فكرة أن فلسطين تحتاج الى كل جهد ممكن، جعلت أنيس النقاش يفكر في كل ما هو صعب وحتى مستحيل. واحد من الامور التي أخذت من عقله وبحثه من دون الوصول الى جهد متكامل، فكرة مواجهة الفتنة الاميركية في العالم الاسلامي بمشروع سمّاه «وحدة الجهاديتين».
كان أنيس حاسماً في تبنّيه لموقع الثورة الاسلامية الايرانية والقوى المقاومة الملتصقة بها في مشروع تحرير فلسطين. كان من الذين بكّروا في اعتبار الجهادية الاسلامية الشيعية ركناً اساسياً في معركة التحرير الكبرى. وهو لم يكن يشعر بأن طبيعة العقيدة التي حكمت الثورة في ايران ستكون مانعاً امام قيام تحالف عربي – إسلامي، ليس بالمعنى الجغرافي أو العرقي، بل بالمعنى العقائدي، أي بإمكان قيام تحالف بين معتنقي الفكر الجهادي الاسلامي ومعتنقي الفكر القومي العربي، وأن بمقدور هذا التحالف أن يمحو فكرة هواجس الاقليات الطائفية أو حتى العقائدية، ويتيح قيام جبهة كبيرة تنتشر على طول العالم العربي والاسلامي وتتيح الوصول الى آلية تنهي حكماً الاحتلال الصهيوني لفلسطين، وتحرر العالم العربي من أنظمة تابعة للاستعمار الغربي.
ما استجد امام أنيس وآخرين كتحدٍ، هو ما رافق صعود الجهادية السنية مع خروج مجموعات كبيرة من رحم الاخوان المسلمين أو الفرق السلفية وانضوائها في معارك ذات طابع تحرري. لم يكن أنيس معجباً على الاطلاق بالتحالف بين تنظيم القاعدة والحكومات الغربية في مواجهة الاتحاد السوفياتي، لكنه كان مقتنعاً بأهمية حصول تحولات كبيرة تقود الى جعل «القاعدة» منخرطاً بصورة مباشرة في المعركة الكبرى ضد الاحتلال الاميركي وضد إسرائيل على وجه الخصوص.
ومع تعزز وجود تنظيم «القاعدة» ونفوذه بين قواعد الشباب الجهادي السنّي، وأمام تخاذل القيادة التقليدية للقوى الاسلامية السنية، جاءت غزوة 11 ايلول وما تلاها من معارك كبرى في العراق وأفغانستان ومناطق أخرى من العالم العربي والاسلامي. لم يكن أنيس ليبرر ما قام به «القاعدة»، خصوصاً ضرب أهداف ذات طابع مدني، لكنه لم يكن ليدين مثل هذه الاعمال إن كانت تصعّب على الاميركيين معاركهم ضد الشعوب العربية والاسلامية. وما تبادر الى ذهنه في ذلك الحين، هو كيفية استغلال المواجهة بين الغرب بقيادة أميركا وحلفائها العرب، وبين تنظيم القاعدة بفروعه كافة، من أجل جرّ الحركة الجهادية السنية الى قلب المواجهة مع اسرائيل أولاً، بالتوازي مع مواجهة مركزة ومنسقة ومدروسة ضد قوات الاحتلال الاميركي في العراق أو أي منطقة اخرى من العالم العربي والاسلامي.
في تلك السنوات التي ضجت فيها النقاشات الصعبة، كان أنيس يطرح الاشكالية الصعبة والمعقدة، بل المستحيلة، وكان سؤاله: ألا يمكن لعنوان تحرير فلسطين أن يكون هو منطقة التفاهم المشتركة بين الجهاديتين السنية والشيعية، ما يجعل العالم كله ينشغل في مواجهة اقوى جبهة عربية – اسلامية من شأن توحدها هزيمة الاحتلال الاميركي واسقاط عروش الانظمة العميلة للغرب والشروع في خطوات كبيرة نحو تحرير فلسطين؟
كان له على الدوام ما يرويه من تجارب تؤكد أنّ تبدّل حمَلة الرايات لا يلغي أن القضية الاساس تبقى إزالة إسرائيل
سيكون من الصعب اليوم استعادة كل النقاشات التي جرت حول هذه الفكرة في كل الاماكن والعواصم والعقول المعنية. لكن أنيس، الذي أحزنه السلوك غير المنطقي للتنظيمات السلفية في العراق وسوريا والجزيرة العربية، لم يكن شديد السرور بحالة «التقوقع» التي ظهرت على قوى شيعية في العراق تحديداً. وكان نقاشه وسجاله عنيفَين مع هؤلاء، وحتى مع الايرانيين وحزب الله. وكان يرى في التطرفين خطراً مشتركاً فيه أهوال تفوق بكثير أهوال أي تحالف جهادي بين الفرقتين المقاتلتين عند الجهاديين السنّة والشيعة.
لم يكن أنيس متهوراً كما يعتقد بعض من كان يسمع صوته مرتفعاً. لكنه مات وهو يرفض منطق التسويات الجانبية في هذه المنطقة أو تلك. وكان البارز في محطته السياسية الاخيرة، اقترابه من منطق التلازم بين شعاري التحرير والتغيير الداخلي. ولم يكن يقبل او يبرر الصمت على موبقات حكومات وانظمة وقوى وشخصيات لمجرد انها تعلن تأييدها للمقاومة. ولم يكن يخفي حماسته ودعمه لفكرة العمل المقاوم الداخلي بموازاة المعركة الكبرى في مواجهة جيوش الاحتلال والاستعمار. وهذا ما جعله يبدو في بعض الاحيان كمن أخذ مسافة من الاستراتيجيات الكبرى، علماً بأنه لم يفته يوماً، أن حماية قدرات المقاومة وقوتها في لبنان وفلسطين يجب أن تبقى أولوية رئيسية، لكنه كان يؤمن بوجود إمكانية لمواءمة ما، بين فكرتي التحرير والتغيير، ولو تطلب الامر بعض التضحيات وبعض القسوة ايضاً.
شكّل المناضل الاممي أنيس النقاش حلقة واصلة بين ثلاثة أجيال شاهدة على المعركة الكبرى في وجه الاحتلال الصهيوني وداعميه وحلفائه في المنطقة والعالم. وكان له على الدوام ما يرويه من تجارب تؤكد أن مواجهة الاستعمار هي الثابت الوحيد، وأنّ تبدّل حمَلة الرايات لا يلغي أن القضية الاساس تبقى إزالة إسرائيل باعتبارها مصدر الشرور التي تصيب شعوبنا.
رحل أنيس فجأة، لكن أفكاره السجالية ستبقى حاضرة من زاوية حث الناس على التفكير كل يوم، في ابتداع آليات وأطر وطرح افكار تجمع شمل الأمة، وتقودها نحو نصر أكيد.
أنيس نقاش… وُعودُ العاصفة
«كان عمري سبع سنوات عندما شاركت للمرة الأولى في تظاهرة تضامنية مرت قرب مدرستي، المقاصد، مع المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد، بعد صدور قرار من سلطات الاستعمار الفرنسي بإعدامها. وصلت المسيرة الى ساحة الشهداء ولم أعرف بعدها كيف أعود الى منزلي». كانت هذه المشاركة الخطوة الأولى في مسيرة أنيس النقاش النضالية، التي كثيراً ما قادته بعيداً عن منزل العائلة والأحبّة، وهو من قضى عشر سنوات في السجون الفرنسية بعد محاولة اغتياله لشهبور بختيار، آخر رئيس وزراء لشاه إيران، في فرنسا في 1980. في سنة 1968، وكان في الـ16 من العمر، وبينما كان يقوم بواجب العزاء في بيت أحد الجيران، سمع قصة سيدة فلسطينية من مخيم شاتيلا تعرضت للاعتقال والتعذيب من قبل المكتب الثاني اللبناني آنذاك، الذي كان يلاحق ابنها العضو في حركة فتح. صعق أنيس لما سمعه، وقرر الذهاب مع أصدقاء له لزيارة المخيم ومعرفة المزيد عمّا جرى. «ما رأيتُه في المخيم، ومن أحوال أهله، كان كافياً لأقرر الانضمام إلى فتح. كان لفتح تنظيم ناشط في «المقاصد»، وأصبحت بسرعة أحد أعضائه البارزين». فلسطين أضحت قضية أنيس الأولى والأخيرة، حمل السلاح في صفوف ثورتها وأسهم في جميع معاركها، وجمعته بقادتها وكوادرها ومناضليها صلة أخوية وروحية، إلى درجة أنه قال، بعد خروجه من السجن، ومضيّ سنتين على اغتيال القائد الرمز خليل الوزير: «لقد فقدت أبي الثاني». لكن فلسطين لم تكن بنظر الأخ مازن، وهو الأسم الحركي لأنيس في فتح، مجرد قضية شعب شرّد من أرضه من قبل استعمار استيطاني إحلالي، بل الساحة المركزية في صراع شعوب المنطقة العربية والإسلامية ضد الهيمنة الإمبريالية الأميركية والغربية، وجزءاً لا يتجزأ من نضال شعوب العالم الثالث ضد هذه الهيمنة. هذه الاقتناعات قادته، بين أسباب أخرى، إلى المشاركة مع مناضلين أمميين بينهم كارلوس، في عملية احتجاز وزراء نفط دول «أوبك» في فيينا عام 1975، وإلى التماهي الكامل مع الثورة الإسلامية في إيران التي كان بين أسبابها تحالف نظام الشاه مع الكيان الصهيوني.
فلسطين لم تكن بنظر أنيس مجرد قضية شعب شرّد من أرضه من قبل استعمار استيطاني إحلالي
فلسطين، كعنوان لمعركة تحرير المنطقة من الهيمنة الإمبريالية، جمعت أنيس النقاش بالشهيد محمد صالح الحسيني وبمحسن رفيق دوست ومحسن رضائي وجلال الفارسي وغيرهم من كوادر الثورة في إيران وقادتها. وقد اتضح مع مرور الزمن، وثبات الجمهورية الإسلامية على موقفها المبدئي من القضية الفلسطينية وخيار المقاومة ومناهضة السيطرة الإمبريالية على المنطقة، والأثمان الباهظة التي تكلفتها وما زالت نتيجة لذلك، دقة رؤيته وصوابيتها. وقد توثقت علاقته بعد خروجه من السجن في فرنسا سنة 1990 بقادة المقاومة الإسلامية في لبنان، وفي مقدمتهم الشهيد الحاج عماد مغنية، بعد أن عرفهم في مقتبل شبابهم في أواخر السبعينيات، ورأى في تجربتهم العسكرية والسياسية استمراراً متطوراً لتجربة المقاومة الفلسطينية، ونموذجاً يُحتذى في فلسطين وبقية بلدان المنطقة التي تعرضت للغزو والاحتلال كالعراق وجزء من سوريا.
لقد آمن الأخ مازن بوعود العاصفة، الثورة الفلسطينية ممثلة بفتح عند انطلاقتها، حاله كحال آلاف المناضلين والشهداء الفلسطينيين واللبنانيين والعرب والأمميين، الذين قدموا تضحيات هائلة من أجل تحرير فلسطين والمنطقة من براثن السيطرة الغربية – الصهيونية، وتحقيق تطلعات شعوبها في الوحدة والنهضة والعدالة الاجتماعية. وهي ستبقى نصب أعين الأحرار والقوى الحيّة في هذه الأمة حتى تحققها.
الوداع الصعب يا «أنيس» فلسطين
رحل أنيس نقاش على يد كورونا، وهو الذي نذر نفسه ليرحل شهيداً طوال خمسين عاماً من حياته مناضلاً مجاهداً وبوصلته متّجهة إلى فلسطين. ولم يبدّل تبديلا. فهو شهيد بنيته بالرغم من غدر كورونا اللعين.
مثّل أنيس نقاش جيلاً من اللبنانيين والعرب، جعل بوصلته النضالية تحرير الأمة ووحدتها ومقاومة الهيمنة الإمبريالية الأميركية من خلال الانخراط في الثورة الفلسطينية، ليس دعماً للشعب الفلسطيني فحسب، وإنما أيضاً، بل وأساساً، باعتبار قضية فلسطين لبنانية – عربية، سواء بسواء كما هي بالنسبة إلى الفلسطيني.
عندما بدأ أنيس نقاش رحلة العمر الكفاحية من خلال الانخراط في فتح والثورة الفلسطينية، لم يكن هنالك شيء اسمه منظمة التحرير الفلسطينية «الممثل الشرعي والوحيد»، وإنما كان فقط هنالك قضية فلسطينية، باعتبارها قضية العرب الأولى والمركزية. وكان هنالك منظمة التحرير الفلسطينية، والفصائل الفلسطينية، التي تعتبر في منطلقاتها: فلسطين جزءاً من الوطن العربي، والشعب الفلسطيني جزءاً من الأمة العربية. بل كان من المستهجن ذكر النظرة القطرية القائلة: بـ«الفلسطنة» فلسطينياً، أو التي تعتبر الانتساب القطري، في الأقطار العربية، هو انتساب للقطر أولاً. وما كان لأحد أن يردّدها، إذ كان جيل أنيس نقاش من لبنانيين وعرب يردّون عليها بقوّة ليس بلغة القلم واللسان، وإنما بلغة الفعل وبذل الدم ونيل الشهادة في القتال ضد العدو الصهيوني.
كان جيل الشباب الذين في عمر أنيس نقاش، والمتطلعون إلى التغيير والنهضة والتحرر والعدالة الاجتماعية، وكان أنيس في المقدمة، يجدون الطريق إلى الثورة في بلادهم أو في البلاد العربية تمر عبر الكفاح من أجل فلسطين. فهم أصلاء في الثورة الفلسطينية كأيٍّ من أبنائها الفلسطينيين. بل يمكن القول إن أنيس نقاش وأبناء جيله، وبعضهم لم يصل إلى العشرين عاماً بعد، قد أخذوا يقودون التظاهرات ويعبئون زملاءهم في الثانويات ليذهبوا إلى مراكز التدريب، ويتوجهوا جنوباً للمشاركة في صدّ أي عدوان صهيوني في أوائل السبعينيات على العرقوب أو كفرشوبا وغيرهما من القرى والبلدات.
أنيس نقاش كان بارزاً ومتميزاً بهذا النموذج الشبابي الممتلئ وعياً ثورياً، والمترفّع عن كل مصلحة ذاتية تبحث عن مستقبل من خلال شهادة علمية، أو من خلال عمل في دولة من دول الخليج. لقد أصبح المستقبل الشخصي كله خاضعاً للثورة الفلسطينية، وما يتبع ذلك من تضحيات واستشهاد.
وكنتَ في ذلك الوقت، إن سألت عن أنيس لوجدتَه جاء إلى بيروت وغادرها إلى الجنوب، أو الجبل، في الحرب الأهلية، فهو دائماً هنا وهناك وهنالك. فنشاطه كان ليل نهار لا يكلّ ولا يملّ. وكان طوال حياته ممارساً وقائداً ميدانياً، إلّا في العشر سنوات التي قضاها في السجن لتأخذ نشاطيته جولات في الثقافة دراسة وتعلّماً وقراءة وتثقفاً، ليعود بعدها مع التقدم في بداية الأربعينيات من عمره، ليصبح من المناظرين في أجهزة الإعلام والندوات السياسية بما يمسّ الفلسفة، وعلم السياسة والحرب، وإدارة الصراع والاستراتيجية. وقد أخذ اهتمامه بالبعد الأمني مساحة واسعة من وعيه ونشاطه واهتماماته.
أنيس نقاش كان من الأوائل الذين التقطوا أهمية الثورة الإسلامية في إيران. لا من ناحية أهميتها بانتزاع إيران من براثن طاغوت الشاه والإمبريالية الأميركية فحسب، وإنما أيضاً وبالدرجة الأولى باعتبارها ثورة حضارية أعادت للإسلام مكانته في السياسة الدولية. وقد ركز وبصورة مبكرة وعياً يدرك أهمية الثورة الإسلامية في إيران بالنسبة إلى القضية الفلسطينية. وهذا الوعي هو الذي ذهب بأنيس نقاش إلى أن يصبح رمزاً عربياً لبنانياً فلسطينياً، يشارك في الجهد الثوري الذي وضعته إيران منذ اليوم الأول من ثورتها في الوقوف مع فلسطين ومواجهة العدو الصهيوني.
لقد أثبتت عشرات السنين أن الجمهورية الإسلامية من جهة، والمقاومة الإسلامية في لبنان من جهة أخرى، ومدهما يد التعاون والتشارك والدعم للمقاومة الفلسطينية، ونصرة القضية الفلسطينية، أن إيران بقيت الدولة الوحيدة في العالم التي لا تعترف بالكيان الصهيوني وشرعية وجوده في فلسطين، بل أصبحت اليوم العدو الأول، في نظر أميركا، للكيان الصهيوني. بل أصبحت المعركة المفتوحة الآن بين أميركا والكيان الصهيوني من جهة، ومحور المقاومة من جهة ثانية، هي التي ستقرر مصير فلسطين والمنطقة لعشرات السنين القادمة. الأمر الذي يثبت أن أنيس نقاش – بوجوده في قلب المعركة في فلسطين، ومن أجل فلسطين، سواء أكان موقعه في لبنان أم ضمن محور المقاومة عموماً، ولا سيما إيران وسورية – كان نافذ النظرة محافظاً على البوصلة الحقيقية المصوّبة إبرتها إلى القدس ويافا وحيفا وعسقلان.
فرحمة الله على أنيس نقاش، وأسكنه فسيح جنانه. وقد خسره لبنان وخسرته فلسطين، وخسره محور المقاومة.
انا ابن فلسطين ما هتفتُ غيرها
«آه يا حكام العرب
يا رب يصيبن جرب
عم بيصفوا القضية
بالحلول السلمية
قولوا للرؤسا قولوا
قولوا لكل الملوك
هالثورة ما بتتصفّى
الجماهير على صفا»
(أول معرفتي بالأخ أنيس النقاش كان يهتف بهذه الأغنية في مسيرة طلابية حاشدة استنكاراً للهجوم الذي شنته قوات النظام الأردني بهدف تصفية الوجود الفلسطيني المسلح ومنعه من ممارسة عمله الفدائي على حدود فلسطين المحتلة، وذلك عام 1970، في ما عرف يومذاك بحوادث أيلول الأسود).
لست في وارد كتابة سيرة ذاتية للفقيد الكبير، فقد تكلم هو عن تاريخه وكتب عنه في أكثر من مكان. بل أريد أن أتكلم عن بعض الصفات التي كان يتمتع بها هذا النوع من الثوار الذين يستحقون الدخول في ضمائر الشعوب، وخاصة الأجيال الشابة التي تتوق إلى العمل الجهادي والتغييري والنهضوي.
1- كان أنيس عاشقاً ذاب في عشقه حتى غاب وشرب الكأس حتى الثمالة، بلا تردد ولا مواربة، بعكس ما يفعل أنصاف وأرباع العاشقين، فلا تدري بين يدي الحديث عنه عما تتكلم. أعن العاشق أم عن المعشوق أم عن العشق الذي يمارسه العاشقون من دون تجشم جهد التفسير. فلم يكن أنيس ممن «يضعون رِجلاً في البور ورجلاً في الفلاحة»، كما ورد في أمثال الفلاحين. ولم يرتد البزة العسكرية وهو يخبّئ الطقم والكرافات في مكان ما وراء خط القتال. ولم يكن من ثوريي المقاهي والمكاتب وأروقة المؤتمرات، بل عاش قضية النضال والثورة بكل جسده وفكره وروحه. كان لا يستطيع أن يجلس مستكيناً في صفه الدراسي في مدرسة المقاصد، بينما هناك حرب تشنها القوات الاسرائيلية الغازية على الجبهات العربية في حزيران 1967، فقفز عن سور المدرسة العالي وذهب الى منزله وأحضر جهاز ترانزيستور ليتابع مسار المعركة. لم يكن يكتفي بأن هناك أحزاباً كبيرة وتنظيمات فلسطينية قادرة على القيام بالواجب الوطني، بل أقنع قيادة «فتح» بتشكيل ما سُمّي يومها «تنظيم أنصار الثورة الفلسطينية» على امتداد الساحة الطلابية، للقيام بواجب الدفاع عن حق الثورة الفلسطينية في العمل من الأراضي اللبنانية.
ثم في مرحلة لاحقة، أي بعد الاجتياح الاسرائيلي عام 1978، أسهم في تشكيل ما سمّي «حركة لبنان العربي» و«قوات الأرض»، بمشاركة مجموعات من المناطق اللبنانية كافة، سعياً لتأسيس إطار لمقاومة لبنانية مسلحة غير خاضعة لتوازنات القوى الاقليمية والدولية التي كانت تكبّل حركة الاحزاب اللبنانية والتنظيمات الفلسطينية بمرجعياتها ومصادر تمويلها المختلفة. لكن هذه المحاولة فشلت، لعجز الراعي الفلسطيني عن مواكبتها حتى النهاية، ورضوخه لضغوط شتى، كان من بينها ضغوط السفارة السوفياتية. وقد كان لهذه التجربة أثر مهم في إنضاج وعي مقاوم لدى المئات من الشباب المدرب الذي أسهم في مرحلة لاحقة بدور كبير عبر التحاقه بالحركات المقاومة التي تشكلت بعد الاجتياح الاسرائيلي عام 1982، حاملين تجربتهم وأسلحتهم التي خلّفوها في بيوت ومخابئ في الجنوب المحتل. ولا يجوز التغاضي عن التجربة السياسية المميزة التي خاضتها هذه المجموعة التي كان أنيس أساسياً في تشكيلها، والتي كانت توأماً لما كان يسمّى الكتيبة الطلابية لحركة فتح. فهي حملت إرثاً معادياً للحرب الأهلية، داعياً الى السعي بكل قوة لإيقافها ومنع تمدّدها، والتركيز على قتال العدو الصهيوني. وقد كان مؤيداً للسياسة التي كان ينتهجها الامام موسى الصدر الذي بذل أقصى جهده وصولاً الى إعلان الاضراب عن الطعام لمحاولة الضغط على الأفرقاء على جانبي خطوط التماس القتالي العملي والنفسي المتخيل، لوقف الاقتتال والحد من الطموحات غير العقلانية، التي ثبت أنها كانت جزءاً من توجهات إقليمية ودولية بعيدة عن الشعارات المطروحة. فكانت العلاقة مع حركة أمل بشخص الشهيد مصطفى شمران الذي كان مطّلعا على ظروف النهضة الاسلامية في إيران ومواكباً لها.
ومن موقعه الباحث دائماً عن اشتباك مع العدو الصهيوني، سعى الى تأسيس إطار تنظيمي سريّ في قرى الشريط اللبناني المحاذي للحدود الفلسطينية. لكنّ الأحداث المتسارعة التي شهدتها منطقة الشريط بعد عام 1976 حدّت من تطور هذا المشروع.
لم يكن يوماً أنيس منفصلاً عن قضية النضال والعمل النضالي الجاد الذي انخرط فيه حتى النخاع، منذ اليوم الأول الذي تعرفنا عليه فيه، حتى اليوم الذي فارق فيه الحياة الدنيا معلناً استحقاقيته لإجازة طويلة.
2- ليس بإمكانك التعامل مع هذا النوع من الرجال الذي ينتمي اليه أنيس النقاش، بناءً على خلفية نمطية تم تشكيلها عنه، وبناءً على المعلومات الدينية أوالطائفية أو العرقية أو الجهوية، كذلك بناءً على انتماءاته الحزبية والتنظيمية، أو بناءً على علاقته بشخصية ما أو قوة سياسية ما. هو دائماً الانسان القلق الذي يبحث عن الحقيقة والصدق ووضوح الهدف تحت سقف شديد الارتفاع، يعبر فيه الى آفاق واسعة من الخيال الثوري والطموح المتدفق لتحقيق الانجاز. فهو المسلم الباحث عن سبل تأمين انخراط المسيحيين في العمل الثوري. وهو السنّي المدافع عن الشيعة والداعي الى تشكيل جهاديتين شيعية وسنية لمواجهة الهجمة الاستعمارية. وهو اللبناني الذي يقاتل في فلسطين، والفلسطيني الذي يعلم أن لا إمكانية لتحريرها من دون الأمة. وهو العربي الناصري الذي وجد ضالته في الامام الخميني وفي إيران الاسلامية. وهو العربي الذي طرح فكرة التشبيك بين عناصر الأمة المختلفة، بين العرب والإيرانيين والأتراك، خاصة في منطقة المشرق، لأن لا مستقبل آمنا لبلادنا من دون شبكة أمان إقليمية يجد فيها جميع الأطراف من أهل المنطقة مصالحهم. وهو المقاوم الذي لا يستكين لاعتبار محور المقاومة منتصراً، وبالتالي لا يقبل بأنه «قد كفى الله المؤمنين شر القتال»، بل يريد من جميع الافراد، على اختلاف مواقعهم ومستوياتهم العلمية والثقافية، والمؤسسات على تنوّعها، أن يسهموا، كل على قدره ومن موقعه، في صناعة الانتصار وتمتينه. وهو لا يرى حرجاً في توجيه النقد الى الجميع، معتبراً أن عملية النقد البنّاء هي الأداة الناجعة في خدمة الجهد العام الذي تخوضه الامة.
3- كان أنيس الاستراتيجي الواضح الذي لا يضيّع الموقف الاستراتيجي خدمة لتكتيكات شعبوية أو مكاسب صغيرة لا تغني ولا تسمن. بل يرى الصورة الواسعة للمعركة بكل خطوطها وتفاصيلها، ويدرك أين تقع اتجاهاتها الحاسمة، وكيف يمكن صناعة اللحظة التاريخية لتحقيق الانتصار التاريخي. ولكن لا يعتبر أن المعارك الصغيرة غير ذات أهمية، ويمكن خسارتها لأسباب واهية، بل يعتبر أن التفاصيل الصغيرة قد تحمل معاني كبيرة، وأن المعارك الصغيرة تراكم هزائم كبيرة اذا لم تجر إدارتها بعقل تكتيكي سليم.
4- اعتبر الفقيد الكبير أن لمعركة تحرير فلسطين القول الفصل في عملية نهوض الأمة واكتسابها وزنها الاستراتيجي بين الأمم. واذا لم تجهز العدة والعتاد لهذه العملية الكبيرة والصعبة والشاقة، فلا يمكن لها أن تنظر، أولاً الى نفسها بعين الرضى، وثانياً هي لا يمكنها أن تخرج طاقاتها الدفينة والخير الرابض في أعماق نفوس أبنائها من دون الدخول في أتونها، والتي لا يمكن الولوج في معركة النهوض الشامل والتنمية والتصنيع وتحقيق الاستقلال عن النفوذ الغربي الا في خضمها. وهذه المعركة التي يجب مواصلتها حتى النصر، والتي يمكن أن تتعرف الأمة الى نفسها من خلالها، وتنشئ محاور تحالفاتها وتحدد جبهات أعدائها ودرجات عدائهم. لذلك كان التحاقه بصفوف حركة التحرير الوطني الفلسطيني، «فتح»، التي كانت تؤكد أدبياتها المبكرة شعارات مثل «فتح ديمومة الثورة والعاصفة شعلة الكفاح المسلح»، أو «فتح طليعة الثورة العربية الشاملة». لذلك، فقد كان الانتماء الى «فتح» يعني الانتماء الى عنصر التثوير الذي خلفته الهزيمة داخل الوجدان العربي. وهو انتماء الى قوة شعبية عميقة الجذور داخل الشعب الفلسطيني، يحظى برعاية محور المقاومة الناصرية في القاهرة. وهو الذي تحول بعد معركة الكرامة في عام 1968 الى بركان من الثورة والتحدي. من هنا فقد كان الانتماء الى «فتح» دخولاً مباشراً في معركة نهوض الأمة. وقد كان شخصياً على علاقة مميزة مع الرموز النضالية كافة في حركة «فتح»، الذين سبقوه بمعظمهم الى الشهادة في سبيل قضيتهم العادلة. وكان لأنيس رصيد نضالي في حركة «فتح» أسهم من خلاله في تمتين العلاقات مع الثورة الاسلامية الناهضة مند بداية انتصارها، ثم كذلك في مرحلة الانتفاضة الفلسطينية الثانية داخل الأرض المحتلة.
5- لقد أدرك أنيس باكراً أهمية وضع كل طاقات الأمة في معركة التحرير وتحقيق الاستقلال الشامل، فكانت علاقته بالشهيد محمد صالح الحسيني، المبكرة منذ أواسط السبعينيات من القرن الماضي، الذي تعرف من خلاله الى أهمية إيران داخل الأمة وما تختزنه من قوى ثورية فاعلة وقادرة على إحداث تغيير جذري للعلاقة بين القوى، إذا ما قدِّر لثورتها النصر. وقد كانت لحظة انتصار الثورة الاسلامية عام 1979 لحظة فرح عارم، تأكد فيها لكل الوطنيين أن عصراً جديداً قد بدأ، فسارع الى الالتحاق بهذا المشروع الثوري وقدم التضحيات الكبيرة أمام هذا الانتماء.
رحمك الله أيها المجاهد الكبير، وأحسن مثواك. نشهد أنك أبليت بلاءً حسناً، وكرّست حياتك في سبيل مبادئ وقيم الحق والعدل والحرية… ونسأل الله أن يحتسبك شهيداً إنه سميع مجيب.
وداعاً أبا المزن
الكويت | لم أؤبّن أحداً من قبل، وأنا العبد الفقير. فما لي والقولان. لذا فليُعِنّي الله، وأنا ها هنا أقف لأقول شيئاً في عملاق. نعم عملاق. لقد عاش محلّقاً عالياً شامخاً طائراً في آفاق المعمورة كلّها.
نعم، لقد كان عالمياً. لقد كان عالمياً بعشقه، وهو الولِه البشوش، برشاقة روحه واتّزانها. مبهور بفنون وكذلك يُبهرك بفنون.
ربما إني أفتقد المتنبي الآن. ليته ها هنا ليسعفني لأرثيك يا أبا المزن.
سأفتقدك وأندب نفسي، لأني لم أدرك قبل رحيلك تلك المعاني والقيم والنماذج التي تجلّت بك.
ليتني قلت لك وداعاً وطبعت قبلة على جبهتك الوضاءة.
من عرف أنيس نقاش حقاً ولم يعشقه…لا يعرف العشق.
فقدناك أخاً حبيباً وستبقى لنا أستاذاً وملهماً وفخراً.