لم تكن السادسة من مساء أمس، ومن بعدها التاسعة مساء، إلّا موعداً جديداً لتثبيت مصداقية المقاومة الفلسطينية. ليس هذا فحسب، بل كانتا محاكاة عمليةً لواقعٍ جديد تفرضه المقاومة، وهو الفعل ضمن إطار ردّ الفعل، أي تحديد المسارات والتوقيت وطريقة العلاج. وحتى فجر اليوم، قدّمت المقاومة مهلة أخرى للعدو ساعتين بدءاً من 12.20 صباحاً لفكّ الحصار عن المسجد الأقصى، وإلّا فسيتوسع الردّ على نسق أكبر، عقب تهديد سابق بمفاجآت كبرى في حال استُهدفت بيوت المدنيين في غزة. الأهمّ هذه المرّة أنه لم يتوقّف المقدسيون أو أهالي الضفة والـ48 عندما انطلقت صواريخ غزة، بل رأوا أن الحِمل الأكبر لا يزال على عاتقهم، ولذلك وسّعوا المواجهة نطاقاً وكمّاً، بعدما زادت صواريخ غزة معنوياتهم. صواريخ كانت دقيقة ومدروسة في توقيتها ومكان سقوطها، وأدّت نتيجتها الأساسية في تشتيت «مسيرة الأعلام» وتأكيد وحدة المصير والشعب في المواجهة. كما سُجّل إنجاز آخر بقلّة عدد الصواريخ التي استطاعت «القبة الحديدية» التصدّي لها، لتَحدث إصابات مباشرة في عدد من البيوت، توازياً مع عملية نوعية وجريئة شرق غزة استهدفت «جيب» بصاروخ موجّه، وثّقتها المقاومة وأظهرت وقوع إصابات لا يزال العدو يتكتّم عليها، قبل أن يُكشف أن «الجيب» كان يضمّ وفداً عسكرياً يرأسه مسؤول وحدة العمليات في «فرقة غزة». وسط ذلك، لم يجد العدو إلّا إحداث مجازر أخرى راح ضحيّتها أكثر من 20 شهيداً في القدس وغزة، تسعة منهم أطفال
غزة | بعد ساعات من اقتحام قوات العدو الإسرائيلي المسجد الأقصى تمهيداً لإخلائه من المعتكفين الفلسطينيين والسماح للمستوطنين المتطرّفين بتدنيسه وإقامة صلوات تلمودية فيه، وتصدّي الشبان بأجسادهم العارية لهم، ألقت المقاومة الفلسطينية بثقلها على المشهد، عبر تنفيذها ضربات عسكرية كانت قد توعّدت بها خلال الأيام الماضية وآخرها أمس، فقلَبت المعادلة التي لا تزال متصاعدة بالقصف والقصف المتبادل. فمنذ ساعات باكرة من صباح أمس، اقتحمت قوات الاحتلال الأقصى، ما أدى إلى صدامات واسعة مع المعتكفين وإصابة أكثر من ألف فلسطيني، منهم 250 حُوّلوا لتلقي العلاج في المستشفيات الميدانية ومستشفيات القدس. ولم تتوقّف الاشتباكات في المدينة والحرم القدسي حتى منتصف الليل، ما رفع عدد الإصابات التي احتاجت إلى علاج إلى قرابة 400، بحسب المصادر الطبية.
رقعة الاشتباكات اتسعت في القدس لتصل إلى أكثر من خمس نقاط، في وقت اشتدّت فيه عمليات القمع والاعتقالات ضدّ الشبان، لتنتقل الاشتباكات إلى مناطق مختلفة في الضفة المحتلة وتصل إلى أكثر من عشر نقاط مواجهة، وهو ما دفع جيش العدو إلى تعزيز قواته فيها بأكثر من ثلاث كتائب إضافية. وبالتوازي، خرجت تظاهرات ضخمة في مدن فلسطين المحتلة عام 1948، ما شكّل مشهداً معقّداً ومعضلة متعدّدة الأطراف والأماكن للمستويَين السياسي والأمني في قيادة الاحتلال، لم تشهده منذ سنوات. وانطلقت التظاهرات الحاشدة في الناصرة وشفا عمرو ويافا وأم الفحم وعين ماهل وطمرة وباقة الغربية، بعدما شجّعها التضامن الكبير من الضفة وغزة مع القدس كلّ على طريقته، فيما اعتقلت شرطة الاحتلال 16 متظاهراً في اللد والرملة، كما اعتقلت شابَّين من سكان وادي عارة بزعم دهس شرطيّ عند مفرق مصمص.
تحكّمت المقاومة هذه المرّة في موعد بداية المواجهة وليس نهايتها فقط
أما ما فرط العقد، فهو إصرار الاحتلال على عدم التراجع عن السماح باقتحام المستوطنين للأقصى. وحتى قبل نصف ساعة من بدء جلسة «المجلس الوزاري المصغر» (الكابينت) المقرّرة الخامسة من مساء أمس، أمهلت «غرفة العمليات المشتركة لفصائل المقاومة» حكومة الاحتلال حتى السادسة مساءً لسحب قواتها من الحرم القدسي والإفراج عن جميع المعتقلين في الاشتباكات، وهو ما لم يستجب له الاحتلال، فبادرت المقاومة إلى تنفيذ تهديدها. وعلمت «الأخبار» أنه جرت مباحثات مع الوسطاء خلال اليومين الماضيين لمنع تدهور الأوضاع، إذ طلبت «حماس» سحب قوات الاحتلال من الحرم القدسي وإلغاء مسيرة المستوطنين والإفراج عن المعتقلين، الأمر الذي رفضته سلطات الاحتلال قطعياً، وأبلغت أنها ليست في صدد التجاوب مع أيّ طروحات لوقف الاعتداءات في القدس. مع ذلك، واصل الوسيط المصري مباحثاته لمنع تدهور الأوضاع إلى حرب، وهو ما ردّت عليه الحركة بأن «الكرة في ملعب الاحتلال»، وأن الصواريخ لن تتوقف ما لم تتوقف الاستفزازات في القدس، وأيضاً يجري التراجع عن جميع الخطوات بحق سكّان حيّ الشيخ جرّاح، ووقف تقييد حركة الفلسطينيين إلى الأقصى. كما سبق التصعيد نقْل المقاومة رسالة إلى تل أبيب عبر الوسيط المصري مفادها أن العدو يدفع باتجاه مواجهة عسكرية طويلة الأمد، وأن لدى المقاومة «جاهزية عالية لها»، ما يعني أن العدو هو من «يتحمّل مسؤولية هذه الحرب التي لن تنتهي إلا بشروط المقاومة بشأن القدس».
فور وصول الردّ الإسرائيلي إلى المقاومة، استنفر الاحتلال، وأصدرت شرطة العدو تعليمات إلى المستشفيات بالتأهّب للتعامل مع موجة عمليات، خاصة في مراكز المدن، فيما أغلق الجيش جميع الطرق المحيطة بقطاع غزة، ودعا المستوطنين إلى دخول الملاجئ حتى مدى 80 كيلومتراً بعيداً عن القطاع، وتلاه إعلان تحويل حركة الطائرات في مطار بن غوريون إلى مسارات بديلة. وعند السادسة، جاء ردّ المقاومة فور انتهاء المهلة، وقد بدأته باستهداف جيب عسكري شمال شرق غزة، ما أدى إلى إصابة جندي بجراح خطرة على الأقلّ، ثمّ بثّت «سرايا القدس»، الجناح العسكري لـ«الجهاد الإسلامي»، مشاهد العملية، ليتبع ذلك بدقائق قصف «كتائب القسام»، الجناح العسكري لـ«حماس»، مدينة القدس المحتلة برشقة صاروخية أدّت إلى تفريق مسيرة الأعلام الصهيونية وهرب المستوطنين من أماكن تجمعهم، بعدما كانوا يستعدون لاقتحام الأقصى، وأيضاً إخلاء مقرّ «الكنيست» الذي كانت تعقد فيه جلسة. وسريعاً، توالت الضربات التي نفذتها المقاومة عبر استهداف مدن «غلاف غزة» بأكثر من 150 صاروخ خلال ست ساعات، كما قصفت «سرايا القدس» مدينة تل أبيب المحتلة بعدد من الصواريخ.
في هذه الجولة، برزت المقاومة في حالة ندّية، وفرضت الوقائع على الاحتلال الذي فقد القدرة على تحديد موعد بداية المعركة التي تدرّب عليها طوال السنوات الماضية، فيما حملت تصريحات المقاومة تحدّياً كبيراً له، إذ حذّر المتحدث باسم «القسام»، «أبو عبيدة»، «العدو الصهيوني من أنه في حال أقدم على قصف منشآتٍ مدنية أو منازل لأهلنا في غزة، فإن ردّنا سيكون قوياً ومؤلماً وفوق توقعات العدو». وبعد ذلك، عاد «أبو عبيدة» وأمهل العدو ساعتين لإخلاء الأقصى من الجنود، وهو ما استجاب له العدو في لحظته، على أن ذلك قد يتكرّر خلال الساعات المقبلة. كما نقلت مصادر فلسطينية أن تحذيرات المقاومة للاحتلال بخصوص قصف المنشآت المدنية ومنازل المواطنين «سيكون الردّ عليها مشابهاً لمواجهة حدّ السيف التي جرت في 2019 وقصفت فيها المقاومة مدينة عسقلان المحتلة بشكل مكثّف، ما أدى إلى خسائر كبيرة في الأرواح والممتلكات لدى العدو». وجاءت تهديدات المقاومة بعد استهداف الاحتلال للمدنيين في غزة، ما أدى إلى استشهاد 21 مواطناً بينهم 9 أطفال، وذلك من جرّاء ارتكاب العدو مجزرتين في بلدتي بيت حانون وجباليا. أمّا «الجهاد الإسلامي»، فقالت إن «العدو بدأ العدوان على القدس، وإذا لم يتوقف هذا العدوان فلا معنى للجهود السياسية لوقف النار».
وبينما قرّر الاحتلال إغلاق معبر كرم أبو سالم المخصّص لدخول المواد الغذائية والطبية والوقود إلى غزة، يُتوقّع أن تتسع رقعة المواجهة عقب إعلان جيش العدو بدءه عملية جوية كبيرة اسمها «حارس الأسوار»، من المقرّر «أن تستهدف مطلقي الصواريخ ومنازلهم والقيادات العسكرية وقيادات المقاومة»، في وقت تستعدّ فيه المقاومة لتوسيع بقعة الزيت وضرب أهداف جديدة.