كتب الأمير تركي الفيصل، رئيس الاستخبارات العامة السعودية سابقاً والسفير السعودي السابق في لندن وواشنطن، رسالة في 7 تموز/ يوليو 2014، موجّهة إلى “مؤتمر إسرائيل للسلام” في تل أبيب، جاء فيها: “تخيّلوا أني أستطيع ركوب الطائرة من الرياض وأطير مباشرة إلى القدس.. يا لها من لذة ألّا أدعو الفلسطينيين فقط، بل الإسرائيليين الذين سألقاهم أيضاً، ليأتوا لزيارتي في الرياض، حيث يستطيعون التجوّل في بيت آبائي في الدرعية التي تشبه معاناتها التي نالتها من قهر إبراهيم باشا معاناة القدس على يد نبوخذ نصر والرومان”.
لم تكن تلك من تنبّؤات نوستراداموس، بل هو قرار مضمر منذ عقود، وضعه بن غوريون، أحد مؤسّسي الكيان، نصب أهدافه قائلاً: “إن المصالحة التاريخية بين اليهود والعرب لن تتمّ إلا على يد آل سعود”. في المقابل، آمن الملوك السعوديون بأن شرط وجود كيانهم واستقراره ليس في تعزيز ثقة الشعب، وإنما في بناء تحالف مع الدولة العبرية برعاية أميركية.
زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، لجدّة، ومدينة “نيوم” السياحية على وجه التحديد، يوم الأحد الماضي، ولقاؤه ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، سوف تبقى شأناً إعلامياً إسرائيلياً لبعض الوقت، قبل أن تتلقّفه وسائل الإعلام الغربية والأميركية، مع تمنّع سعودي خجول قبل أن يصبح واقعاً، ويتولّى الإعلام السعودي نفسه الدفاع عنه والتطبيل له. وهكذا هي قصة التطبيع السعودي ــــ الإسرائيلي، يبدأ بتسريب خبر في الإعلام العبري، ثمّ يكتسب صدقية بنسبة الخبر إلى مسؤول إسرائيلي يكشف عن هويته لاحقاً، ثم ينتشر فيصبح واقعاً لا يقاوَم.
ما يلفت في خبر الزيارة ليس أصل حصولها، بل ردّ الفعل عليها؛ إذ إنها كانت واردة على الدوام، في ظلّ التسريبات المتلاحقة منذ شهور حول قرب توقيع “اتفاقية سلام” بين الرياض وتل أبيب، والمصمّمة لغرض تأهيل الأجواء لبلوغ التطبيع حيّز الإعلان. السؤال هنا: هل الهرولة السعودية نحو التطبيع تأتي وفق حسابات محلية، كما هي الحال بالنسبة إلى نتنياهو المأزوم داخلياً، أم هي مؤسَّسة على حسابات وطنية وقومية ودينية؟ الجواب كلا، ببساطة لأن شعب الجزيرة العربية في غالبيته الساحقة لا يتمنى اليوم الذي تطأ فيه أقدام الصهاينة جزيرة العرب.
اضطلاع الرياض بدور الموجّه الخفيّ لمسيرة التطبيع في صيغتها الأخيرة، كما ظهرت في تدشين علاقات طبيعية بين الكيان الإسرائيلي وكلّ من الإمارات والبحرين والسودان، ليس منفصلاً عن أدوار سابقة طبعت مسيرة تطبيع تعود إلى عام 1981، حين تَقدّم وليّ العهد حينذاك، فهد بن عبد العزيز، الملك لاحقاً، بأوّل “مبادرة سلام” تتضمّن، من بين بنودها الثمانية، اعترافاً جماعياً بالكيان الإسرائيلي. أريد للمبادرة حينذاك أن تكون “مشروعاً عربياً”، كما أراده فهد في قمّة فاس، ولكن اعتراض عدد من الأنظمة العربية إلى جانب قيادة “منظمة التحرير الفلسطينية”، أفضى إلى سحب المشروع من التداول، وأسبغ عليه صفة “المشروع السعودي”.
نحن أمام معادلة جديدة ربح فيها الإسرائيلي المعركة، وأَخرج السعودية من سوق المزيدات
أثارت المبادرة السعودية أسئلة مشروعة عن الدوافع والغايات، بالنظر إلى قرب عهد العرب بصدمة توقيع الرئيس المصري الأسبق، أنور السادات، اتفاقية سلام مع الكيان الإسرائيلي. كانت الإجابة تَتطلّب قراءة مختلفة لسياق الوقائع الإقليمية والدولية. إذ إن المنطقة كانت تشهد حينذاك تحوّلاً كونياً على وقع الثورة الإسلامية الإيرانية وتداعياتها داخلياً (انتفاضة الحرم بقيادة جهيمان العتيبي في تشرين الثاني/ نوفمبر 1979، وانتفاضة المحرّم في المنطقة الشرقية في كانون الأول/ ديسمبر من العام نفسه)، وخليجياً (انتفاضة شعبية في البحرين في كانون الأول/ ديسمبر 1979، وتالياً محاولة قلب نظام الحكم في 1981)، إلى جانب التداعيات العربية والدولية. أدركت السعودية، في وقت مبكر، أن سقوط أحد العمودين المتساندين، أي إيران، يتطلّب إجراءً عاجلاً للحيلولة دون سقوط العمود الآخر. كما أدركت الرياض، حينذاك، أن الوصول إلى قلب البيت الأبيض يمرّ عبر تل أبيب، وهذا ما ظهر جليّاً في كلّ الأزمات التي واجهت الرياض على مدى أربعة عقود. في آذار/ مارس 2002، تقدّم ولي العهد، عبد الله بن عبد العزيز، الملك لاحقاً، بـ”مبادرة سلام” أخرى معدّلة، تضمن حق الكيان الإسرائيلي في الوجود، ولا تتمسّك بحق العودة كثابت غير قابل للنقاش.
كانت السعودية في أسوأ حالاتها، ولأول مرة يتمّ تصنيفها بـ”بؤرة الشر” من قِبَل الحليف الأميركي، على خلفية اتهامات لها بالضلوع في هجمات الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر. مَثّلت المبادرة السعودية، التي أُعلن عنها في “قمة بيروت” محاولة لفكّ العزلة الدولية وتلميع صورة النظام السعودي، بصفته الراعي الرسمي لأيديولوجية الكراهية العابرة للقارات. لم تحظ المبادرة بتوافق رسمي عربي، على الرغم من الجهود الكثيفة التي بذلتها الرياض لسنوات طويلة، وتخلّلتها نشاطات تطبيعية، من بينها لقاءات الأمير تركي الفيصل، وعادل الجبير، السفير السعودي ووزير الخارجية سابقاً ووزير الدولة للشؤون الخارجية حالياً، مع مسؤولين إسرائيليين مثل تسيبي ليفني، وزيرة خارجية الكيان سابقاً، ورئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق إيهود باراك في تموز/ يوليو 2013 وآخرين، إضافة إلى مشاركات مكثّفة في ندوات أمنية وسياسية برعاية إسرائيلية، ولقاءات مع مسؤولين إسرائيليين في الخليج وفي عواصم أوروبية وأميركية.
تلزيم “صفقة القرن” لوليّ العهد، محمد بن سلمان، شرطُ تتويج. وقد أمضى الرجل عامَي 2018 و2019 من أجل إقناع الأردن والسلطة الفلسطينية على نحو الخصوص بمتطلّبات الصفقة، وعلى رأسها التخلّي عن القدس الشرقية وحق العودة. كان سقف المطلب السعودي، ومِن خلفه الأميركي والإسرائيلي، عالياً إلى القدر الذي مسّ بصميم السيادة الفلسطينية والشرعية الدينية والتاريخية للعائلة الهاشمية، ناهيك عن رفض كثير من الدول العربية مشروع سلام لا يقوم على حلّ الدولتين ولا تكون القدس الشرقية فيه عاصمة للدولة الفلسطينية.
في النتائج، لم يكن الخروج على المبادرة العربية بنسختها السعودية قراراً إماراتياً أو بحرانياً أو حتى سودانياً، بل كان قراراً سعودياً بالدرجة الأولى. سِجلّ التطبيع منذ مطلع الألفية حتى الآن كان يحمل البصمة السعودية، وقد تكفّلت الإمبراطورية الإعلامية التي يديرها الملك سلمان وأبناؤه والوليد بن طلال وخالد بن سلطان بمهمّة التطبيع النفسي والثقافي والإعلامي. لقد عبث الإعلام السعودي بسيكولوجية الرأي العام الخليجي، وإلى حدّ ما العربي، حتى باتت فكرة التطبيع وحضور المسؤول الإسرائيلي في المنتديات الخليجية بدرجة أساسية أمراً مألوفاً. وللقارئ تخيُّل ردود الفعل، إن وُجدت، على زيارة نتنياهو لبلاد الحرمين، ولقائه وليّ العهد السعودي في مكان لا يبعد سوى أقلّ من مئة كيلومتر عن مكة المكرمة.
لا فائدة مرجوّة من النفي السعودي أو من الصمت الرسمي الإسرائيلي، طالما أن ركب التطبيع يسير كما تَقرّر سعودياً وإسرائيلياً وأميركياً. فنحن أمام خريطة جيوسياسية جديدة تتشكّل وتعيد رسم المشهد الشرق الأوسطي، على وقع انقسامات في النظام الرسمي العربي، واختلال موازين قوى إقليمية ودولية.
خطورة زيارة نتنياهو ليست في الأجندة المباشرة المعلَن عنها، لأن في ذلك تبسيطاً للمستور من أصل العلاقة، بل وأصل الشراكة الاستراتيجية التي سوف تفرض نفسها في العلاقات البينية العربية والإقليمية والدولية. نحن أمام معادلة جديدة ربح فيها الإسرائيلي المعركة، وأَخرج السعودية، شريكه الاستراتيجي، من سوق المزيدات. إذ لم تعد فلسطين بالنسبة إلى الرياض قضية، فضلاً عن كونها القضية، بل باتت العبء الذي تريد الخلاص منه، وهذه المرّة تفعل ذلك بنحر “مبادرة السلام” التي تبنّتها سابقاً، على علّاتها.
زيارة نتنياهو لجزيرة العرب هي تدشين لتاريخ جديد، يضع شعب الجزيرة العربية أمام خيارين: إما القبول بأن يكتب نتنياهو وابن سلمان هذا التاريخ بحبر الخيانة، أو أن يكتبه الشعب بدم التحرير من عار يرتكبه آل سعود بحق شعب يأبى إلا أن يكون مع فلسطين بلا شروط.
على طريق إشهار التحالف
لا تتعارض خطورة الرسائل التي ينطوي عليها لقاء رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، مع وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، في مدينة «نيوم» الساحلية السعودية، مع كونه غير مفاجئ، إذ إنه يأتي تتويجاً لسلسلة مسارات سعودية وإقليمية وأميركية، ساهمت في إنضاج هذا الحدث، الذي لم يكن تسريب نبئِه عفوياً، بل جاء متعمّداً، وأقرب إلى الإعلان الرسمي، بعدما سمحت الرقابة العسكرية في كيان العدو بنشره، وتناولت تفاصيلَه وسائل الإعلام الإسرائيلية كافة.
ويبدو أن تعمّد تسريب الخبر، والذي لا يمكن أن يكون بمعزل عن التوافق مع ابن سلمان – ولو عمدت سلطات الأخير إلى نفيه لاحقاً -، يؤشّر إلى وجود قرار بضرورة الارتقاء بالعلاقات الثنائية، وصولاً إلى اتفاق تطبيع كامل بين الجانبين في مرحلة لاحقة. ومن المتوقّع، في أعقاب إعلان ذلك اللقاء المنتظر، الكشف عن لقاءات سابقة مَهّد لها رئيس «الموساد»، وربّما كانت مع نتنياهو نفسه، مثلما حصل بالنسبة إلى الأنظمة التي سبقت السعودية في عقد اتفاقات تطبيع، أي الإمارات والبحرين والسودان.
ويأتي اللقاء الذي ضمّ إلى نتنياهو، رئيس «الموساد» يوسي كوهين ووزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، في سياق سياسي كانت الأنظار مُتوجّهة فيه إلى تطوّر ما قد يحدث على خطّ ابن سلمان – نتنياهو، كامتداد طبيعي لمسار التطبيع العلني، الذي تمّ بتغطية ودعم من ولي العهد السعودي، وشمل حلفاءه ووكلاءه وأدواته، كتمهيد للخطوة التي يُتوقّع أن يقدم عليها هو في الاتجاه نفسه. مع ذلك، فإن هذا الحدث لم يكتمل حتى الآن، بل يُتوقع أن يكون له ما يليه، وإن مَثّل توجّه نتنياهو شبه العلني إلى السعودية تسريعاً غير مسبوق للمسار التدريجي الذي سلكه نظام آل سعود في تطوير علاقاته مع كيان العدو، خصوصاً أن التسريب هذه المرّة اتّسم بالسرعة وكثافة التفاصيل وتأكيده من أكثر من مصدر ووزير.
يؤشّر لقاء نتنياهو – ابن سلمان إلى وجود قرار بضرورة الارتقاء بالعلاقات الثنائية
والظاهر أن الحاجة إلى تطوير العلاقة بين الطرفين أصبحت أكثر إلحاحاً لكليهما ممّا كانت عليه في أيّ وقت مضى، ولا سيّما بالنظر إلى التطوّرات الأخيرة في المنطقة والعالم. إذ يدرك الجانبان أنهما باتا في المركب نفسه عملياً، وتحديداً بعدما بات النظام السعودي يجاهر بنظرته إلى القضية الفلسطينية على أنها عبء ينبغي التخفّف منه وتصفيتها. ومن هنا، لم يبدُ مستغرباً الكشف الإعلامي، بتغطية ودعم رسميَّين، عن توجّه نتنياهو إلى السعودية، في زيارة يُتوقع أن يكون مَهّد لها رئيس «الموساد»، باعتباره المسؤول عن العلاقات بين إسرائيل والدول التي لا توجد معها علاقات رسمية، وعرّاب خطوات التطبيع من الجانب الإسرائيلي. وبحسب ما نقلته الإذاعة الإسرائيلية عن مصدر رفيع مستوى، فإن رحلة نتنياهو وكوهين استمرّت نحو خمس ساعات. وتُمثّل هذه الرحلة امتداداً لـ«اتفاقيات أبراهام» بين إسرائيل من جهة والإمارات والبحرين والسودان من جهة أخرى، وحديث رئيس وزراء العدو عن اتفاقيات إضافية ستُوقّع مع دول عربية أخرى.
وعلى خطّ موازٍ للرسائل الإقليمية لزيارة نتنياهو، لم يفت الأخيرَ استغلالُ هذه المحطّة لتهميش شريكَيه في الحكومة، وزير الأمن بني غانتس ووزير الخارجية غابي أشكنازي، ومحاولة تسجيل المزيد من النقاط بوجههما، وتصويرهما بوصفهما منهمكين في اللعب السياسية الداخلية – الحكومية، فيما هو يواصل مساعيه لتعزيز مكانة إسرائيل الاستراتيجية في مواجهة تعاظم التهديدات المحدقة بها. وعلى الخلفية المتقدّمة، تَعمّد عدم إطلاعهما على الزيارة. أمّا في التوقيت، فقد رأت العديد من التقارير أن الإعلان عن اللقاء أتى ليُوجّه رسالة إلى إدارة الرئيس الأميركي المنتخب، جو بايدن، بأن ثمة تحالفاً إسرائيلياً – سعودياً ضدّ إيران، وذلك في محاولة للتأثير في خيارات بايدن حيال طهران والاتفاق النووي معها.
وكانت التقارير الإعلامية كشفت في وقت سابق، وقبل أن يتّضح أن القضية تتعلّق بنتنياهو ورئيس «الموساد»، أن طائرة رجل الأعمال الإسرائيلي، أودي أنجيل، تَوجّهت في تمام الساعة 19:50 من مساء الأحد، من مطار بن غوريون في اللدّ في رحلة مباشرة إلى مدينة نيوم السعودية الواقعة على البحر الأحمر جنوب خليج العقبة. وهبطت الطائرة الإسرائيلية، التي سبق أن استخدمها نتنياهو في عدّة مناسبات، من ضمنها حضور اجتماع عمل مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في موسكو، في الساعة 20:30. وكان يفترض أن يرأس نتنياهو جلسة للجنة وزارية في توقيت تَوجُّهه إلى السعودية نفسه، مَهمّتها بحث مواجهة انتشار فيروس «كورونا»، ولذلك تمّ إلغاء الجلسة وتأجيلها إلى موعد لاحق. وفيما ذكرت وسائل الإعلام الإسرائيلية أن نتنياهو وبن سلمان بحثا العلاقات الثنائية والموضوع الإيراني، من المنتظر أن يتضح في الأيام المقبلة المزيد من المعطيات والتقديرات حول هذا اللقاء.
سنوات من العشق (غير) المكتوم
لعلّ ذلك المسار الذي انطلق فيه صاروخ «قدس 2» من اليمن، مستهدِفاً منشأة توزيع «أرامكو» في جدّة السعودية أمس، كفيل باختصار المشهد. لعله النقطة الحاسمة التي تتوضّح فيها الحدود: هُنا يقف الأخيار حفاة يصارعون الظلم، وهناك يجتمع الأشرار بين جدران القصور. لعلّ صدى ذلك الصاروخ سيظلّ يتردّد عميقاً في نفوس المظلومين، فيما نفي وزارة الخارجية السعودية للقاء الذي جرى بين ولي عهدها، محمد بن سلمان، ورئيس الوزراء و«الموساد» الإسرائيليَّين، بنيامين نتنياهو ويوسي كوهين، يبدو كذبة خارجة عن السياق التطبيعي الذي تسلكه الرياض منذ سنوات.
ليست العلاقات بين حكّام السعودية وإسرائيل وليدة اليوم، لكن بمراجعة الأعوام القليلة الماضية يُلاحظ ازدياد في وتيرة التطبيع التدريجي، والذي قد لا يُختلف على أن نهايته الحتمية ستكون بتظهير حلف الرياض – تل أبيب إلى العلن، في إطار «اتفاق أبراهام» الذي سبق أن وَقّعت عليه إلى الآن دولتان خليجيتان هما الإمارات والبحرين. في عام 2017، بدأ الحديث العلني عن محادثات سعودية – إسرائيلية لتدشين جسر جوّي بين الجانبين. وسبقت تلك التقارير بنحو شهر زيارة أجراها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، إلى المنطقة، حيث طار من السعودية إلى إسرائيل مباشرة.
في الإطار ذاته، عرض وزير النقل والاستخبارات الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، ما عُرف بخطة «سكة قطار السلام الإقليمي». وهي سكّة قطار بري بدأ العمل عليها أخيراً، وتربط إسرائيل بالأردن، ومنه إلى السعودية ودول الخليج عبر شبكة سكك حديد تسمح للدول العربية بمنفذ إلى البحر المتوسط. واختصر كاتس خطّته بالقول إن «رؤيتي لربط السعودية ودول الخليج والأردن بميناء حيفا والبحر الأبيض المتوسط ستجعل إسرائيل مركزاً للنقل البحري وستُعزّز اقتصاد إسرائيل».
في العام نفسه، لقي تعيين محمد بن سلمان وليّاً للعهد ترحيباً إسرائيلياً رسمياً؛ إذ احتفى بذلك وزير التعاون الإقليمي السابق، أيوب قرا (حزب «الليكود»)، الذي رحّب في حديث مع صحيفة «تايمز أوف إسرائيل» بتعيين ابن سلمان، معتبراً أن في ذلك «إشارة إلى مزيد من التعاون في الشرق الأوسط، وإلى فترة جديدة ومتفائلة بين السعودية ودول المنطقة، من ضمنها إسرائيل والشعب اليهودي». كما التقى القرا، حسبما كشف في حينه، مسؤولين خليجيين بينهم سعوديون وإماراتيون وعمانيون وغيرهم خلال حفل تنصيب لنين مورينو، رئيساً للإكوادور. وبينما كان لسان المسؤولين السعوديين قد انبرى ينفي هذه الأنباء، لم يتمالك الرئيس السابق للاستخبارات السعودية، الأمير تركي الفيصل، نفسه، فأبى إلا أن يشارك في «الحفلة» عبر مقابلة مع القناة الأولى الإسرائيلية («كان»)، نافياً كلّ «ما يثار عن التقارب السعودي الإسرائيلي، وإمكانيّة التطبيع خارج مبادرة السلام العربية»!
في عام 2018 أعلن ابن سلمان أن هناك الكثير من المصالح التي تتقاسمها السعودية وإسرائيل
في عام 2018، خرج ابن سلمان بنفسه ليعلن في حوار مع مجلة «ذي أتلانتيك» الأميركية أن «إسرائيل تملك اقتصاداً كبيراً مقارنة بحجمها، وهذا الاقتصاد متنام، وبالطبع هناك الكثير من المصالح التي نتقاسمها مع إسرائيل». ونفى في المقابلة ذاتها أن يكون لبلاده أيّ «اعتراض ديني على وجود إسرائيل»، مؤكداً تأييده «حق اليهود للعيش على أرضهم بسلام». وبينما كان ولي العهد في زيارته للولايات المتحدة، التقى بالملياردير الإسرائيلي، حاييم سابان، من أجل بحث عدد من المشاريع الفنية والثقافية التي سيستثمر فيها الأخير في الرياض. والملياردير الإسرائيلي، ليس مجرد رجل أعمال؛ إذ بحسب ما كشفت مجلة «كالكيلست» الاقتصادية الإسرائيلية، فهو يُعدّ أكبر المتبرّعين للجيش الإسرائيلي.
مع تكرار الحوادث التطبيعية، برز عام 2019 بصفته عاماً شهد زيادة ملحوظة في وتيرة التطبيع. ففي هذا العام، التقى المُدوّن والإعلامي السعودي، محمد سعود، نتنياهو، وذلك بعدما لبّى الأول دعوة وجهتها وزارة الخارجية الإسرائيلية إلى عدد من الصحافيين العرب لزيارة تل أبيب. بعد هذا بوقت قصير، انضمّت الكاتبة والإعلامية السعودية، سكينة المشيخص، إلى زميلها سعود، بأن أجرت مقابلة مع الإذاعة الإسرائيلية، نفت خلالها «وجود عداوة بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية»، معربةً عن استعدادها «لزيارة إسرائيل».
أمّا على المستوى العسكري، فقد شاركت السعودية ومعها الإمارات في مناورات وتدريبات عسكرية إلى جانب إسرائيل، كان آخرها في اليونان. والدولتان الخليجيتان هما أيضاً جزء، إلى جانب البحرين وإسرائيل وعدد من الدول الغربية، في «التحالف الدولي لأمن وحماية الملاحة البحرية وضمان سلامة الممرات البحرية»، الذي أنشأته الولايات المتحدة لحماية السفن التجارية، وانضمّت إليه دول خليجية تحت حجّة «التهديد الإيراني».
وعلى المستوى الرسمي، طالب برلمانيون سعوديون وإماراتيون ومصريون، خلال الاجتماع الـ29 لـ«الاتحاد البرلماني العربي» الذي انعقد في عمّان، بإزالة الفقرة المتعلقة بوقف التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي. وفي وقت لاحق من العام نفسه، أعلن الأمين العام لـ«رابطة العالم الإسلامي»، السعودي محمد العيسى، أن وفداً إسرائيلياً سيزور السعودية في العام المقبل تحت عنوان «إدانة الجرائم النازية بحقّ اليهود». وخلال العام نفسه، استقبل ابن سلمان وفداً إنجيلياً أميركياً داعماً لإسرائيل، برئاسة الكاتب الإسرائيلي جويل روزنبرغ، في الرياض.
مطلع العام الحالي، بَثّت قناة « i24 News» الإسرائيلية فعّاليات «هيئة الترفيه» في جدة، وكانت تلك المرّة الأولى التي يتمّ فيها السماح لوسيلة إعلام إسرائيلية بتغطية حدث داخل الأراضي السعودية. بعد ذلك بنحو شهر، أعلنت إسرائيل رسمياً سماحها للإسرائيليين بزيارة السعودية، ثم استضاف الملك السعودي، سلمان بن عبد العزيز، الحاخام المقيم في القدس المحتلة، ديفيد روزن، في قصره الملكي في الرياض ضمن وفد «الحوار بين الأديان».
في شهر أيار الأخير، وخلال أيام الصوم، عرضت مجموعة «أم بي سي» السعودية مسلسلَي «أم هارون» و«مخرج 7» اللذين روّجا بشكل صريح للتطبيع مع إسرائيل، وقد لاقيا دعوات كثيرة للمقاطعة بسبب ذلك. وفي نهاية أيلول الفائت، فتحت السعودية سماءها رسمياً لمرور الطائرات الإسرائيلية، لتُدشّن الخطوط الوطنية الإسرائيلية (إل- عال) أولى رحلاتها إلى أبو ظبي عبر خطّ تل أبيب – الرياض مباشرة.
صفّاً واحداً بوجه إيران
بعد طول مناورة، رُسمَ خطٌ واضح لمسار العلاقات السعودية ــــ الإسرائيلية، تجلّى في لقاءٍ يُقال إنه جَمَع وليّ العهد محمد بن سلمان إلى رئيس حكومة العدوّ بنيامين نتنياهو في نيوم، برعاية وحضور وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو. زيارةُ هذا الأخير للمنطقة، قبل أسابيع قليلة من تَسلُّم الإدارة الديموقراطية الجديدة مهمّاتها رسميّاً، بدت محدَّدة الهدف: دفع قاطرة التطبيع مع إسرائيل قُدُماً، لتشمل هذه المرّة جائزة كبرى تؤشّر إلى استكمال قوس المطبّعين في موازاة تشكُّل “حلف عربي ــــ إسرائيلي” لمواجهة أيّ خطوات من شأنها أن تُبدِّل الوضع القائم. ركض البيت الأبيض خلف إبرام صفقةٍ من هذا الوزن، أو على أقلّ تقدير تدعيم أسسها قبل مغادرة دونالد ترامب منصبه، يشي بنيّة وضع إدارة جو بايدن أمام أمر واقع يُكبِّل مساعيه إلى إحداث تغييرات في السياسة الأميركية، مختلفة عن تلك التي أرسى الرئيس المنتهية ولايته دعائمها في المنطقة.
بانضمام الإمارات والبحرين، ولاحقاً السودان إلى “اتفاقات أبراهام”، لم يبخَل ترامب بدعواته المتكرّرة السعودية إلى ضرورة اللحاق بركب المطبعين “في الوقت الملائم”، فيما عَدَّ عرّاب “صفقة القرن”، جاريد كوشنر، انضمام المملكة “حتميّاً”. يدور السؤال، راهناً، حول توقيت الخطوة وقرار الإعلان عن اللقاء عبر قنوات غير رسمية. هل بات الوقت ملائماً للإفصاح عن العلاقات السريّة، وسداد الأثمان التي أرادها ترامب في مقابل حماية حليفه ابن سلمان مِن ورطَتَي حرب اليمن واغتيال جمال خاشقجي؟ أم أن ما أُخرج إلى العلن لا يعدو كونه إشارة إلى الرئيس الأميركي المنتخب تفيد بأن اتجاه التطبيع ليس مرتبطاً بإدارة في حدِّ ذاتها، ويمكن أن يستمرّ من بعد ترامب؟ لم يتقبّل الرئيس الأميركي الخاسر فكرة الهزيمة أمام مرشّح ضعيف، تتمحور جلّ طموحاته حول استنساخ تجربة باراك أوباما وسياساته إن كانت الداخلية أو الخارجية، في عالم لم يَعد يشبه ذاك الذي كان يوم غادر هو ورئيسه الحكم. إصرار ترامب على المضيّ قُدُماً في تطبيق سياساته، ووضع الفخاخ للإدارة المقبلة، في ظلّ الحديث عن احتمال إطلاق حملته الانتخابية لرئاسيات 2024 في نهاية العام الجاري، يُرجِّح إقدامه على إحداث مفاجأة من الوزن الثقيل. مفاجأةٌ يأمل أن تكبّل يَدَ القادم إلى البيت الأبيض، الساعي إلى إعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني مع إدخال بعض التعديلات في متنه. لهذه الغاية تحديداً، يرى مراقبون أن لقاء ابن سلمان ــــ نتنياهو ــــ بومبيو لن يؤدّي بالضرورة إلى تطبيع مباشر، لكنه يجيء للدلالة على إظهار موقف موحّد ضدّ إيران.
الجبير: لا أتوقّع تغييراً كبيراً في ما يتعلق بالسياسة الخارجية الأميركية
بالنسبة إلى بايدن، الذي بدا مرحّباً ومسروراً بخطوتَي أبو ظبي والمنامة التطبيع مع تل أبيب، أكّد، سلفاً، أن إدارته ستبني على ما سلف لضمّ مزيد من الدول إلى المسار الذي افتتحه ترامب، كما ستعمل على تعزيز هذه العلاقات وتطويرها، تحت عنوان “حلّ الدولتين”. جلّ المسألة يدور حول وضع إدارة بايدن المتمسّكة بـ”إرث أوباما” أمام أمرٍ واقع جديد أسّست له إدارة ترامب. واقع سيتحتّم عليها قبوله، وخصوصاً أن أحلام الحزبَين الجمهوري والديموقراطي تتحقّق بالفعل: إسرائيل مقبولة في المنطقة، بينما تتهافت الدول العربية الأساسية الحليفة لواشنطن للتطبيع معها. وترى هذه الدول أن إيران تمثّل الأزمة الوحيدة في الشرق الأوسط، ما يوجب التكاتف والتنسيق لمواجهتها بـ”حلف عربي إسرائيلي” يخشى العودة إلى سياسة المهادنة و”ربط النزاع”. تريد إدارة الرئيس المنتهية ولايته أن تسير الإدارة المقبلة على نهجها حيال ملف إيران، وأن تواصل بذلك حملة “الضغوط القصوى” عليها، بحسب مسؤول أميركي رافق بومبيو في جولته الخارجيّة. “لا يخفى على أحد أن الإدارة تركّز، منذ عدة سنوات، على حملة الضغوط القصوى هذه ضدّ إيران”، والتي حقّقت “نجاحاً هائلاً” أدّى فعلياً إلى “حرمان النظام من مليارات الدولارات” التي ذكر المسؤول أنها كانت ستذهب إلى الجماعات المسلحة الموالية لطهران في المنطقة. ويأمل هذا المسؤول أن “يتمّ استغلال هذا النفوذ الذي عملت الإدارة جاهدة لتحصيله بهدف حمل الإيرانيين على التصرّف كدولة طبيعية”. غير أن وزير الدولة السعودي للشؤون الخارجية، عادل الجبير، لفت في حديث إلى “سي إن إن”، السبت، إلى أن المملكة تتعامل مع رئيس الولايات المتحدة “كصديق سواء كان جمهورياً أو ديموقراطياً… لدينا مصالح ضخمة مع الولايات المتحدة، ولا أتوقع أنه سيكون هناك تغيير كبير في ما يتعلق بالسياسة الخارجية الأميركية”. في جولته التي بدت وداعية، أصرّ بومبيو على التطرّق إلى ضرورة مكافحة “نفوذ إيران”، محذّراً من أنه “في الأسابيع والأشهر المقبلة، سنفرض عقوبات جديدة على إيران”. وبحسب المسؤول في وزارة الخارجية الأميركية، فإن “هذه الإدارة موجودة حتى 20 كانون الثاني/ يناير وستواصل تنفيذ سياساتها حتى النهاية”.
يسعى ترامب إلى تأسيس مجموعة مرتكزات تشير إلى أن كلّ ما يمكن أن تحصده الإدارة الجديدة هو نتاج ما زرعه بنفسه، وأن أيّ “انقلاب” من قِبَل بايدن على “العقوبات القصوى” أو “اتفاقات أبراهام” أو كلّ ما يتعلّق بمسار التطبيع، سيعني أن إدارته “محابية” لإيران، ومستعدة للانقلاب على شركاء واشنطن الاستراتيجيين في المنطقة.