غزة | تتّجه الأنظار، اليوم الإثنين، إلى مدينة القدس المحتلّة، حيث يستعدّ الفلسطينيون لمواجهة أكبر الخطوات الاستفزازية المتواصلة منذ بداية شهر رمضان في المدينة. خطوةٌ بدت واضحةً أمس إرادةُ العدو التخفيف من وقعها، توازياً مع توجيهه بتهدئة ملفّ حيّ الشيخ جرّاح مؤقّتاً، خشية تدحرج الأحداث إلى انتفاضة شاملة، تجرّ بدورها تصعيداً عسكرياً مع قطاع غزة، الذي ينصبّ الاهتمام الإسرائيلي عليه، في ظلّ توثّب دقيق ومذهل تُظهره فصائل المقاومة هناك. هكذا، تجد إسرائيل نفسها بين خيارَين أحلاهما مرّ: إمّا تهدئة مؤقتّة ستكون لها تداعيات خطيرة على الأمد البعيد، وإمّا اشتغال على النتائج الاستراتيجية سيكون له ثمنه أيضاً، راهناً. والظاهر، إلى الآن، أن الكيان العبري يحاول الوقوف بين بين، من دون ضمانات بأن تؤتي سياسته تلك أُكُلها
مع اقتراب الساعة الصفر اليوم الإثنين، يستعدّ الفلسطينيون لمواجهة أكبر الخطوات الاستفزازية في المدينة المقدّسة، في وقت تحاول فيه سلطات الاحتلال خفْض مستوى التوتّر عبر إعلان تأجيل قرار المحكمة العليا بخصوص منازل الفلسطينيين في حيّ الشيخ جرّاح، ودرْس إمكانية إلغاء مسيرة المستوطنين الهادفة إلى اقتحام المسجد الأقصى. وبعد مصادمات عنيفة جرت في ثلاثة مواقع في مدينة القدس المحتلّة أمس وأوّل من أمس، خلال إحياء ليلة القدر داخل الحرم وأمام باب العمود وفي حيّ الشيخ جرّاح، واصلت سلطات العدو تعزيز قواتها في المدينة، لكنها فشلت في تقليص عدد المصلّين داخل الحرم أو إنهاء وقفات التضامن مع أهالي المنازل المهدَّدة بالمصادرة. كذلك، اندلعت، أمس، عدّة اشتباكات مع القوات الإسرائيلية في بلدة العيساوية، أدّت إلى إصابة ثلاثة جنود من شرطة الاحتلال بعد حملة اعتقالات شنّتها الشرطة ضدّ الشبّان الفلسطينيين، فيما أصيب 5 فلسطينيين بجروح مختلفة.
وفي وقت جدّد فيه الناطق باسم الذراع العسكرية لـ”حماس”، أبو عبيدة، تهديدات رئيس أركان “كتائب القسام”، محمد الضيف، للعدو على خلفية ما يجري في القدس، علمت “الأخبار”، من مصادر فلسطينية، أن فصائل المقاومة في قطاع غزة حدّدت يوم الإثنين وما يَنتج عنه موعداً لحسم الموقف في شأن تصعيد الردّ على الاحتلال، والذي بدأ منذ عدّة أيام بتفعيل الأدوات الخشنة على طول حدود القطاع، فيما يُتوقّع أن يكون الردّ الأكبر بعد هذا الموعد، وفق مشاورات متواصلة تُجريها فصائل المقاومة وأذرعها العسكرية. وعلى إثر التهديدات الفلسطينية، انتقل الاحتلال إلى خطوات هادفة إلى خفض منسوب التوتّر في مدينة القدس، خوفاً من تحوّل ما يجري إلى انتفاضة فلسطينية عارمة، ودخول المقاومة في غزة على خطّها، والانجرار إلى مواجهة عسكرية، وتصاعد الضغوط الدولية والعربية لوقف ما يجري في المدينة المقدسة، وهو ما تمّت مناقشته خلال عدّة جلسات تقدير موقف عُقدت في مقرّ وزارة الحرب “الكيرياه”، أوّل من أمس، وحضرها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، ووزير الجيش بيني غانتس، ورئيس هيئة الأركان أفيف كوخافي، وقادة “الموساد” و”الشاباك” والشرطة والمستشار القانوني في دولة الاحتلال، بحسب صحيفة “معاريف” العبرية.
حدّدت فصائل المقاومة في قطاع غزة يوم الإثنين وما يَنتج عنه موعداً لحسم الموقف
وبعد جلسة تقدير الموقف، أُوعز إلى المستشار القضائي في حكومة الاحتلال بالبحث عن وسيلة قانونية لتأجيل قضية “الشيخ جرّاح”، وهو ما تمّ مساء أمس عندما أعلنت المحكمة تأجيل بتّ القضية إلى الـ30 من الشهر الحالي، فيما فُوّض إلى شرطة الاحتلال تقدير الموقف بشأن مسيرة المستوطنين الهادفة إلى اقتحام الحرم القدسي عبر باب العمود، وإقامة صلوات تلمودية داخل المسجد الأقصى لأكثر من 2000 مستوطن. ويقضي التفويض بدراسة الوضع كلّ عدة ساعات، وتقدير إمكانية تنظيم المسيرة أو تقليل عدد المشاركين فيها أو تأجيلها أو إلغائها لمنع تصاعد الأحداث، في ظلّ حالة الشحن الكبير التي يعيشها الفلسطينيون، والمقدسيون منهم خاصة. وتعرّضت دولة الاحتلال لضغوط دولية وعربية خلال اليومين الأخيرين، بما في ذلك إصدار بيان من الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، يطالب إسرائيل بـ”ضبط النفس” ووقف ما يجري في مدينة القدس، إضافة إلى بيانات الدول العربية والدول المُطبّعة مع الكيان، وهو ما دفع رئيس وزراء العدو، بنيامين نتنياهو، إلى الإعراب عن رفض حكومته للضغوط الممارَسة عليها في شأن عدم الاستيطان في المدينة، قائلاً: “للأسف، هذه الضغوط تتزايد في الآونة الأخيرة، أقول لأصدقائنا في العالم، إن لكلّ دولة الحق في البناء في (عاصمتها) وكذلك نحن، هذا ما فعلناه وهذا ما سنواصل القيام به”.
وفي الضفة الغربية المحتلة، تواصلت الاشتباكات مع الاحتلال في عدّة مناطق، في وقت قرّر فيه رئيس أركان جيش العدو، آفيف كوخافي، تعزيز قوّاته في الضفة الغربية بثلاث كتائب، تُضاف إلى أربع كتائب تمّ نشرها أخيراً، بهدف مضاعفة الجاهزية، خصوصاً في مناطق التماس، وبذلك يصل مجموع كتائب جيش الاحتلال المنتشرة في الضفة إلى تسع، في كلّ منها 400 جندي، بمجموع يصل إلى 3600. وفي قطاع غزة، قصفت مدفعية العدو موقعاً للمقاومة جنوب القطاع فجر أمس، بعد إطلاق صاروخ تجاه مستوطنة “أشكول”. وترافق ذلك مع تواصُل عمليات إطلاق البالونات الحارقة والمتفجّرة، ما تسبّب في أكثر من 40 حريقاً في مستوطنات غلاف غزة، خصوصاً في ظلّ ارتفاع درجات الحرارة، والتي صعّبت عمليات إطفاء الحرائق من قِبَل الاحتلال. وليلاً، تواصلت عمليات الإرباك الليلي على طول حدود قطاع غزة، الأمر الذي اشتكى منه مستوطنو الغلاف، الذين عاشوا ليلة مليئة بالانفجارات والاهتزازات، فيما تمّ إيقاف حركة القطارات في المنطقة الجنوبية لوصول النيران إلى طريقها.
وبينما أعلن جيش العدو إغلاق بحر قطاع غزة بالكامل ردّاً على إطلاق الصواريخ والبالونات الحارقة، تعالت التهديدات الإسرائيلية للقطاع، على لسان نتنياهو الذي حذر من أن الجيش سيردّ بقوة على أيّ عمل عسكري صادر من غزة، فيما أشار وزير الاستخبارات، إيلي كوهين، إلى وجود جهد موسّع من قِبَل “حماس” لإشعال الوضع، ولذلك “نحن جاهزون على جميع الجبهات – الجيش والشاباك وكذلك الشرطة – إنني أنصح حماس بألّا تجرّبنا”. كذلك، نقلت “إذاعة الجيش” عن رئيس هيئة الأركان توجيهه بالاستعداد لعملية عسكرية كبيرة في القطاع. وشملت الأوامر، التي صدرت في أعقاب اجتماع عقده كوخافي مع رؤساء مستوطنات غلاف غزة، تحديث بنك أهداف سلاح الجو، إضافة إلى تعزيز منظومة القبّة الحديدية في المنطقة الجنوبية.
إسرائيل نحو انكفاء «مشروط»: اتّحاد القدس وغزة خطر داهم
في اليوم الذي أعقب التصعيد في القدس والحرم القدسي، كما اليوم الذي يسبق تصعيداً متوقّعاً بمستوى أعلى في الأيام المقبلة، تراشُق اتهامات بينية داخل إسرائيل وبحث في أخطائها. بعبارة أخرى، تُعلن إسرائيل وتقرّ بأنها فشلت في معالجة «احتجاجات» المقدسيين التي تسبّبت هي بها، وباتت تبحث الآن عن تقليل مستوى خسائرها، ومنْع الفلسطينيين، إن أمكن، من تحويل هذا الفشل إلى سلاح يُرفع في وجهها، لتثبيت حقوقهم، وإفشال مساعيها التي لا تنتهي في سلبها منهم. احتجاجات القدس هي إعادة تذكير لمَن يتناسى، بأن الاحتلال، وإن علت قدرته وسطوته، يخضع لمعادلة تتكاتف فيها القوة العسكرية وإرادة استخدامها ــــ وإن لم تُستخدم فعلياً ــــ، مع الاتحاد البيني لدى الفلسطينيين ووضعهم الانقسام الجغرافي جانباً، وكذلك المثابرة في إشعال الاحتجاج للوصول إلى تفشيل المساعي الإسرائيلية. والحديث هنا عن القدس، التي تُعدّ «قدس أقداس» الاحتلال، ويعتبر السعي إلى طرد الفلسطينيين منها بالقوة أو بالإغراء وما بينهما واحدةً من استراتيجياته المفعّلة منذ أن احتُلّت المدينة قبل عشرات السنين، وهو معنيّ بأن لا يسمح بإعلاء كلمة الفلسطينيين وعرقلة مخطّطاته، ما أمكنه ذلك.
وإن كان فشل إسرائيل في الجولة الحالية واضح المعالم ويمكن تقديره، إلا أن إعلان انتصار الفلسطينيين فيها لا يزال مبكراً أيضاً، على رغم أن كفّة المعركة، التي لم تنتهِ بعد، تميل إلى مصلحتهم. مع ذلك، فإن لِما يجري، كما هو إلى الآن، نتائج محقّقة، ومنها ما يمكن أن يُبنى عليه لحفظ حقوق الفلسطينيين، ومنها ما يُمكّنهم من فرض إرادتهم على الاحتلال لاسترجاع أخرى، إن أحسنوا استخدامها. وكما هو واضح، يتجاذب قرارَ إسرائيل اتجاهان، في ظلّ مساعيها إلى فرض الهدوء ومنع التسبّب بمستويات أعلى من التصعيد، وفي كلّ اتجاه فرصة وتهديد تختلف معقوليّتهما باختلاف القرارات التي يمكن أن تُتّخذ على أساسهما. يستند الاتجاه الأول إلى فكرة أن تمتنع إسرائيل عن استفزاز الفلسطينيين، عبر إجراءات تتراجع فيها عن قرارات اتّخذتها، أو تحدّ منها، سواء في ما يتعلق بإخلاء بيوت في حيّ الشيخ جرّاح، أو الحدّ من حركة المقدسيين تجاه الحرم القدسي ومداخله، وفي الاتجاه نفسه، تَمنع، أو في حدّ أدنى، تُقلّص اندفاعة المستوطنين وفعالياتهم في ما يُسمّى «يوم القدس» (الإسرائيلي). قرارات كهذه، ذات طبيعة انكفائية، إنما تأتي نتيجة ضغط فلسطيني، وهي من شأنها أن تنهي أو تحدّ بمستوى كبير من التصعيد، ما يؤدي إلى تحقيق مصلحة آنية ملحوظة للاحتلال، وخصوصاً أن الأخير يجد نفسه محتاجاً إلى الهدوء في ظرف ضاغط جدّاً، سواء داخلياً أو خارجياً، بعدما استدعت الاحتجاجات سلسلة إدانات خارجية، حتى من جهات عربية خليجية اصطفّت إلى جانب إسرائيل في الفترة الأخيرة.
الاحتجاجات ما كانت وحدها لتعطي نتائج طيّبة لو لم تكن القدرة العسكرية للمقاومة مفعّلة
على أن هذا الانكفاء لا يُعلم إلى أين سيصل، وخاصة أن المسألة لم تَعُد تتعلّق باحتجاجات مقدسية ضاغطة على إسرائيل فقط، بل باحتمالات التصعيد العسكري مع قطاع غزة، حيث القدرة على الإيذاء، مع إمكانات مرتفعة جدّاً للتسبُّب بجولة قتالية قد تتحوّل إلى تصعيد عسكري شامل. إلا أن ما يقابل تلك المصلحة الآنية (وها هنا الاتجاه الثاني) هو التهديد الكامن في سياقها، والمتمثّل في تلمّس الفلسطينيين حقيقة أن المثابرة على فعل الاحتجاج، مع إنضاج ظروف مساعدة لإنجاحه، سواء عبر إيجادها أو استغلال وجودها كما هي حال اصطفاف غزة عسكرياً إلى جانبهم، من شأنه أن يتحوّل إلى سلاح قادر على تثبيت الحقوق وحمايتها ومنع إسرائيل من الاستيلاء عليها. وهذا التهديد، على المدى الطويل، يُعدّ من ناحية الاحتلال سلاحاً «خارقاً للتوازن» من شأنه أن يحدّ من قدرة تل أبيب وسطوتها وخططها لتهويد مدينة القدس. كما أنه قابِل أيضاً للتطوّر، إن أحسن الفلسطينيون استخدامه، ليس في القدس المهدَّدة بشكل دائم فقط، بل أيضاً في الضفة الغربية حيث القضم والضمّ ومصادرة الأراضي. وهو بدوره مستوى آخر من التهديد، تخشى إسرائيل أن تصل إليه، وهي معنيّة بأن تحول دونه.
إلى أين سيتّجه القرار؟ هل تُفضّل إسرائيل المصلحة الآنية مع فوائدها المباشرة، أو منع التهديد على المدى الطويل؟ إشكالية يصعب الجزم بإجابتها، وإن كان الاحتلال سيسعى، على الأرجح، إلى إصدار قرارات مخلوطة من هذا وذاك، تهدف إلى تقليل الخسائر ما أمكن، عبر قرارات انكفائية غير حاسمة، وفي الوقت نفسه تَحول، ما أمكن أيضاً، دون تداعيات وخسائر استراتيجية على المدى الطويل. بالطبع، النتيجة، والحال هذه، تعني قرارات سيّالة جدّاً وصعبة التحقيق لتناقضها، وهنا معضلة صاحب القرار في تل أبيب، والتي أدّت إلى تقاذف الاتهامات بين المسؤولين وإلى مواقف ومطالبات متضادّة بتحمّل المسؤولية بين المؤسّسات المرتبطة بالقرار، وهو ما انعكس في الإعلام العبري، الذي أجاد سوق الاتهامات بدوره، ليُحمّل الفشل لكلّ القوس السياسي والأمني، بدءاً برئيس الحكومة ووزير الأمن الداخلي، وصولاً إلى أصغر شرطيّ نفّذ قرارات الشرطة في باب العمود. وكما هي العادة في إسرائيل، للنجاح ألف أب، وللفشل ألف أب آخر.
لدى الجانب الفلسطيني، يُسجَّل لفصائل المقاومة في غزة تموضعها العسكري الذي يؤثر في الاحتلال وفي اتجاهات قراراته، حتى من دون استخدام فعلي للقوة، وهو ما جعل الانكفاء مطروحاً بقوة على طاولة القرار في تل أبيب، فيما البحث الآن، كما يبدو، يدور حول شكل هذا الانكفاء وإخراجه. واللافت أن تموضع الفصائل عسكرياً لم يكن متسرّعاً، بل مواكباً للوضع الميداني في القدس، مع توثّب لاستخدام القوة إن لزم الأمر، من دون ردّة فعل غير متساوقة مع الميدان، ما يمنع التدحرج نحو تصعيد يمكن أن يتسبّب بمواجهة، تُرحّل القدس عن صدارة الاهتمام وتلجم تلقائياً الاحتجاجات. وعلى رغم أهمّية احتجاجات المقدسيين وعِظَم تضحياتهم، إلّا أن الاحتجاجات ما كانت وحدها لتعطي نتائج طيّبة في وجه الاحتلال، لو لم تكن القدرة العسكرية للمقاومة في غزة مصطفّة ومفعّلة ومتوثّبة إلى جانب المقدسيين، الأمر الذي يُفقد الاحتلال فاعلية أدوات قمعه المعتادة، لاتصال الاحتجاجات بعوامل قوة رديفة تخشاها إسرائيل، وتعمل على الحؤول دونها، وإن عبر انكفائها.