخاف أن لا يفيَه حقه. تحضيراً لمهرجان الذكرى السنوية العاشرة، تابع سليماني التفاصيل، وسأل عن المتحدثين في الحفل، والأناشيد التي ستتلى، وأين سيجلس الحاضرون، وكان فرحاً على غير العادة. بعد الاحتفال، قال لمن التقاه في بيته إنه يتمنى أن يكون قد أعطى الحاج عماد بعض حقه.
عند وفاة الحاج فايز مغنية عام 2017، سارع الحاج قاسم إلى الاتصال لتقديم واجب العزاء. المعارك الدائرة في سوريا والعراق منعته من الحضور، لكنه كان حاضراً في التفاصيل، للتأكد من إجراء مراسم العزاء على أكمل وجه. عند مرض الحاجة آمنة، كانت المعارك في العراق على أشدها. ولدى دخولها في غيبوبة، اتصل طالباً وضع الهاتف على أذنها. فضول الحاضرين دفعهم إلى فتح مكبر الصوت لسماع ما سيقوله لها. عبّر لها بصوته المتهدج عن محبته لها وحاجته إليها، قائلاً لها «نحن بحاجة لنصيحتكم ودعائكم».
عند وفاة الحاجة آمنة، حضر الحاج قاسم إلى بيتها معزياً. طلب من عائلتها سجدة من سجدات الصلاة التي كانت تصنعها بيديها، حملها واختار واحدة كانت آثار أصابعها وبصماتها عليها.
يقول من التقى الحاج قاسم، قبل ساعات من اغتياله في العراق، إنه كان هادئاً على غير العادة، وما لفتهم إطالته في الصلاة والدعاء أكثر من المعتاد. مع انتشار خبر استشهاده، لم تفقد «الحكيمة» (اللقب الذي كان يطلقه على زوجته) وأولادها أباهم فقط. فقدت عائلة عماد مغنية مرة أخرى أباً وأخاً. بالنسبة إليهم، عماد استشهد مجدداً.