رهانات 2005 – 2006 تعود محلياً وخارجياً: مخاطر الحسابات الخاطئة
لو خطّط أحد ما لتسريع الانهيار في لبنان، لما فكّر في خطة شيطانية كالتي أنتجت زلزال أول من أمس. الكل يعلم أن النقاش حول التفجير الهائل سيبقى مفتوحاً إلى أجل طويل، ولن تنفع معه تحقيقات رسمية ولا اعترافات أو غير ذلك. ففي بلاد كبلادنا، حيث تسيطر المافيات على كل شيء، لا مكان لحقيقة تتيح محاسبة عادلة. والمسرح مفتوح دوماً لعكاريت السياسية والاقتصاد والمال والدين الذين ينجون من كل حرب، ويعودون الى أعمالهم بازدهار. لا التاريخ يعلمهم ولا التجارب ولا دماء الناس.
إعلان المحكمة الدولية إرجاء النطق بحكمها في قضية اغتيال رفيق الحريري الى 18 آب الجاري، بُرّر بما يجري في بيروت على ضوء انفجار المرفأ. لكنّ ثمة عقلاً استعراضياً يقف خلف القرار. عقل يقول إن موعد النطق بالحكم ليس مناسبة إدارية لمحكمة يفترض أنها محايدة، بل هو توقيت سياسي له مراميه البعيدة أيضاً. وإذا كانت كارثة أول من أمس قد تحولت الى الحدث الوحيد في لبنان، فإن أصحاب هذا العقل هم أنفسهم من يبثون اليوم شائعات عن أن التفجير كان مقصوداً للتغطية على النطق بالحكم. ولأن عقل هؤلاء يعمل بهذه الطريقة، قرروا الإرجاء، وكأنهم يقولون لنا علناً: نريده حدثا جللاً. وإذا ما حصل حدثٌ قد يُضعف الاحتفال بالحكم، فسنعمل على اختيار توقيت يعيد الى الاستعراض فرصته التي يفترض أن يكون دويّها أعلى من دويّ انفجار المرفأ.
عملياً، من كانوا ينتظرون موعد 7 آب لتحويله حدثاً قابلاً للاستثمار السياسي، أُجبروا على أخذ إجازة إجبارية لأيام. لكنهم قرروا استغلال الجريمة الرهيبة وشرعوا، مرة جديدة، في لعبة استجرار الدم بأي طريقة. هكذا، سمعنا كلاماً عن تحميل السلطة الحالية المسؤولية، ومطالبات بلجنة تحقيق دولية، ودعوة مجلس الامن الدولي الى التدخل… وسنسمع غداً من يدعو الرئيس الفرنسي الى القيام بما قام به جاك شيراك قبل 15 سنة. وغير ذلك، سنسمع الكثير الذي يعيدنا الى عام 2005.
مشكلة من يفكرون على هذا النحو أنهم يريدون تكرار التجربة من دون أن يرفّ لهم جفن. وهم يسعون الى تكرار ما فشلوا في تحقيقه من عدواني 2005 و 2006، معتقدين بأن الظروف مهيّئة لذلك، وسيكون جدول أعمالهم هو نفسه: نزع الشرعية الدولية (نفسها) عن السلطة في لبنان، والسعي الى جذب الجمهور صوب تحركات شعبية تقود الى استقالة السلطة أو إقالتها. والهدف، هنا، هو المجلس النيابي والسعي الى انتخابات مبكرة، وإيكال مهمة الإنقاذ الاقتصادي الى وصاية عربية وغربية تفرض شروطها التي تمتد من المطالب السياسية حيال المقاومة والعلاقة مع سوريا والشرق، وصولاً الى بناء نموذج اقتصادي قائم على فكرة تحويل اللبنانيين الى عاملين بالسخرة عند مجموعة نصّابين لم يتوقفوا عن سرقة كل شيء.
لكن إلى ماذا يستند هؤلاء؟
في هذه اللحظة، يسيطر على عقولهم هاجس الاستغلال الى أبعد الحدود. وعادة، تواكب هذه السياسات حسابات خاطئة لعناصر الأزمة ولوقائع الأرض. وبهذا المعنى، ينبغي لفت انتباه من يهمه الأمر، من قيادات هذه الجماعات والدول الراعية لها الى جمهورها المتحمّس، الى أن الأمور ليست على النحو الذي يفترضون:
– بالنسبة إلى الولايات المتحدة وأوروبا، فإن انفجار المرفأ سرّع في عملية الانهيار الاقتصادي والمالي الى أقصى ما يمكن أن يكون عليه الوضع في لبنان. فقد تسبّب الانفجار، عن قصد أو غير قصد، في حرق مراحل من عملية التهديم الممنهج لقدرات البلاد. وبالتالي، صار هؤلاء في حاجة إلى الإجابة عن السؤال الحقيقي: هل يبادرون الى احتواء الموقف، أم سيتفرجون على لبنان يذهب طواعية الى العنوان الأنسب للمساعدة؟ وسنسمع في الايام القليلة المقبلة الكثير من الكلام الغربي عن ضرورة توفير المساعدة العاجلة للبنان، ليس بهدف حماية بقيتنا، بل منعاً لوصول الشرق الذي سيكون أكثر حضوراً من المرات السابقة.
– الفرنسيون الذين خسروا لبنان يوم وقّع جاك شيراك ورقة مطالب جورج بوش في المنطقة، سيحاولون حجز مقعد إلزامي لهم في إدارة ملف لبنان. والزيارة «الإنسانية» للرئيس الفرنسي الى بيروت، اليوم، لن تفتح له الأبواب إذا كان مُصرّاً على اعتماد المقاربة الاميركية لمعالجة الازمة. فأمام فرنسا فرصة لاستعادة الدور، إذا قطع ماكرون مع إرث شيراك – بوش. أما إذا لم يفعل، وجرّب «التشاطر» كما فعل وزير خارجيته، فسيعود الى باريس مثقلاً بالهواجس التي تسبق الخيبات الكبرى.
– عرب أميركا الذين يعتقدون أنها الفرصة المناسبة لإجبار لبنان على تلقّي مساعدات مشروطة، سيرفعون من سقف توقعاتهم أيضاً، وسيطالبون أنصارهم ومرتزقتهم، هنا، برفع السقف عالياً لتحصيل تنازلات أساسية تقوم على تبديل واقع السلطة القائمة، وإعادة فريق 14 آذار الى الحكم، مصحوباً بعناوين تستهدف أولاً وأخيراً ضرب المقاومة في لبنان. وإذا كان هؤلاء يتّكلون على الأدوات نفسها التي عملوا عليها لعقد ونصف عقد، من دون جدوى، فستكون خسائرهم مضاعفة هذه المرة.
إذا لم يقطع ماكرون مع إرث شيراك – بوش فسيعود الى باريس مثقلاً بالهواجس التي تسبق الخيبات الكبرى
– إسرائيل، التي انتظرت عام 2005 انهيار الجدار الداخلي الذي يحمي المقاومة، وانتظرت حصد نتائج الغزو الأميركي للمنطقة وخروج القوات السورية من لبنان، ثم نفذت طلبات أميركية – توافق مصالحها – بشنّ حرب مدمرة على لبنان عام 2006، تفترض اليوم، وفق حسابات غير واقعية على الإطلاق، أن المقاومة تعاني الأمرّين في لبنان. ويبدو العدو – في سلوكه العسكري والأمني والدبلوماسي – وكأنه يقرأ خطأً في كتاب المقاومة. وربما يوجد بين قادته، السياسيين أو العسكريين أو الأمنيين، من يغامر في التفكير، وقد يذهب هؤلاء الى حد القيام بمغامرة على وقع الأزمة الداخلية في لبنان. هؤلاء الذين يراهنون على أن يؤدي انفجار المرفأ الى إلغاء حزب الله قرار الرد على جريمة سوريا، يفكرون مرة جديدة بطريقة خاطئة، لأنهم يعتقدون أن المقاومة في ورطة، وأنها تحتاج الى سلّم للنزول عن الشجرة. لكنهم سيدركون أن رد المقاومة واقع حتماً، وسيكون دموياً ضد قوات الاحتلال، وهدفه عقابي وردعي أيضاً. لكن ما يحاول العدو المكابرة في شأنه، اعتقاده بأن المقاومة لا تريد حرباً واسعة، وبالتالي هو يقرأ هذه الخلاصة على أنها إشارة ضعف، لكنها قراءة خاطئة بالمطلق. المقاومة التي لا تريد حرباً، لكنها لا تريد أيضاً نوعاً من المعارك بين الحروب، تنتج ما قد لا تنتجه حرب إسرائيلية شاملة. وبالتالي، فإن المقاومة التي أرست معادلة الردع خلال أربعة عقود، مستعدة حتى لخوض حرب تدفع فيها إسرائيل الأثمان غير المقدّرة أيضاً.
– في لبنان جبهة سياسية أصابها الهريان. كل القوى التي شكلت فريق 14 آذار، وحكمت البلاد منفردة منذ عام 2005، وبدعم العالم كله، لم تنجح في إصلاح مدرسة. حتى جريمة تخزين المواد التي انفجرت في المرفأ، هي من نتائج أعمالها وسياساتها ومن عيّنتهم في مواقع المسؤولية. وهي مسؤولة، أولاً وقبل أي أحد آخر، عن هذه الجريمة الموصوفة. وإذا كان قادة هذا الفريق يفكرون بطريقة معاكسة، وأن بمقدورهم رمي المسؤولية على حسان دياب لإصابة حزب الله، فهم يكررون الخطأ تلو الخطأ. حتى إن تقديرهم حيال تصرف حزب الله في الداخل ليس دقيقاً على الإطلاق. صحيح أن حزب الله لا ينوي التورط في مشاكل داخلية، وهو تجنّب كل الاستفزازات الداخلية والإقليمية خلال عشرين عاماً وأكثر، وهو سيستمر في هذه السياسة، إلا أن وقائع لبنان الداخلية لم تعد كما كانت عليه قبل 15 سنة. فلا هم في موقعهم الشعبي ولا نفوذهم هو ذاته، وهم يعرفون أيضاً أن غضب الناس على السلطات في لبنان إنما يصيبهم قبل غيرهم. أما اللجوء الى تسعير المناخات الطائفية والمذهبية، فالجواب على ذلك ربما سمعوه جميعاً من بيت الوسط.
في زمن الحسابات الخاطئة، يفترض بمن يجد نفسه معنياً بمنع محاولة إغراق لبنان في الدماء، أن يميّز بين الحقائق، وأن يقدّر جيداً الوقائع والأحجام والأوزان، وأن يتعرّف جيداً إلى قدرة الخارج على التدخل. لكنّ الأهم هو أن عليه أن يعرف أن لبنان تغيّر فعلاً، وأن ما يفكرون في أنه «لبنانهم» الذي خلقه الاستعمار على هذه الصورة قبل مئة عام، لم يعد له وجود سوى في أغنياتهم وأناشيد الأطلال، وكل صراخ أو كلام مرتفع أو غضب على طريقة خلافات أولاد الأحياء، لن يفيد في تعديل الصورة. ولا مجال مطلقاً لإعادة فرض الفيلم نفسه، لمرة خامسة على هذا الشعب المسكين… اتّقوا الله يا جماعة!
نيترات الأمونيوم لم تكن محجوزة في المرفأ؟ القضاء وافق على إعادة تصدير الشحنة المتفجرة عــام 2015!
وقعت جريمة مروِّعة قضى فيها 135 شخصاً، وجُرِحَ أكثر من ثلاثة آلاف شخص، وفُقِدَ العشرات، وفاقت الخسائر المادية عشرات مليارات الدولارات، وأُعلِنت بيروت مدينة منكوبة. لكنّ لبنان بسلطته السياسية وبقضائه وأجهزته الأمنية، لم يوقف شخصاً واحداً بعد على ذِمّة التحقيق. أُلّفت لجنة تحقيق، على أن يصدر تقرير مفصّل خلال خمسة أيام. فعلى من ستُلقى اللائمة؟
ورغم أن خيوط الحقيقة التي أوصلت إلى يوم الرابع من آب الدامي لم تتكشّف بعد، إلا أن الأجهزة الأمنية والقضائية والسلطة السياسية تتقاذف المسؤولية حيالها. وهنا يكون لزاماً السؤال كيف تتوزّع المسؤوليات وكيف تُقسّم المسؤولية بين أمنية وإدارية؟ في الصفّ الأول تقف هيئة إدارة المرفأ ومديرية الجمارك ومديرية المخابرات في المرتبة الثانية بعد القضاء الذي يرى كثيرون أنه كان عليه إصدار قرار فوري بتلف هذه المواد الخطيرة. وإن لم يُفضِ الأخذ والرد لسنوات بين المدير العام للجمارك بدري ضاهر (وسلفه شفيق مرعي) وقاضي الأمور المستعجلة جاد المعلوف إلى إلزام الوكيل البحري بإعادة تصدير شحنة نيترات الأمونيوم أو حتى إتلافها، يُصبح لزاماً على وزير المالية أن يرفع تقريراً إلى مجلس الوزراء لاتخاذ قرار عاجل، ولا سيما أنّ كشف مديرية العتاد في الجيش على عينات من هذه المواد عام 2015 بيّن أنّ تركيز الآزوت فيها تبلغ نسبته ٣٤.٧، أي إنها مواد تعدّ تدميرية شديدة الحساسية. وبالتالي، فإن السماح بإبقاء هذه المواد طوال سبع سنوات، كمن يحتفظ بقنبلة موقوتة في منزله، من دون أن يعرف متى ستنفجر، مع علمه بالضرر الناجم عنها.
السفينة المولدوفية التي أحضرت شحنة نيترات الأمونيوم إلى البحر اللبناني غرقت بعد ثلاث سنوات على احتجازها، ويرقد هيكلها اليوم في قاع بحر المرفأ الذي دُمِّرَ عن بكرة أبيه. يتكرر السؤال مجدداً: من يتحمّل مسؤولية ما حصل؟ هل تُعفي مراسلات المدير العام للجمارك السبع، مع قاضي الأمور المستعجلة، المدير من المسؤولية وتكفي لغسل يديه؟ سؤال يجيب عنه ضاهر في اتصال مع «الأخبار» بأنه قام بـ«أكثر من واجبي»، على اعتبار أنّه رغم وجود قرار قضائي، كرّر مراسلته للقاضي لمعرفته بمدى خطورة المواد، رامياً المسؤولية على عاتق هيئة إدارة المرفأ.
أعدّ جهاز أمن الدولة تقريراً في كانون الاول عام ٢٠١٩ تحدّث فيه عن وجود خطر حقيقي ناجم عن هذه المواد. رُفِعَ هذا التقرير إلى القضاء ورئاسة الحكومة ومديرية المخابرات ومديرية الجمارك، إلا أنّ المواد بقيت مكدّسة على حالها. كان من بين التوصيات طلب سد فجوة في العنبر الرقم ١٢ للحؤول دون سرقة نيترات الأمونيوم. وبالفعل، استناداً إلى تقرير أمن الدولة، وبناءً على إشارة القضاء، أبلغت إدارة المرفأ بالقيام بالصيانة. حضر حدادون لسد الفجوة وتلحيم الباب. بعد إنجازهم ما طُلِب منهم، اشتعل الحريق الذي استمر لنحو نصف ساعة، قبل أن يقع الانفجار الكبير. وهنا طامة أخرى، إذ كيف يُعقل أن يُطلب إلى حدادين القيام بأعمال الحدادة من دون إبلاغهم بحجم الخطر المحدق بهم والناجم عن عملهم؟ أصدر مدير عام استثمار مرفأ بيروت السابق حسن قريطم بياناً ذكر فيه أن تخزين حمولة السفينة تم بإشارة القضاء. غير أنّ ما برز لافتاً في بيان قريطم إشارته إلى أن عمل الحدادين كان منجزاً منذ الظهر، متحدّثاً عن إجراءات اتخذها أمن الدولة، «حيث طلب من إدارة المرفأ إصلاح فجوة في أحد الأبواب، فنفذنا، والعمل فيها كان منتهيا ومنجزاً منذ ظهر الثلاثاء». وأضاف: «أما ما حصل بعد الظهر، فلا أعرف ماذا جرى»، نافياً أن يكون في العنبر مفرقعات. لكن التحقيقات الأمنية تكذّب قريطم. بحسب مرجع قضائي، أنهى الحدادون عملهم قبيل الساعة الخامسة من بعد ظهر الـ4 من آب. وقرابة الساعة 5:40 دقيقة، شاهد عمال في المرفأ دخاناً يتصاعد من العنبر. بعد نحو 10 دقائق، وصلت فرق الإطفاء، لكن الحريق كان يستعر مع تقدّم الوقت، إلى أن وقع الانفجار الهائل عند الساعة 6:08 من بعد ظهر الثلاثاء في الـ4 من آب. وفيما لم يُقفل القضاء والأمن الباب أمام احتمال وجود عمل تخريبي، إلا أن المعنيين بالتحقيق يرجّحون أن تكون حرارة التلحيم قد أدت إلى الحريق الذي أدى إلى الانفجار، وأن النار بقيت «تعسّ» لنحو 50 دقيقة، قبل أن يلاحظ العمال تصاعد الدخان.
المعنيون بالتحقيق يرجّحون أن تكون حرارة التلحيم أدت إلى الحريق الذي أدى إلى الانفجار
غير أنه رغم كل ما تقدم، تحضر رواية مقابلة تنقل عن مصادر قضائية أن كمية نيترات الأمونيوم ليست مضبوطة بقرار من قاضي الأمور المستعجلة. وهذا يُذكر لأول مرة. وتضيف المصادر أن وزارة الاشغال طلبت تعويم السفينة (أي سحبها من الماء) خشية غرقها، كاشفة أن القرار القضائي الصادر قضى بالترخيص بتعويم الباخرة ونقل البضاعة منها وتخزينها في مكان مناسب تحدّده الإدارة، لكن لم يُقل أن البضاعة محجوزة أو مضبوطة. وتنقل أوساط مقرّبة من القاضي جاد المعلوف أنه رغم عدم ورود كتب إدارة الجمارك إليه أصولاً، إلا أنه كان يدوّنها ويرسلها إلى هيئة القضايا في وزارة العدل، التي لم تُجب سوى مرة واحدة بالموافقة على إعادة التصدير بتاريخ 20/7/2015، فقرر القاضي إبلاغ الوكيل البحري بجواز إعادة تصدير البضائع وتكليفه ببيان هوية مالكي الباخرة ومستأجريها وكيفية الاتصال بهم، علماً بأن المادة 13 من معاهدة هامبورغ تجيز إتلاف البضائع وليس فقط نقل ملكيتها في حال كانت خطرة، ومن دون دفع أي تعويض لمالكها.
وهنا يحضر رأي يقول إنه كان يجب على السلطة القضائية، وسنداً لأحكام الفقرة 2 من المادة 579 من قانون أصول المحاكمات المدنية، ومن دون طلب من أحد، اتخاذ القرار بإتلاف هذه المواد الخطرة سنداً لأحكام المادة 13 من اتفاقية هامبورغ، ومن دون الاكتراث لحقوق مالكيها، لأن هذه المادة لا تفرض تسديد ثمنها لهم أو بيعها وفرض الحراسة القضائية على ثمنها تماماً كما هو الأمر بالنسبة إلى البضائع القابلة للتلف، بدلاً من قضاء أربع سنوات في إجراء تبليغات وطلب مناقشة اختصاص القاضي ومناقشة السند القانوني لبيع البضائع أو إتلافها.
لم ينته التحقيق بعد. نُتف روايات متعددة تضيع الحقيقة وسطها. ويتقاذف المسؤولون المسؤولية بمبررات يسوقها كلّ طرف. ما يجري تداوله منذ ليل أول من أمس يوحي بأن البلاد مقبلة على نتيجة مفادها أن جريمة وقعت، لكن من دون مجرمين!
14 آذار بعد 4 آب: كأن رفيق الحريري اغتيل أول من أمس
لم يكفِ لبنان أنه فوقَ بركان مالي – اقتصادي، حتّى هزّه الاكتشاف الدموي أن العاصمة نائمة بين ألغام بقدرات «نووية»! زلزالٌ أمنيّ لم يتخيّله أحد بهذا الحجم، رُغم التجارب المرّة التي راكمتها المدينة. زلزال أصاب أيضاً المشهد السياسي برمّته، ويُنذِر بنقل البلاد إلى مرحلة جديدة من الاضطرابات، شبيهة بتلكَ التي تلَت اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
انتظرها البعض من لاهاي، حيث كانَت المحكمة الدولية الخاصة بلبنان ستُصدِر حُكمها في قضية الاغتيال في ٧ آب، ليكون هذا التاريخ هو العبور بالبلاد إلى ما هو أدهى، تصفيةً لحسابات سياسية مع حزب الله والعهد والحكومة، فأتت من المرفأ في ٤ آب، الذي وجد فيه أطراف سياسيون حبْلاً أقوى لاقتياد اللبنانيين إلى متاريسهم من جديد.
الفرق بينَ التاريخين، أن ٧ آب لم يوحّد ما يُسمى ١٤ آذار، إذ فضّلت قواه الأساسية (سعد الحريري ووليد جنبلاط وسمير جعجع) عدم الاستثمار في حكم المحكمة، بينما ضبطَت «مُتفرقات» ساعتها على توقيت لاهاي، وبدأ الإعداد للتصعيد.
ثمة من خرَج ليزايد على الحريري نفسه، كالرئيس فؤاد السنيورة الذي روّج في مجالسه وفي تصريحاته الإعلامية أن «المحكمة لا تخصّ آل الحريري وحدهم»، وكأنها توطئة لكلام من عيار ثقيل كانَ سيُطلق فيما لو قرّر الحريري اختيار لهجة هادئة تعليقاً على الحكم. ومثل السنيورة، بدأت شخصيات أخرى في ١٤ آذار الإعداد لمعركة ضد حكومة الرئيس حسان دياب، المطلوب منها، بحسب ما نُقل عن هؤلاء، «اتخاذ موقف من الحكم ضد حزب الله للعودة إلى الشرعية الدولية»، أو «سيُصار إلى عزل الحكومة إقليمياً ودولياً بالكامل، ولن تحصل على دولار واحِد من المساعدات». وبالتزامن، كانت المعلومات تتحدث عن مجموعات تابعة لبهاء الحريري وأشرف ريفي جاهزة للتحرك في الشارع وقطع الطرقات وزيادة الخطاب المذهبي.
أما ٤ آب فيُمكن القول إنه نقطة الانطلاق في اتجاه الاصطدام الكبير. تقاطعت المعلومات والخطابات تعليقاً على الحدث عندَ أن البلاد ذاهبة مجدداً إلى الانقسام العمودي بينَ فريقين. دفعة واحدة استعيدت الخنادق الأم منذ عام ٢٠٠٥، وارتسمَت ملامحها على أكثر من محوَر.
– أولاً، حملة تقودها وسائل إعلام تابعة للمحور الخليجي – الأميركي حاولت اللعب على التوترات الأهلية، وبثت تقارير عن ضربة إسرائيلية استهدفت سلاحاً لحزب الله في المرفأ، لتأليب الرأي العام عليه، على اعتبار أنه المُغامِر بحياة الناس.
– ثانياً، مُسارعة شخصيات في فريق ١٤ آذار إلى إحياء الخطاب الآذاري، بالمطالبة بإعلان لبنان دولة فاشلة ووضعه تحتَ الوصاية الدولية والإتيان بلجنة تحقيق دولية لكشف ملابسات الانفجار.
– ثالثاً، التصويب الفوري باتجاه العهد ورئيسي الجمهورية والحكومة وتحميلهما مسؤولية الانفجار، ومطالبتهما بالاستقالة.
– رابعاً، كلام الحريري من وسط بيروت، أثناء تفقده الأضرار. على عكس كلامه الهادئ عن المحكمة وطلبه التريث بانتظار صدور الحكم، عادَ مُسرعاً إلى مكانه الطبيعي في قافلة الآذاريين. استغلّ الحدث، مُحمّلاً «العهد الحاكم مسؤولية تداعيات الانفجار الهائل الذي وقع في المرفأ»، متجاهلاً أن المواد المتفجرة كانت موجودة أيضاً خلال حكومته.
انتظرها البعض من «لاهاي» فأتت من المرفأ
– خامساً، بمعزل عن عدم الثقة بالأجهزة الأمنية والقضائية وتحمّلها جزء من المسؤولية، بدأ الحديث عن تحقيقات ستتولاها جهات خارجية، وقد دعا الحريري إلى التعاون معها، على غرار ما حدث في ١٤ شباط ٢٠٠٥.
– استقالة النائب مروان حمادة، أحد أبرز رموز «النظام»، تلتها معلومات عن نية نواب آخرين الاستقالة، من بينهم نواب كتلة المستقبل، من دون أن تتأكد صحتها، وبقيت قيد التداول طيلة اليوم الماضي، مذكّرة بالاستقالات التي تقدم بها وزراء في حكومة الرئيس عمر كرامي فوراً بعد اغتيال الحريري.
جنبلاط فضّل انتظار التحقيقات، فيما تعقد القوات اللبنانية اجتماعاً لها اليوم لإعلان بيانها الرسمي. وبانتظار حسم الطرفين موقفيهما وتبيان شكل المعركة التي سيقودانها، إلى جانب الحريري، يبقى السؤال: ماذا بعد ٤ آب ٢٠٢٠؟ سؤال طُرح منذ خمسة عشر عاماً بعد اغتيال الحريري الأب، ويطرح اليوم بعد اغتيال واجهة بيروت ومعالمهما. فهل يتوسّع خطاب الحريري ليطال حزب الله، وينضم اليه كلّ من جنبلاط وجعجع؟ هل يكون الحريري تحت الضغط السعودي لتوظيف ما جرى في المرفأ ضد حزب الله، خاصة أنه كانَ تحت اختبار المحكمة، وهو ما نقلته أوساط سياسية بارزة عن أن «الحريري تحت المجهر السعودي، وأن سفيرها في لبنان يروّج لفكرة أن قرار المحكمة سيكون الاختبار الأخير للحريري؛ فإذا سارَ وفقَ ما تريده المملكة، فسيُفتَح ذلِك الباب أمامه من جديد إلى الرياض، أما في حال لم يركَب الموجة، فسيكون قد قطع آخر شعرة مع السعوديين، وتبدأ خطوة إطاحته على الساحة السنيّة من الداخِل والخارج».
إسرائيل تخشى أن تفتح المساعدات ثغرة في جدار العقوبات: تفجير بيروت حدث مؤسِّس
بعيداً من الأحكام المسبقة في اتجاه اتهام أو تبرئة أي عدو إقليمي أو دولي للبنان، وفي انتظار نتائج التحقيقات، شهدت وسائل التواصل وبعض وسائل الإعلام في لبنان، في الساعات الماضية، ضخ كثير من المعطيات والمواقف التي تحاول أن توحي بأن إسرائيل اعترفت، صراحة أو ضمناً، بأنها تقف وراء انفجار المرفأ. ولإضفاء قدر من الموضوعية على هذه التقارير، ادّعى البعض أنها قد سُحبت لاحقاً. لكن الواقع أن كل ما ذُكر في هذا السياق لا أساس له من الصحة، إذ لم ينشر أي موقع إعلامي إسرائيلي اعترافاً أو مؤشرات على مسؤولية العدو عن الانفجار. كذلك لم يسبق لرئيس حكومة العدو بنيامين نتنياهو أن حدَّد المرفأ – كما رُوّج في وسائل التواصل – كأحد الأماكن التي ادّعى أن حزب الله يخبّئ صواريخه فيها، في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول 2018، بل حدَّد في حينه ثلاث نقاط في الضاحية الجنوبية وبالقرب من المطار.
مع ذلك، فرض حجم الانفجار نفسه في تقارير المعلقين الإسرائيليين باعتباره حدثاً مفصلياً مفتوحاً على مروحة سيناريوات، سيكون لبعضها أثره على معادلات الصراع مع إسرائيل. ففي العادة، يقارب العدو هذا النوع من الأحداث من زاوية انعكاساتها على أولوياته في الساحة اللبنانية. ومع أنه لم يجر حتى الآن تناول انفجار المرفأ، على المستوى الرسمي، إلا من زاوية توظيفه سياسياً عبر الإعلان عن الاستعداد لتقديم مساعدات، فإن الواضح أن العدو سيراقب مدى نجاح المعسكر الغربي في توظيف هذا الحدث، على أن يبني على الشيء مقتضاه.
والواضح، أيضاً، أن التقدير الأكثر حضوراً لدى المعلقين هو أن ما جرى في لبنان قد تكون له تبعات في أكثر من اتجاه، وإن كان من المبكر ترجيح أي منها. المراسل العسكري في «القناة الـ 12»، نير دفوري، أشار الى أن الأجهزة الأمنية في إسرائيل سارعت الى توضيح أن لا صلة لها بالانفجار ، وإلى أنه في هذه المرحلة هناك سيناريوان محتملان يصعب تقدير أيهما سيتحقق. الأول أن الكارثة الهائلة لن تسمح لحزب الله بتنفيذ تهديده بالانتقام من إسرائيل، والثاني أن تؤدي هذه الكارثة الى تقويض الاستقرار في لبنان، وأن يوجه حزب الله ذلك باتجاه إسرائيل. وبالمقارنة مع الصور التي نشرها نتنياهو من على منبر الأمم المتحدة، أوضح دفوري أن هناك مسافة تفصل بين المرفأ ومناطق قريبة من المطار زعم نتنياهو أنها تحتوي مخازن صواريخ.
على المستوى الاستراتيجي، وصف المحلل العسكري في صحيفة «يسرائيل هيوم»، يوءاف ليمور، الانفجار بأنه «حدث يقلب الواقع… واتضاح تبعاته الكاملة ما زال بعيداً». ولفت الى أن «تجارب الماضي تدل على أن إسرائيل حذرة جداً في اختيار أهدافها، وحذرة أكثر في جهودها من أجل ضمان ألا يُحدث ضرراً مرافقاً لهجماتها». وفسّر ليمور أن هذا الحذر يعود أيضاً الى إدراك إسرائيل أن «حدثاً كهذا قد يفتح دائرة دماء وانتقام، تصل إلى درجة الحرب… ورغم أن الأخطاء قد تحدث، لكنّ حدثاً بهذا الحجم، مع آلاف المصابين وأضرار هائلة، خارج سلة العمليات التي تنفذها إسرائيل في العلن والسر». ولكن، رغم ذلك، فإن «الجيش الإسرائيلي يتابع باهتمام التقارير الصادرة في بيروت، لكنه لا يخفض مستوى الاستنفار عند الحدود».
هلع في حيفا ومطالبة بنقل الأمونيا الى مناطق غير مأهولة
وفي سياق متصل، لفت المعلق العسكري في موقع «يديعوت أحرونوت»، رون بن يشاي، الى أن المرفأ لا يضمّ منشآت من تلك التي تستهدفها إسرائيل. وفيما توقع أن يؤدي الانفجار الى موجات هجرة من لبنان وداخله، قدَّر، في ما يشبه «التحذير» الضمني، أن تؤدي «الكارثة الى تحسن الوضع الاقتصادي في لبنان بعد أن تعهد صندوق النقد الدولي ودول أجنبية، على رأسها فرنسا، بمساعدات كانوا قد امتنعوا عن تقديمها حتى الآن بسبب العقوبات الأميركية». ولذلك، لم يستبعد أن يضطر الأميركيون الى رفع معارضتهم «لمساعدات كهذه بعد الكارثة. وإذا حدث هذا الأمر، وعلى الأرجح أنه سيحدث، فإنه سينقذ لبنان من حالة الإفلاس الاقتصادي ويسمح له بالحصول على بعض العملة الأجنبية لتمويل الاستيراد وأمور أخرى».
من جهة أخرى، أثار التفجير الذي شهده مرفأ بيروت هلعاً في حيفا من سيناريو مشابه بسبب وجود مصانع للكيماويات ومصفاة للنفط وحاوية عملاقة للأمونيا في مرفئها. ونبّهت رئيسة بلدية حيفا، عينات كليش – روتيم، الى أن «مشهد القتل والدمار الذي شهدته بيروت، ينبغي أن يمثل أمام أعيننا يومياً، وهو ما يمكن أن يحدث في حيفا. وطلبت من رئيس لجنة الداخلية وحماية البيئة في الكنيست، ميكي حايموفيتش، الدعوة إلى «مداولات إثر ما شاهدناه في لبنان»، وإلى «الضغط بقوة من أجل أكبر خطة إغلاق صناعة البتروكيماويات في قلب خليج حيفا، وفي قلب هذه المنطقة المأهولة بالسكان». كما بدأت وزيرة حماية البيئة الإسرائيلية، غيلا غمليئيل، العمل على إقرار خطة تهدف الى إخلاء المصانع الكيماوية وتلك التي تتعامل بالمواد الخطرة في خليج حيفا، ونقلها الى مناطق غير مأهولة.
«عدوان آب 2020»: الجنوب يغيث بيروت
بعد 14 عاماً على عدوان تموز، انقلب المشهد بين بيروت والجنوب. «عدوان آب 2020» المتمثل في انفجار مرفأ بيروت تسبّب في ثوانٍ بما تسبّب فيه العدوان الإسرائيلي حينذاك في ثلاثة وثلاثين يوماً في أحياء وقرى ومدن جنوبية. صحيح أن الترددات المادية لزلزال «بيروت» اقتصرت على دويّ سُمعت أصداؤه في صيدا والنبطية والزهراني حتى حدود صور، لكنه غار في جرح الجنوبيين المفتوح عميقاً ليحيي، بعد 14 سنة، مشهد تشييع الشهداء بعد انتهاء العدوان في 14 آب.
لم تكن علاقة الجنوبيين بمرفأ بيروت طيبة ومتكافئة يوماً. لطالما ارتبط «البور»، كما يُعرف جنوباً، بزمن القهر والتهميش حينما اضطر بعض أهل القرى إلى النزول إلى العاصمة والبحث عن القوت المتعذّر في أرضهم. المهنة التي مرّ عليها كثيرون من جيل ما بعد الاستقلال كانت حمل البضائع. حالياً، لم يعد أحد منهم يعمل في «العتالة»، لكنّ مصيرهم في هذا البلد لم يختلف، مهما اختلفت أحوالهم. الشهيد محمد علي عباس (46 عاماً) من السكسكية، ورث مهنة والده في «البور». كان ضمن فريق الحرس والإطفاء، وكان يتنقل بشكل شبه يومي بين مركز عمله ومنزله في مسقط رأسه على بعد نحو ساعة ونصف. بسبب المرفأ، عاش عباس في ظروف متواضعة، وهكذا نشأ أطفاله الثلاثة (أكبرهم عمره 12 عاماً). بين بحر السكسكية حيث يقع منزله وبحر المرفأ حيث عمله، تنقّل عباس عشرين عاماً حتى قضى نحبه. أحد أقربائه يختصر ما حصل بـ«مصيبة». يئن على حال يتامى عباس، ويلعن «البور» وساعة «البور».
حتى ليل أمس، كان عدد شهداء الجنوب في انفجار المرفأ قد رسا على تسعة في مقابل عشرات الجرحى وعدد من المفقودين. الصوانة والسكسكية وحاروف والنميرية وصربا وروم والمطرية، تسلّمت جثامين أبنائها الذين حُسم مصيرهم بين الشهداء. بالنسبة إليها، تلك مصيبة أهون من فاجعة برج رحال التي كانت حتى ليل أمس لا تعرف مصير ابنها عماد زهر الدين. «الموت أهون من فقد الأثر»، قالها عدد من أهالي الشهداء الذين شيّعوا أبناءهم أمس. ساعات قليلة العدد وطويلة الأثر، عاشوها وهم يبحثون عنهم في المستشفيات وتحت الأنقاض. الملازم أول في الجيش أيمن نور الدين من النميرية، الذي يخدم داخل المرفأ، ونيكول الحلو من صربا، التي تعمل في فرع أحد المصارف في الجميزة، والمفتش أول ممتاز في الأمن العام جو حداد من روم، الذي يخدم داخل المرفأ، والمهندس إياد الأمين من الصوانة، والموظف في المرفأ حسن المانع من المطرية، وزميله محمد علي عباس والمهندس علي أيوب من حاروف، الذي قضى وهو يتناول الغداء في أحد مطاعم الجميزة مع زوجته ملاك بظاظا التي توفيت لاحقاً متأثرة بإصابتها، تاركَين خلفهما طفلين.
نكبة عائلة الشهيد محمد أحمد عباس من السكسكية مزدوجة. ابنهم الذي وصل قبل أسبوع من غامبيا الأفريقية محمولاً بسبب إصابته بكورونا، نقل الى مستشفى الروم في بيروت، فيما انتقلت زوجته وطفلاه (يبلغان ٦ سنوات وسنة واحدة) الى تبنين للخضوع للحجر المنزلي. لم تتمكن عائلته الصغيرة والكبيرة من مرافقته في الأيام الماضية حيث كان يخضع للعلاج. لكن انفجار المرفأ الذي ضرب المستشفى أدى الى قطع الكهرباء عن جهاز التنفس المتّصل به. ساءت حالته لدى محاولة نقله الى مستشفى آخر، لكن محاولات إسعافه لم تنجح. صباح أمس، وبعيداً عن أهله أيضاً، دفن في بلدته.
تسعة شهداء من الجنوب في انفجار المرفأ، وعشرات الجرحى وعدد من المفقودين
النائب علي خريس ابن برج رحال قصد المرفأ للاطلاع على أعمال البحث عن زهر الدين وزملائه، بمشاركة فرق الإسعاف من الدفاع المدني في اتحادات بلديات الجنوب، الذين تحركوا منذ ليل الثلاثاء للمشاركة في أعمال الإغاثة.
خطط رسمية ومبادرات فردية تزاحمت جنوباً للمؤازرة في إغاثة منكوبي بيروت. وحدة إدارة الكوارث في اتحاد بلديات صور خصّصت ثلاثة مراكز إيواء لمن يرغب من العائلات التي فقدت منازلها ووضعت في خدمة فرق الإغاثة سيارة إنقاذ حديثة مجهزة للبحث تحت الأنقاض ليلاً. في الإطار نفسه، وضعت خلية الأزمة والتكافل الاجتماعي في بلدية النبطية إمكانياتها بتصرف اتحاد بلديات الضاحية، ووضعت برنامجاً لاستقبال العائلات النازحة من بيروت، وفتحت باب التبرع لدعم بيروت. لم تنتظر صيدا نزوح المنكوبين، بل زحفت إليهم عبر المطبخ الشعبي في مستوصف الشهيد رشيد بروم الذي وزّع وجبات ساخنة على المتضررين في الكرنتينا والنبعة. كذلك، شارك فوج الإنقاذ الشعبي في مؤسسة معروف سعد في عمليات الإنقاذ.
وكان عدد من مستشفيات صيدا والنبطية والزهراني وصور قد استقبل عشرات الجرحى ليل الثلاثاء، عقب ازدحام مستشفيات بيروت.
بغداد تواسي بيروت: شحنات من المازوت والقمح
بعد ساعاتٍ على انفجار مرفأ بيروت المهول، وجّه رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي فريقه للوقوف إلى جانب الحكومة اللبنانيّة ورئيسها حسّان دياب، في مواجهة الكارثة التي ألمّت بلبنان واللبنانيين. وفي الساعات القليلة المقبلة، تدخل الأراضي اللبنانيّة – آتيةً من العراق مروراً بالأراضي السوريّة – قافلةً مؤلّفةً من 22 صهريجاً ضخماً، محمّلة بالمازوت، في مساعدةٍ هي «الأولى»، بحسب مسؤولٍ حكوميٍّ عراقيٍّ رفيع. الجهات الرسميّة والدينيّة والسياسيّة والشعبيّة العراقية أعربت عن تضامنها الكامل مع لبنان، مسخّرةً كل إمكاناتها في خدمة الشعب اللبناني وحكومته. الموقف العراقي، بتعبير أكثر من مصدرٍ سياسيٍّ لبنانيٍّ، كان «متقدّماً جدّاً». حركة الاتصالات بين بغداد وبيروت، خلال اليومين الماضيين، كانت «سريعة الترجمة»، كما قال هؤلاء.
مساء أمس، استقبل دياب – في السراي الحكومي – وفداً عراقيّاً برئاسة وزير النفط إحسان عبد الجبّار، الذي أطلعه على التقديمات الطبيّة العراقيّة التي وصلت إلى بيروت، والتقديمات النفطيّة التي انطلقت من بغداد. عبد الجبّار أشار إلى أن «المساعدات بلغت 20 طنّاً من المواد الطبيّة والصحيّة»، مؤكّداً «التزام الحكومة العراقيّة بالوقوف إلى جانب لبنان في هذه المحنة». وأضاف، أن الكاظمي وعد الحكومة اللبنانية بـ«توفير الوقود، على أن يبقى الكادر الطبّي في بيروت حتى يأذن له الجانب اللبناني بالعودة».
وفي هذا السياق، أثمرت «الاتصالات» المكثّفة التي أجراها المدير العام للأمن العام عباس إبراهيم، مع الكاظمي، وعداً بمدّ لبنان بـ100 ألف برميل من المازوت شهرياً (نحو 20 مليون ليتر)، عن طريق سوريا. مصادر عراقية قالت إن الشحنات العراقية ستكون مجانية لمدة 3 أشهر، على أن يتفق الجانبان في الأسابيع القليلة المقبلة على آلية تسديدٍ «ميسّرة»، تأخذ في الاعتبار حاجة لبنان إلى العملة الصعبة ووضعه الاقتصادي، فيما أشارت مصادر لبنانية إلى أن الجانبين لم يدخلا في تفاصيل ثمن الشحنات. هنا، يبرز الحراك العراقي – مطلع شهر تموز الماضي، عندما زار عبد الجبّار ووزير الزراعة محمد كريم الخفاجي بيروت، لإنضاج «تفاهمٍ» يقضي بمدّ لبنان بنفط عراقيّ مقابل خدماتٍ استشفائيّة وصادراتٍ زراعيّة. طوال الفترة الماضية، حالت عقبات عديدة دون الوصول إلى صيغةٍ نهائيّةٍ للتفاهم المرتقب، منها التعقيدات السياسيّة الداخليّة (في العراق ولبنان)، والإقليميّة والدوليّة («الفيتو» الأميركي)، عدا عن التعقيدات البروتوكوليّة والتقنيّة – اللوجستيّة. لكنّ انفجار المرفأ سرّع من وتيرة التخطيط والتنفيذ.
سيرسل العراق شهرياً 20 مليون ليتر من المازوت إلى لبنان
في بغداد، مناخٌ يوحي بالتفاؤل في الشقّ المتعلّق بتطوير العلاقة مع بيروت. بعض المسؤولين يؤكدون أن «نقلةً نوعيّة» ستشهدها العلاقات الثنائيّة، خاصّةً أن الجانب العراقي «لن يقف شاهداً على الأزمة الاقتصاديّة اللبنانيّة»، فـ«المساعدات ستشمل أيضاً القمح وأنواعاً أخرى من الحبوب». وتضيف المصادر، لـ «الأخبار»، أن السفارة العراقيّة في بيروت كثّفت حركة اتصالاتها مع الدوائر الحكوميّة اللبنانيّة لمعرفة حاجاتها الأساسيّة، ورفعت «قائمةً» بها إلى المعنيين في بغداد.
في الساعات المقبلة ستصل المساعدة العراقيّة الثانية، والتي ستسهم «نوعاً ما» في تأمين جزء من حاجة لبنان للمحروقات المستخدمة في معامل إنتاج الطاقة الكهربائية. المعلومات تشير إلى أن بغداد أرادت أن تكون القافلة محمّلة بـ«النفط الخام» و«الغاز أويل»، لكنّها عادت واستبدلتها جميعها بالمازوت، بناءً على طلب الجانب اللبناني، وستتسلّمها وزارة الطاقة. الجانب العراقي، وفق المعلومات، حريصٌ على تأمين «ما يُمكن وما هو متاح» من حاجة لبنان للقمح بشكلٍ رئيس، خاصّةً أن انفجار المرفأ أصاب – بشكلٍ كبير – إهراءات القمح.
وبالتوازي مع الموقف الرسمي، كانت لافتةً جدّاً خطوة «المرجعية الدينية العليا» (آية الله علي السيستاني)، مع إعلان ممثله في كربلاء أحمد الصافي عن استعداده لمعالجة من يريد في مستشفيات الكفيل، في مدينة كربلاء، وعلى نفقة «العتبة العبّاسية». البارز أيضاً، الحراك الشعبي العراقي على هذا الصعيد، وتواصل فعالياتٍ عديدة مع أطرافٍ لبنانيّين (منهم حزب الله)، وإعرابها عن تقديم «كل ما يحتاج إليه لبنان لعبور هذه المرحلة».