عندما تكون حرا شامخا في عالم تراه انت انسانيا ، فإنك عنصر فاعل في خلق التفاعلات الإيجابية بين ثنايا هذه الإنسانية.
وعندما تكون عالما في مجالات العلوم المختلفة والفيزياء والكيمياء، البيولوجي أو الجيولوجي، فإن آلافاق الواقعية التي يتحرك بها الكيان الانساني تكون في متناول يدك بحكم التمكن من القوانين الهندسية التي تقوم عليها هذه العلوم .
وخاصة إذا كنت خارجا من منظومة التفاعلات الإيجابية .
اما اذا كنت مصلحا تناط بك مهمة خلق وهندسة العلاقات بين الكيان البشري وما يحيط به من نظم اجتماعية واقتصادية ودينية ، وقد تكون هذه الهندسة تأخذ أطر المصلح الاجتماعي أو الإنتاج الثقافي ، أو التمويل المالي أو الاقتصادي ، وغيرها العديد من الوظائف التي تدخل تحت هذا العنوان .
لكن ماذا لو كان العكس ، فكيف سيكون الحال اذا كانت كل تلك العوامل تتحرك ضمن منظومة (اقتصادية -تسليحية -ايديولوجية) تولد التناقضات الأيديولوجية لخلق ثقافة الفعل ورد الفعل بمفهومها الاجتماعي ليكون الإنسان هو أداة التجربة التي يتم التحكم بها .
فما بالك حجم تبعات وكم الويلات التي ستعاني منها الإنسانية؟
تونس هذا البلد العربي الصغير ذو تاريخ عربي أصيل ، نزلت بين ربوعها الخضراء هذه الأيام.
أمة مناضلة وشعب كادح ،تجولت في ازقتها التاريخية القديمة ، التي تحمل نمطا هندسيا معماريا يحاكي العصور التي دقت ابواب تونس . فكان اروع ما فيها البناء الهندسي للمساجد ، وكأنه قدر لتونس ان تتعلق بأصالتها من خلال صرح المسجد ومدرسة الزيتونة في ثورة العلمانية على أرضها التي أدخلت تونس في عولمة التحضر الاستهلاكي.
منذ خمسينيات القرن الماضي ، برئاسة بو رقيبة إلى حركة انقلابية من داخل النظام الحاكم نفسه بقيادة زين العابدين بن علي الذي قاد تونس حتى ٢٠١١.
كانت تونس خلال فترة هذين النظامين تمر بمرحلة احتكاك ثقافي في ظل مؤسسة علمانية ،دفاعية ،وجهت عدائها لرمزية الإسلام لدى أبناء تونس ، ولا تحد هذه المؤسسة حدود تقف عندها فتشعبت وتوغلت داخل النظام الاجتماعي التونسي .
نمى مشروع الدولة الوظيفية لصالح منظومة العولمة هذه المؤسسة من خلال :
١- المؤسسة السياسية واجنداتها الاقتصادية .
٢-المؤسسات الثقافية ومنظمات المجتمع المدني .
وربط هذه المؤسسات بالنيوليبرالية الاجتماعية لتكون منافسا للدين.
رغم كل تلك العقود التي مرت على تونس وهي ترزح تحت ظل هذه الوظيفة لم تستطع كل هذه العقود على إيجاد الحلول لمشكلات المجتمع ، فلم يستطع رأس المال بحركته في مجالات السياسة والاقتصاد والتنمية من ملأ فراغ الانتماء الحضاري للإنسان المسلم ، فكان من نتائج حركة العولمة بمنظورها العلماني الديمقراطي ان خلفت انحدارات وانكسارات في تونس تمخض عنه طبقات كادحة ومرهقة ، لم يكن لهم مجالا من قشور التحضر لترتفع على إثرها صرخة محمد البوعزيزي مثال الإنسانية معذبة تنزلق يوميا من صرح النظام العالمي الجديد .
أعلن البوعزيزي الثورة ضد فقر عولمة الليبرالية أخلاقيا.
فاعلنت الإمبريالية الثورة ايضا ضد غضب الجياع . وبين ثورة الجياع واهدافها وثورة التخمة واجنداتها تولد الفوضى وكم هائل من التكتلات الحزبية التي تقسم البشر والحجر ، لكن في ظل قانون العولمة .
فتولد التناقض في المجتمع التونسي ضمن واجهات تعمل ضمن ماكنة تبتلع شباب تونس وتضخهم كوقود وجنود للدولة الإسلامية فتوجههم نحو معقل القومية العربية كطفل عابث يقطع جذوره .
(بين مصر وليبيا من جهة وبين الجزائر والمغرب من جهة اخرى) كانت تونس الحلقة الأضعف في الحفاظ على بيضة التطرف الإسلامي الذي مد الدولة الإسلامية أكثر من غيرة .
لماذا كانت تونس سباقة إلى ذلك ؟
هل التطرف العلماني في العصور السابقة كانت هي السبب؟
هل هو يعود إلى الدولة الوظيفية في النظام العالمي الجديد ، كما انيط بها سابقا احتضان منظمة التحرير الفلسطينية بعيدا عن حدود الكيان الصهيوني .
هل كانت تونس البرنامج ، كل تونس ،بأمنها وحكمها ومؤسساتها وأبنائها، حطبا للتطرف الإسلامي سواء في تونس أو في العراق والشام .
كل تلك التساؤلات كانت تجول في خاطري وانا اتجول في مساجد تونس ، التي تعاني إلى اليوم من خطاب ديني لا يرتقي ومستوى الوعي الذي وصل له الشارع التونسي ، حيث وجد بعض الدعاة والمنبريين اسميتهم شخصيا “بالخلايا النائمة” في مساجد سوسة وتحديدا في الجامع الكبير وعادة عندما اكون في تونس احرص على الصلاة في هذا الجامع الأثري من الطراز المعماري الإسلامي العريق ، والباحة الكبيرة المدعمة بدعامات كبيرة تحمل أقواس من الحجر الصلد. وبعد مرور ساعة على الأذان تسلق الشيخ الدكتور هشام قريسة، دخل هذا الشيخ الفاضل إلى مواضيع هي في حقيقتها تعمل على خلق البناء الفكري المجادل العقيم ، مستخدما أسلوب التسطيح العقلي في تحليل الأمور، الفراغ محتوى التاريخ الإسلامي من محتواه من حيث التأكيد على نقاط الخلاف بين المسلمين ،ليدلوا في نهاية خطبته بالموضوع الذي يريد تصديره لعقول الناس فقال على سبيل المثال في خطبته المؤطرة بالنفس الطائفي التالي:( السنة يقولون بأن اول من دخل الإسلام هو ابو بكر وهو أفضل من علي والشيعة يقولون علي هو هو الأول والأفضل بالخلافة وانا اقول ان اول من دخل الإسلام العارف ورقة بن نوفل عندما بشر الرسول الكريم بالنبوة بعد ما زاره مع السيدة خديجة بنت خويلد على أثر هبوط الوحي على رسول الله المرة الأولى وقد أسلم ورقة وكان الأول بدخول الإسلام من ابو بكر وعلي والشخص الثاني هو خديجة ) انتهى كلام الشيخ .
كنت اظن ان ما مر على تونس و خاصة بعد تجربة حكم الإسلام السياسي بنسخة الإخوان المسلمين.
وكيف تعرضت تونس إلى انقسامات داخلية تم على إثرها إعلان ولاية القيروان من دائرة الدولة الإسلامية (داعش) ألتي أعلنت عنها لاحقا في العراق وسوريا على سبيل المثال. لماذا يتشبث هولاء بهكذا خطاب سالت بسببه دماء غزيرة.
في ظل البناء الفكري الذي خلفته العلمانية والبناء الفكري الذي خلفه التطرف السلفي الإخواني ستجد هذه الأصوات الفرصة لتملا فراغا تمارس دورها في تسطيح عقل العامة وبعدهم عن فهم “مذهب آل البيت” ولو كان من ضرورات هذا الدور التنازل عن ابو بكر فليكن فأشار بأولوية ورقة بن نوفل !!!
شعب تونس بوعيه وما مر عليه توصل إلى عقم كلا المنظومتين المتطرفة وماكنتهما الدموية ،فمن المؤكد هو في بحث مستمر عن طريق الخلاص نحو مستقبل لأجيال تونس تكون في ظلهم تونس حرة قوية أبية .
الدكتور عامر الربيعي رئيس مركز الدراسات والبحوث الإستراتيجية العربية الاوربية في باريس
