تُغامر تل أبيب، ومِن خلفها واشنطن، في ربع الساعة الأخير. يسابق الطرفان الزمن الذي بات لا يتجاوز شهرين يفصلان عن موعد تنصيب جو بايدن، من أجل إرساء أمر واقع يصعب على أحد تجاوزه. بعد اغتيال قاسم سليماني باعتباره المسؤول عن دور إيران الإقليمي، وعملية التخريب التي طالت مفاعل «نطنز» النووي، جاء الدور على آخر ملفّات الاشتباك، والمتمثّل في برنامج الصواريخ الإيرانية، من خلال قتل الرجل الذي يوصف بأنه «أحد أهمّ النخب العلمية المسؤولة عن الصناعات الدفاعية في البلاد». عمليةٌ ربّما تمثّل نموذجاً من الضربات التي توعّدت بها إدارة دونالد ترامب في آخر أيّامها، فاتحةً، بتنفيذها إيّاها، الباب على سيناريوات خطيرة، خصوصاً في ظلّ توعّد إيران بالانتقام من كلّ مَن قرّر وخطّط ونفّذ.
بعد وقت ليس بالقليل على تضارب الأنباء الواردة من طهران حول مصير العالم الإيراني، محسن فخري زاده، خرجت وزارة الدفاع لتقطع الشكّ باليقين، وتُعلن عبر بيانٍ لها أن «رئيس مركز الأبحاث العلمية في الوزارة محسن فخري زاده استشهد في هجوم إرهابي مسلح»، مؤكدة «فشل محاولات إنقاذ حياته»، فيما أفادت وكالة «تسنيم» بأن «فخري زاده فارق الحياة بعد نقله إلى المستشفى إثر إصابته بجروح خطيرة».
الإعلان الرسمي عن مصير العالم الإيراني تبعته سلسلة مواقف رسمية أخرى لم تكتف بالتنديد بعملية الاغتيال، بل حملت اتهامات واضحة لإسرائيل كما جاء في التغريدات التي كتبها كلّ من وزير الخارجية محمد جواد ظريف، ومستشار المرشد للصناعات الدفاعية حسين دهقان، إذ اعتبر الأول في تغريدته إن «هذا الجبن المتمثل في قتل العالم الإيراني البارز يحمل مؤشرات جدية على الدور الإسرائيلي، ويظهر محاولة الجناة اليائسة لإثارة الحرب»، فيما حذر الآخر من أن «الكيان الصهيوني يدفع باتجاه حرب شاملة»، متوعّداً بأن «يدفع الصهاينة ثمن الاغتيال»، مؤكداً أن «ردّنا سينزل كالصاعقة على القتلة». كذلك، هدّد رئيس هيئة الأركان المشتركة الإيرانية، اللواء محمد باقري، بأن «انتقاماً صعباً سيكون في انتظار المجموعات الإرهابية وقياداتها المسؤولة عن هذا الاغتيال»، جازماً أن بلاده «لن تتوانى عن مطاردة ومعاقبة المسؤولين عن اغتيال العالم محسن فخري زاده». أمّا رئيس البرلمان الإيراني فكان أكثر وضوحاً في تحديد الجهات التي سيشملها الردّ الإيراني بقوله إن «انتقامنا سيشمل كلّ مَن نفذ ووقف خلف اغتيال محسن فخري زاده».
ويأتي الاتهام الإيراني الموجّه بالتحديد إلى إسرائيل منذ اللحظات الأولى، وحتى قبل تقديم رواية رسمية عن تفاصيل عملية الاغتيال، على ضوء سعي تل أبيب الواضح خلال السنوات الماضية إلى إيقاف عجلة التقدّم في برنامجَي إيران النووي والصاروخي، فضلاً عن محاولاتها إنهاء النفوذ الإيراني في المنطقة أو الحدّ منه. ومثّلت إسرائيل أوّل الداعمين لسياسة «الضغط الأقصى» التي لا تزال إدارة الرئيس الأميركي المنتهية ولايته، دونالد ترامب، تمارسها ضدّ إيران، من أجل دفعها إلى الجلوس إلى مائدة تفاوض تشمل الملفّات الثلاثة دفعة واحدة، وذلك للتعويض عن «خطأ» الاتفاق النووي الذي لم يَحدّ من قدرات إيران النووية، إلى جانب إغفاله البرنامج الصاروخي والنفوذ الإقليمي لطهران.
تستنفر إسرائيل طاقاتها للاستفادة من هامش الوقت الذي يسبق تسلّم بايدن مهماته
على أن الأهداف الإسرائيلية ــــ الأميركية المتوخّاة من سياسة «الضغط الأقصى» لم تتحقّق إلى الآن. إذ على رغم الضغط الاقتصادي الذي تعيشه إيران جرّاء العقوبات الأميركية المتلاحقة عليها منذ انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي في أيار/ مايو 2018، إلا أن طهران ما زالت ترفض الانصياع للمطالب الأميركية، وهو الأمر الذي دفع إدارة ترامب في عامها الأخير إلى مواكبة تلك السياسة بعمليات عسكرية وأمنية تساهم في تحقيق ما تصبو إليه على صعيد الملفات الثلاثة قبل نفاد الوقت، حيث بدأت هذا العام باغتيال قائد «فيلق القدس» الإيراني الجنرال قاسم سليماني ونائب قائد «الحشد الشعبي» العراقي أبو مهدي المهندس في غارة جوية بالقرب من مطار بغداد الدولي، وهو ما عُدّ في حينه استهدافاً مباشراً لدور إيران الإقليمي من أجل إنهائه أو إضعافه كحدّ أدنى، وذلك انطلاقاً من كون سليماني هو المسؤول الإيراني المباشر عن هذا الدور.
أمّا في الشق النووي، فلم ينفصل انفجار منشأة «نطنز» النووية منتصف العام عن سياق الأهداف الأميركية والإسرائيلية المطلوبة في إطاره. فالانفجار، بحسب المتحدث باسم «هيئة الطاقة النووية الإيرانية» بهروز كمالوندي، أدّى إلى «إبطاء تطوير وإنتاج أجهزة طرد مركزي متطوّرة على المدى المتوسط». وعلى رغم عدم تبنّي أيّ جهة لهذا التفجير، إلا أنه وفق آخر التصريحات الإيرانية التي جاءت على لسان مستشار المرشد لشؤون الصناعات الدفاعية حسين دهقان «حدث بسبب تخريب صناعي».
أخيراً، ومع بدء العدّ التنازلي لانتهاء ولاية ترامب، وفي ظلّ المؤشّرات القادمة إلى نهج مختلف ستتبعه إدارة الرئيس المنتخب جو بايدن مع طهران، يبدو أن إسرائيل استنفرت طاقاتها للاستفادة من هامش الوقت الذي يسبق تسلّم بايدن مهماته رسمياً في سبيل توجيه ضربة لإيران في ملف الاشتباك الثالث المتمثّل في البرنامج الصاروخي، فاختارت العالم الإيراني محسن فخري زاده الذي سبق أن اعتبره رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عام 2018 «المسؤول عن تحضير إيران لصواريخ نووية».
تَبنّت إسرائيل، بشكل غير رسمي، عملية اغتيال «أبو القنبلة النووية الإيرانية». ذلك أن ابتهاج مُعلّقي وسائل الإعلام العبرية، الذين سارعوا إلى إعلان نبأ الاغتيال دفعة واحدة وكأنهم كانوا في انتظار إشارة البدء، بدا لافتاً وذا دلالة، وإن فَضّل المسؤولون في تل أبيب الصمت حتى الآن، في ظلّ تلميحات من أعلى الهرم السياسي.
بلا جدال، بقدر الخسارة الإيرانية، تأتي الفائدة الإسرائيلية جرّاء اغتيال العالم النووي البارز، رئيس «منظمة البحث والتطوير» في وزارة الدفاع الإيرانية، محسن فخري زادة. لكن السؤال الأبرز هو: هل الهدف النهائي لِمَن اتخذ قرار الاغتيال، بغضّ النظر عمّا إن كان التنفيذ مباشرة منه أو عبر وكلاء، هو فخري زادة، أم أن الهدف أيضاً، وربّما جملة الأهداف، مرتبطة كذلك بما سيَعقب ردّة الفعل الإيرانية على العملية، التي ربّما تفتح على سيناريوات تصعيد في مرحلة يمكن وصفها بالأكثر من حسّاسة، إلى حين رحيل الإدارة الأميركية الحالية التي ما زالت تمسك بالقرار في واشنطن.
الواضح، ومن دون جدال أيضاً، أن الجانبين الإسرائيلي والأميركي هما الجهتان المتّهمتان تلقائياً بالوقوف خلف الاغتيال؛ إذ إن حادثاً كهذا، كما ورد في تعليقات الإعلام العبري أمس، «بإمكان إسرائيل والولايات المتحدة فقط تنفيذه». مع ذلك، سواء كانت واشنطن شريكة تل أبيب في قرار الاغتيال وتنفيذه، مباشرة أو عبر وكلاء، أو أن الإدارة الأميركية اكتفت بالمصادقة على العملية، وهو الأرجح، فالنتيجة تكاد تكون واحدة، علماً بأن تلميحات تل أبيب الرسمية لجهة مسؤوليتها عن الحادثة كانت واضحة جدّاً، وسريعة جداً، خلافاً لما حدث في الاغتيالات السابقة.
في استشراف الأهداف الإسرائيلية و/ أو الأميركية، من الضروري التشديد على أن خسارة إيران لمحسن فخري زادة، وإن كانت كبيرة ربطاً بموقعه وإنجازاته، إلا أنها لا تعني بالمطلق خسارة المعرفة والخبرة والدراية النووية، التي باتت بعيدة عن السقوط مع استهداف أشخاص، على رغم تأثيرهم وأهميتهم. والأكيد أيضاً، وهو ما بات محلّ إقرار من قِبَل أعداء إيران وخصومها، تجاوز الملف النووي الإيراني نقطة اللاعودة منذ زمن بعيد جداً، بحيث باتت الخبرة والمعرفة مترسّخة، والنتائج النووية الكاملة لهذه المعرفة، في الاتجاه المدني السلمي و/ أو العسكري، مرهونة بالإرادة، وليس بالقدرة التي باتت في حوزة صاحب القرار في طهران.
المعرفة والخبرة والدراية النووية لدى إيران باتت بعيدة عن السقوط مع استهداف أشخاص
على ذلك، ما الهدف من الاغتيال إذاً، طالما أنه لا يمسّ، فعلاً، بالقدرة النووية لإيران؟ سؤال لا ينفكّ، بطبيعة الحال، عن التغيير المقبل في الإدارة الأميركية، وكأن هناك مَن يريد تثبيت واقع ما، في هذا الاتجاه أو ذاك، في سباق مع زمن محدود نسبياً. وكان رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، سارع في أعقاب انتشار نبأ الاغتيال، إلى التغريد عبر «تويتر» من خلال كلمة مصوّرة في حسابه، قال فيها: «أنا أريد أن أشارككم قائمة أمور قمت بها هذا الأسبوع، وهي قائمة جزئية، لأنني لا أستطيع أن أقول لكم كلّ شيء». وانتشر هذا المقطع في إسرائيل بوصفه إقراراً غير مباشر من نتنياهو بمسؤولية إسرائيل، ومسؤوليته شخصياً، عن اغتيال فخري زادة، مع التذكير بأن رئيس وزراء العدو ذكر بنفسه اسم العالم الإيراني المغتال في عام 2018، طالباً في حينه من الجميع أن «يتذكّروا هذا الاسم جيداً: محسن فخري زادة». أمّا مكتب نتنياهو فامتنع عن الإجابة عن الأسئلة التي وُجّهت إليه من قِبَل وكالة «رويترز»
وكان الإعلام العبري قد ضجّ أمس بالتعليقات على الاغتيال، مع «ضخّ معلومات» عن فخري زادة ودوره وتأثيره في المشروع النووي الإيراني منذ نشأته. وإن أكثرت معظم التعليقات من الأسئلة من دون أجوبة عن مقاصد الاغتيال، ورَكّزت على فائدته المباشرة اللحظوية في «الانتهاء» من «أبو القنبلة النووية»، إلا أن اللافت هو التركيز على كثير من الإشارات الدالة على مسؤولية إسرائيل، وإن لم تَتبنّ الأخيرة ذلك رسمياً. في الموازاة، كان بارزاً أيضاً التذكير بأن فخري زادة، «الخبير كذلك بالصواريخ البالستية»، قرّرت إسرائيل اغتياله قبل سنوات، إلا أن الموساد والاستخبارات العسكرية «أمان» (موقع واللا العبري) أخفقا ميدانياً في استهدافه بعد فشل عملياتي مرتكز على فشل في تحديد موقعه.
حجم التعليقات الإسرائيلية، التي يصعب تصوّر تقلّصها في الأيام المقبلة، كان كبيراً ولافتاً ومُوجّهاً لإثارة الطرف الآخر. لكن ما برز فيها إشارة «القناة 12» العبرية إلى أن «اغتيال فخري زادة لن يؤثر على تقدّم البرنامج النووي الإيراني ولن يعرقل تقدّمه»، الأمر الذي يفتح الباب واسعاً على سيناريوات وفرضيات، ترتبط بحقيقة الأهداف لدى من قَرّر وشارك.
سفارات إسرائيل في الخارج في حالة تأهب قصوى بعد اغتيال العالم الإيراني
أفادت وسائل إعلام عبرية بأن البعثات الدبلوماسية الإسرائيلية في مختلف أنحاء العالم رفعت مستوى التأهب الأمني، على خلفية اغتيال العالم النووي الإيراني البارز محسن فخري زاده، في طهران.
وأكدت القناة الـ12 الإسرائيلية اليوم السبت أن سفارات الدولة العبرية في العالم في مستوى التأهب الأمني (الحالة القصوى)، تحسبا لانتقام محتمل من عملية اغتيال محسن زاده، التي حمّلت السلطات الإيرانية تل أبيب المسؤولية عنها.
كما أشارت القناة إلى تعزيز الإجراءات الأمنية في الجاليات اليهودية بمختلف الدول.
وأصبح محسن فخري زاده، الذي كان يعد شخصية رئيسية في برنامج طهران النووي، خامس عالم نووي إيراني تم اغتياله منذ عام 2010، وألقت سلطات الجمهورية الإسلامية على إسرائيل اللوم في عمليات الاغتيال هذه.
المصدر: القناة الـ12 الإسرائيلية
اغتيال العالم النووي الإيراني.. الرد في دول الخليج أم في إسرائيل؟.. طهران تملك خيارا ثالثا
قال الخبير في الشؤون الإيرانية، فكري سليم، إن اغتيال العالم الإيراني، محسن فخري زادة، هو ضربة أخرى ضمن الضربات المتتالية التي تعرضت لها إيران خلال الأشهر الماضية.
وتابع الخبير قائلا: ” يعود بنا هذا الحادث إلى الحرائق والتفجيرات التي تعرضت لها مواقع نووية وعسكرية إيرانية خلال الأشهرالسابقة ووصفت في حينها بأنها أعمال تخريبية واختراقات أمنية إلكترونية، ربما كانت نتيجة لسطو إسرائيل قبل عامين على وثائق نووية إيرانية سرية كانت مخبأة في منطقة بجنوب طهران”.
ومن خلال التصريحات الواردة على ألسنة مسؤولين إيرانيين حول وجود مؤشرات على دور إسرائيل في اغتيال محسن زاده، ومن خلال ما طرح عبر وسائل إعلام مختلفة عن استعداد الجيش الإسرائيلي لتوجيه ضربة لإيران، بات من المرجح أن تقوم إسرائيل بتوجيه ضربة أو عدة ضربات مباشرة لمنشآت نووية إيرانية، بدعم من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، قبل أن يرحل عن البيت الأبيض.
وبحسب مراقبين ، ستوجه إدارة الرئيس ترامب ضربات لإيران في حال شعرت بوجود خطر حقيقي على أمن إسرائيل. وإن حدثت هذه الضربة المباشرة فسيكون هناك رد إيراني مباشر ضد المصالح الأمريكية بدول الخليج، أو غير مباشر عن طريق عمليات انتقامية في المنطقة أو في مناطق أخرى من العالم، عبر أذرع إيران التي أعدتها لهذا الهدف.
وإن تطورت الأحداث إلى حرب فستتأثر المنطقة بكاملها وتعود إلى الواجهة ما كان يعرف بحرب الناقلات إبان الحرب العراقية الإيرانية، مما سيؤثر بالسلب على منطقة الخليج وعلى صناعة النفط والاقتصاد العالمي”.
من جانبه قال حماده امام، نائب رئيس تحرير الشروق وصاحب كتاب “الموساد اغتيال زعماء وعلماء” أن اسرائيل: “استعجلت المواجهة مع ايران وقررت تلغيم الطريق امام الرئيس الامريكى الجديد قبل أن يجلس على كرسيه بالبيت الابيض، بفتح جبهة مع ايران بقتل أبو القنبلة النووية محسن فخري زادة، لكن لم تضع إسرائيل في اعتبارها أن الخليج ودوله التي قامت بالتطبيع معه ستكون ميدان الرماية، إذ تشهد أراضيها تصفية الحساب بينهم بعد أن أصبح لإسرائيل سفارات ودبلوماسيين ومكاتب تمثيل تجاري بالخليج مع الأخذ بعين الاعتبار أن 16% من سكانه ينتمون للمذهب الشيعي، وهو ما تراه إيران بابا او منفذا للانتقام إن أرادت، إلا أن ردة الفعل الإيرانية قد تتأخر إلى ما بعد 20 يناير 2021 حتى تفسد مخطط إسرائيل في منع التقارب المتوقع بين بايدن وإيران”.