بشقَّيها التراجيدي والكوميدي، دخلت الدراما التلفزيونية التركية بيوت المشاهدين في مختلف أنحاء العالم، على مدار سنوات. واليوم، تدخل الدراما التركية بقوة من بوابة الفن السابع، وتحديداً فيلم «معجزة في الزنزانة 7» المتوافر على نتفليكس، إذ لم يسبق أن أخذت الأفلام التركية الاستهلاكية ضجة مماثلة من قبل. اعتبر كثيرون أن الفيلم تحفة فنية، وأثنوا على قدرته «الخارقة» على دغدغة المشاعر الإنسانية. وقد نال الفيلم تقييماً ممتازاً على IMDB (منصة عالمية لتقييم الأفلام من قبل المشاهدين حول العالم).
لماذا كل هذا الصخب حول الفيلم؟ وما مردّ كل هذه التراجيديا؟ ولماذا يلجأ المخرجون إلى الجمهرة Massification أي تحويل الفئات الشعبية إلى جماهير؟
تدور الأحداث حول أب يدعى «ميمو» يعاني من التأخر العقلي، يؤدي دوره الممثل التركي نجم مسلسل «حريم السلطان» أراس بولوت إيناملي. تموت طفلة أحد الضباط النافذين في الدولة على مقربة منه، فيدخل إثر ذلك السجن نتيجة اتهامه بقتلها، ويُحرم من رؤية ابنته «أوفا» ويحكم عليه بالإعدام لاحقاً، فيتحوّل السجن إلى مكان لنسج خيوط الحبكة الدرامية.
من حيث الصورة، يبدأ الفيلم (إخراج: محمد أضا أوزتيكن) بإتقان فني: الكادرات والزوايا، الإضاءة والألوان، الديكورات والمناظر الطبيعية لتركيا. تجتمع صورة السماء والجبال والبحر الأسود في أبهى صورة، كما الأزقة العتيقة التي تخبئ بيوتاً مليئة بألوان الدفء والنوستالجيا، وتخترق الأحداث الموسيقى التركية وألحانها الرقيقة بين الحين والآخر… سرعان ما تتلاشى كاميرا المخرج شيئاً فشيئاً في خضم أحداث السجن، ولا تحافظ على زخمها الفني والكادرات المُتقنة، فتذوب جمالية الصورة والمونتاج، وتُكرّس الكاميرا لنقل وحشة السجون ومآسيها. رغم أن «معجزة في الزنزانة 7» مقتبس عن الفيلم الكوري الجنوبي الذي أخرجه هوان كيونغ لي عام 2013 بالعنوان نفسه، لكن أداء الممثل إيناملي في النسخة التركية، يعود بنا إلى عام 2001، وفيلم I am Sam عندما جسد الممثل الأميركي شون بن نفس حالة التخلّف العقلي لـ «ميمو» في الفيلم التركي، وترشح يومها بن لجائزة الأوسكار. يبدو الفرق شاسعاً في أداء الممثلَين على المستويين الفيزيولوجي والنفسي الذي يتطلبه تجسيد أدوار معقدة كهذه. لا بدّ من القول بأن إيناملي نجح في أداء مشاعر صادقة، لكنه اكتفى باللعب على العاطفة وغفل عن الغوص في أعماق الشخصية السيكولوجية. يزخم الفيلم بسلسلة أحداث بنائية مترابطة، وتشكل الأحداثُ حبكةً تراجيديةً مليئةً بالمشاعر الإنسانية التي أتت مكثّفة إلى حدّ المبالغة. فلماذا كل هذه الأحداث الدرامية المتتالية؟ عادة تبدأ الحبكة مع السبب الذي يولد منتصف الذروة، وتحمل أحداثاً لاحقة، فنصل إلى النهاية التي تأتي نتيجة هذا المسار. من هذه الناحية، لا بدّ من الإشارة إلى أن الفيلم استوفى شروط البناء التراجيدي للحبكة الدرامية بحسب أرسطو في كتابه «فن الشعر». لكن، مهلاً… لماذا أخذنا الكلام إلى أرسطو (322-384 ق.م) لمقاربة فيلم يُعرض على نتفليكس أنتج عام 2019؟ لماذا نجري مقاربةً لفيلم معاصر مع كتاب «فن الشعر» الذي يعود للعهد الإغريقي ما قبل الميلاد؟ ما يدفعنا للحديث عن ذلك هو الزخم الدرامي والمشاعر الإنسانية الفضفاضة التي حملها فيلم تركي معاصر يشبه تراجيديات يونانية كتبها سوفوكليس ويوروبيدس قبل العصر الميلادي، حيث كان الجمهور تواقاً للحبكات الصارخة والمأساوية. الفيلم لديه حبكة هدفها إيصال فكرة التلاحم الإنساني في ظلّ بطش السلطة، وعدالة الأرض التي يمكن أن تحققها المجتمعات الإنسانية بتكافلها، والتكاتف بين الفئات المقهورة الذي يمكن أن يحقق المعجزة، ويجعل من جدران السجن وحبال المشانق قوة احتجاجية سرية ومبطنة في عصر البطش السياسي. جملة عناوين إذاً طرحها الفيلم، منها سياسي كالظلم، والإعدام، وأوضاع السجون، والفساد القضائي، ومنها إنساني كالتأخر العقلي، والصراع الطبقي، واليتم… كما يطرح إشكالية الموت والفراق والقصاص في الدنيا والآخرة… كل ذلك في فيلم واحد يمتد لساعتين وعشر دقائق من الوقت!
انطلاقاً من كلّ ذلك، هناك جملة تساؤلات حول الحبكة الدرامية: ألا يجوز مثلاً، أن يفتتح المخرج فيلمه من موت إحدى الفتيات، لنكتشف بعدها أنها ابنة أحد النافذين في الدولة، وندخل في حيرة ما إذا كان «ميمو» المتخلف عقلياً تسبب في موتها أم لا؟ مما يزيد التشويق على حساب التلقين… ألم يخطر في بال المخرج مثلاً أن يجعل من والدة «أوفا» هاربة كما حصل في فيلم I am Sam حيث تفرّ الأم التي ما عادت تتحمل وضع زوجها، بدلاً من نسج شبكة علاقات مثالية حول الأب المتخلف عقلياً، والتي تبدو أشبه بالأساطير المحكية؟ لماذا قرّر المخرج أن تموت الجدة في ذروة الأحداث؟ وعند بروز الشاهد على حادثة موت الطفلة، قرر أبوها – الضابط المفجوع، عدم الإصغاء لما حدث، ولم يكلف نفسه عناء معرفة الحقيقة وصمم أن يشفي غليل حقده بقتل متهم بريء بحادثة موت طفلته؟ في ظل كل ذلك البطش السياسي والقضائي، كيف يتحول السجن إلى مرتع للأب، وابنته تدخل وتخرج متى شاءت بعلم مدير السجن الذي كسر كل القواعد المتبعة لمجرد تعاطفه مع البطل البريء؟ أكثر من ذلك، كيف لحادث سير بسيط أن يحول دون حضور «حفلة» الإعدام التي أعدها الضابط والد الطفلة الميتة، ليشبع غريزته وانتقامه؟
تسطيح الثقافة والفن لجعلهما شعبويين
إنها فعلاً تراجيديا تفتقد للمنطق الدرامي، حيث لم يبقَ للمخرج إلّا أن يقتل أستاذة المدرسة التي تتكفل بتربية الطفلة «أوفا» ليفجع المتفرج بموت أمها وأبيها وجدتها ومربيتها أيضاً، ويترك الطفلة وحيدةً بلا مأوى!
مردّ ذلك أن المخرج أوزتيكن أراد ممارسة عملية «التطهير» بحق المتفرج، أي التفريغ العاطفي وهي سمة الدراما الأرسطية، التي تغيرت اليوم، حيث صار مفهوم الدراما مرتبطاً بـ «الديالكتيك» أي الجدل. مارس المخرج على المتفرج عنفاً حادّاً ليحرف النظر عن أفكار إنسانية أو جدلية أخرى، وصبّ اهتمامه على العاطفة. والجمهور عادة ما يتلقى الأعمال الفنية على المستوى الانطباعي الذي يمر عبر الحواس وهو تلقٍّ فيزيولوجي كالبكاء، ويهمل المستوى الإدراكي وهو مستوى الوعي والإدراك والتفكير. من هنا تتضح لنا كمية التفاعل حول «معجزة في الزنزانة رقم 7» الذي يتميز بـ «الجمهرة» وهي نزعة نحو تسطيح الثقافة والفن لجعلهما شعبويين، وتحويل الناس إلى نسخ متطابقة، أي إلى جماهير.