مشروعها مشروع دولة مؤجّل. واضحةٌ، وبشدّة، في الإفصاح عن رغبتها الانفصالية. بقاؤها ضمن عراق واحد، مؤقّت، ريثما تتمكن من ابتلاع أكبر قدر ممكن من الأراضي التي تطفو على «الذهب الأسود»، والاستفادة ما أمكن من أموال الموازنة الاتحادية. رغم ذلك، يغضّ عرب العراق، شيعةً وسُنّةً، الطرف عن ذلك. يتعاملون مع قيادات الأحزاب الكردية على قاعدة «تحالفات القطعة»، من دون التمعّن في مشروع تلك الزعامات، وخطورته على المدى الاستراتيجي.
ثلاثة ملفات رئيسة عالقة شكّلت مثلث الأزمة مع «إقليم كردستان»:
1- مصير «المناطق المتنازع عليها»، بتعبير الأحزاب الكردية.
2- تشريع قانون النفط والغاز.
3- دفع رواتب مقاتلي قوات «البشمركة».
يجيد الساسة الكرد عرض هذه الملفات بأسلوب يوحي بأنها «حق مشروع»، لكنها في الواقع تستبطن أغراضاً ودوافع شديدة الضرر بحاضر العراق ومستقبله. فالزعامات الكردية تدرك جيّداً – وأكثر من غيرها – معنى «عراق قوي موحّد»، وتدرك أيضاً أن هامشها في استغلال حكومة المركز وتسخير مواردها الاتحادية لتحقيق مشروعها التوسعي – الانفصالي يتعاظم كلّما زادت المشاكل والانشقاقات في العاصمة بغداد.
عن «المناطق المتنازع عليها»
في 5 نيسان/ أبريل 1991، أصدر «مجلس الأمن الدولي» قراره 688، والذي طالب العراق بـ«الكفّ عن ملاحقة السكان المدنيين الأكراد»، مع نزوح حوالى مليون شخص منهم إلى إيران وتركيا. سارعت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا إلى استثمار هذا القرار بإنشاء منطقة لـ«حظر الطيران» شمالي العراق، عُرفت حدودها بـ«الخط الأزرق»، وشملت محافظات «إقليم كردستان» الثلاث (السليمانية وأربيل ودهوك)، إضافة إلى عدد من الأقضية المتاخمة لـ«الإقليم» والتي تمّ ضمّها إلى «الخط الأزرق» نتيجة وجود أغلبية كردية فيها (أُلحق قضاءا كفري وكلار بالسليمانية بعد اقتطاعهما من محافظة ديالى، فيما أُلحق قضاء عقرة التابع لمحافظة نينوى بمحافظة دهوك).
مطلع عام 2004، صدر قانون «إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية» (بمثابة الدستور المؤقّت)، والذي ساهم الأكراد في كتابته بشكل مباشر. ثَبّت القانون حدود المحافظات العراقية كافة، ومَنَع إجراء أيّ تعديل عليها (المادة 53/ ب)، معترفاً بـ«إقليم كردستان» الذي يضمّ محافظات دهوك وأربيل والسليمانية وكركوك وديالى ونينوى (المادة 53/أ). أُقحم اسم محافظة كركوك من دون أن يكون لذلك أيّ قيمة قانونية؛ فالقيد الذي اعتُمد في إقرار حدود «الإقليم» هو «الأراضي التي كانت تديرها حكومته لغاية 19 آذار/ مارس عام 2003»، وهذا يشمل محافظاته الثلاث وأقضية كفري وكلار وعقرة، ولا ينطبق على كركوك التي كانت خاضعة لسلطة المركز في التاريخ المحدّد دستورياً.
بعد نفاذ الدستور العراقي الدائم في 28 كانون الأول/ ديسمبر 2005، رُحِّلَتْ «المادة 53/ أ» إلى متن الدستور (المادة 140)، حيث أُقحم أيضاً تعبيرٌ غريب هو «المناطق المتنازع عليها»، علماً بأن هذا المصطلح يُستخدم في توصيف نزاعات تكون أطرافها دولاً. وضع الدستور سقفاً زمنياً هو 31 كانون الأول/ ديسمبر 2007 لتطبيق «المادة 140»، لكن تلك المهلة انتهت من دون أن يُحلّ النزاع. انتهجت الأحزاب الكردية، طوال الفترة المُحدّدة لتسوية المشكلة، سياسة التوسّع وقضم الأراضي، حتى بلغ عدد الوحدات الإدارية التي يُسيطر عليها «الإقليم»، ضمن حدود محافظة نينوى وحدها (قبيل سقوط مدينة الموصل بيد تنظيم «داعش») 16 وحدة إدارية من أصل 31. واستكمالاً لهذه السياسة، ولربط مصالحها بمصالح الولايات المتحدة، تعاقدت حكومة «الإقليم» مع شركة «ExxonMobil»، مانحةً إياها استثمارات نفطية في ناحية القوش وقضاء الشيخان، التابعَين إدارياً لمحافظة نينوى. وبذلك، باتت مساحة الأراضي التي تدّعي أربيل أنها «متنازع عليها» مساويةً لمساحة «الإقليم» الفعلية!
في أحلك ظروف المعركة، يوم كان «داعش» يتقدّم في الميدان، قال الرئيس الفعلي لـ«الإقليم»، مسعود برزاني، إن «احتلال داعش أدّى إلى تطبيق المادة 140». من بعده، أعلن وزير «البشمركة»، جبار ياور، أن «الإقليم لم يعد يملك حدوداً مع الدولة العراقية، فحدوده الآن مع الدولة الإسلامية (داعش)»، في تصريحات عكست التخادم السياسي بين الطرفين قبل سقوط سنجار وسهل نينوى. المفارقة، أنه بعد شهرين من سقوط الموصل، توجّه «داعش» شرقاً باتجاه أربيل!
النفط والغاز
تصرّ أربيل على تشريع قانون النفط والغاز بطريقة تضفي المشروعية على جميع تعاملاتها وتعاقداتها، والتي منحت بموجبها عقود التنقيب والاستخراج وحفر الآبار ومدّ الأنابيب للشركات الأجنبية، مخالِفة بذلك حتى تفسيرها للمادة «112/ ثانياً» من الدستور، والتي تنصّ على «قيام الحكومة الاتحادية وحكومات الأقاليم والمحافظات المنتجة، معاً، برسم السياسات الاستراتيجية اللازمة لتطوير ثروة النفط والغاز، بما يحقق أعلى منفعة للشعب العراقي». تفسّر أربيل لفظ «معاً» بأنه يُلزم حكومة المركز بإشراكها في إدارة السياسة النفطية، لكن المفارقة أنها تقوم بمفردها، وبمعزل عن بغداد، بإدارة السياسة النفطية وحفر الآبار في المناطق الواقعة خارج حدود «الإقليم».
عقب الضربة الروسية لأسطول الصهاريج المهرّبة من النفط السوري (2015)، لجأت «البشمركة» و«داعش» إلى استخدام أنبوب قديم أنشأه النظام العراقي السابق، يربط بين حقول صفيّة العراقية وحقول رميلان السورية. ضخّت الأولى – وبطريقة عكسية – النفط السوري عبر هذا الأنبوب إلى حقول صفيّة، وأودعته تالياً في خزانات كبيرة أُنشئت في قرية المحمودية شمال ناحية ربيعة، قبل أن تُهرّبه عبر معبر فيش خابور باتجاه تركيا، بصهاريج تولّت حمايتها قوّة خاصة دُعيت بـ«التايبت» بقيادة منصور برزاني (نجل مسعود).
رواتب «البشمركة»
ليس الحديث عن رفض حكومة المركز دفع رواتب مقاتلي «حرس الإقليم» (البشمركة) تعبيراً صادقاً عن حقيقة الخلاف. تشترط بغداد أن تكون تلك القوات ضمن المنظومة الدفاعية الاتحادية، أي أن تكون تحت إمرة القائد العام للقوات المسلحة، بخلاف رأي أربيل التي تريد «البشمركة» ذراعاً عسكريّة تحمي من خلالها مكاسب الزعامات الكردية، في حال اضطرارها لمواجهة الجيش العراقي، كما جرى – فعلياً – في عملية «فرض القانون» على هامش معارك التحرير (2017)، حيث تمّت السيطرة على المنشآت الاتحادية وسرقتها (كما في كركوك، يوم أقدمت «البشمركة» على طرد موظفي «شركة نفط الشمال»، ومن ثمّ الاستيلاء عليها).
شعار «حقوق الأكراد»، المرفوع في أربيل، شعارٌ أجوف، والدليل أن «الإقليم» كان يدفع رواتب موظفيه من حصّته من الموازنة الاتحادية، والبالغة 17 بالمئة. ولمّا نشأت الأزمة بينه وبين بغداد، وامتنعت الأخيرة عن دفع الموازنة، قرّرت حكومة «كردستان» تصدير النفط بشكل مباشر، ليبلغ حجم صادراتها حوالى الـ20 بالمئة من إجمالي الصادرات النفطية العراقية. ومع ذلك، لم تدفع رواتب موظفيها، بل فرضت عليهم عمليات اقتطاع إجبارية، في وقت كانت تُروّج فيه لفكرة أن بغداد هي من تحجب الرواتب، من دون أن تفصح عن مصير العائدات النفطية التي يصدّرها «الإقليم» (تزيد بنسبة 3 بالمئة على الأقلّ عمّا كانت تتقاضاه من الموازنة الاتحادية)، والتي سُخّرت لخدمة مشروع بناء الإقطاعيات السياسية المؤسّسة لحكم العوائل.
خندق الشرف وخطّ دفاعه الأخير
تُشكّل قضية كركوك معيار التزام الزعامات السياسية العراقية بالقضايا الوطنية المصيرية. واحدٌ من أسباب فوز حيدر العبادي في الانتخابات التشريعية الأخيرة (أيار/ مايو 2018) مرتبطٌ بموقفه من كركوك و«المناطق المتنازع عليها». كذلك، تمثّل كركوك المحكّ الكاشف لعدم التزام الزعامات الكردية بشعار «مكافحة الإرهاب»، وقد وصل بها الحدّ إلى تشكيل تنظيمات إرهابية كـ«تنظيم الرايات البيضاء»، لقطع طريق كركوك – بغداد، وقتل المدنيين، وليّ ذراع حكومة المركز، وإجبارها على إعادة «البشمركة» إلى كركوك بحجّة «ضبط الأمن».
كان موقف العبادي، ومن ثم عادل عبد المهدي، الرافض للخضوع لذلك الابتزاز، مشرّفاً ووطنياً. لم يفرّط الرجلان بـ«عراقية» كركوك. رفضا عودة «البشمركة» إليها، وأبقيا المدينة والمحافظة تحت السلطة المباشرة للحكومة الاتحادية. السؤال هنا: هل يجازف رئيس الوزراء الحالي، مصطفى الكاظمي، بإعادة «البشمركة» إلى كركوك، ضارباً بذلك عرض الحائط بآمال العراقيين وتطلّعاتهم؟
لقد خسر عبد المهدي الكثير، ولكنه لم يجازف بخسارة هذا الموقف الوطني، على رغم ما قيل عن علاقته التاريخية بالأكراد.