لم تكن «الحرب على الإرهاب» إيديولوجية مجرّدة من سياقٍ روّجت له المراكز الإمبريالية، على مدى القرنَين الماضيَين، لتسويغ توسُّعها. لكن «مشروع القرن الأميركي الجديد» الذي تلقّف هجمات 11 أيلول، بوصفها «فرصة تاريخية» لتثبيت ركائر الهيمنة، كان «صرحاً من خيال فهوى». لم تتعلّم الولايات المتحدة درسَ فيتنام، بل أصرّت على أن النصر سيكون حليفها في حربٍ صارت أشبة بـ«ديانة»، وظلّت تعيد إنتاج نفسها عاماً تلوَ آخر، حتى صار الهرب ملاذ أميركا الأخير
لم تختلف وظيفة إيديولوجية «الحرب على الإرهاب» عن تلك التي أدّتها إيديولوجيات سبقتها، وروّجت لها المراكز الإمبريالية في القرنَين الماضيَين لتسويغ توسُّعها في أنحاء المعمورة، وسيطرتها عليها. فَمِن «المهمّة الحضارية» و«عبء الرجل الأبيض» في بدايات القرن التاسع عشر، إلى «مكافحة الشيوعية» في النصف الثاني من القرن العشرين، غلّفت هذه المراكز مشاريعها للغزو والاحتلال والنهب بسرديات تزخر بنفس المفردات الرنّانة عن الحرية والاستبداد، والحضارة والبربرية، والتسامح والكراهية، والانفتاح والانغلاق والتعصّب، وغيرها من المفاهيم الجوفاء. وعلى مدى قرنَين، تمّ قتل وإذلال البشر «الفعليين» باسم حقوق إنسان «مجرّد». المجموعة التي صاغت إيديولوجية «الحرب على الإرهاب»، في مطلع الألفية الثانية، وجلُّها من المحافظين الجدد، كانت قد أنشأت مركزاً، في 3 حزيران 1997، سمّته «المشروع من أجل قرنٍ أميركي جديد»، استناداً إلى مقال لروبرت كاغان وويليام كريستول، نُشر في «فورين أفيرز» بعنوان «نحو سياسة خارجية نيو ريغانية»، في صيف عام 1996، يوجّه نقداً لاذعاً إلى مقاربات إدارة بيل كلينتون في الشؤون الخارجية، ويدعو إلى اعتماد توجّهات أكثر هجومية تُعزّز الموقع القيادي للولايات المتحدة على الصعيد الدولي وهيمنتها «الحميدة». وقّع على البيان التأسيسي للمركز، 25 شخصاً، بينهم 10 احتلّوا، بعد ثلاث سنوات، مناصب رئيسة في إدارة جورج بوش الابن الأولى، كدونالد رامسفيلد وديك تشيني وبول وولفوفيتز. الفكرة المركزية التي طرحتها هذه المجموعة هي أن إعادة صياغة الشرق الأوسط انطلاقاً من العراق، تمثّل الشرط الأساسي لترسيخ الهيمنة العالمية لواشنطن. وقعت هجمات 11 أيلول 2001، وتوفّرت «الفرصة التاريخية» لوضع هذا المشروع موضع التنفيذ. بعد مُضيّ 20 عاماً، يستشهد دومنيك مويزي، الخبير الجيوسياسي الفرنسي والمفكّر اليميني الوثيق الصلة بأوساط صناعة القرار والثروة في الغرب الأورو-أميركي، في مقال نُشر على موقع «وورد كرانش» بعنوان «هدية بن لادن غير المتوقّعة للصين وروسيا»، بِقولٍ لكارل ماركس، مقتبس من كتابه المهمّ «برومير الثامن عشر للويس بونابرت»، يعتبر فيه أن «الناس يصنعون تاريخهم، لكنهم لا يصنعونه وفقاً لرغباتهم». «الناس»، في نظر مويزي هنا، هم تنظيم «القاعدة» الذي فشل في تحقيق هدفه النهائي بطرد الولايات المتحدة من العالم الإسلامي وإحياء دولة الخلافة، والمستفيدَان الفعليَّان من الهجمات وتداعياتها البعيدة المدى، هما أوّلاً الصين وروسيا. غير أن ما يتغاضى عنه الخبير الفرنسي هو أن هذا القول ينطبق تماماً على ما قام به المحافظون الجدد، وجميع الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ تاريخ وقوع الهجمات. فالشرق الأوسط تتمّ إعادة صياغته بالفعل، ولكن على الضدّ من مخطّطات واشنطن، ومشروع القرن الأميركي الجديد كان «صرحاً من خيال فهوى».
تتمّ إعادة صياغة الشرق الأوسط، ولكن على الضدّ من مخطّطات واشنطن ومشروع القرن الأميركي الجديد
نسيان «درس فيتنام»
استندت الهيمنة الأميركية على الصعيد الدولي إلى ركيزتَين رئيستَين: التفوّق العسكري النوعي على جميع دول المعمورة، وانتشار شبكة قواعد عسكرية (800 قاعدة)، في أنحائها، وشبكة تحالفات واسعة ضمّت عدداً كبيراً من الأنظمة، كان بعضها في بلدان الجنوب تحديداً، مجرّد وكيل محلّي لواشنطن. لم تتردّد الأخيرة، عندما اقتضى الأمر ذلك، من إرسال مستشارين وقوات خاصّة لمساندة هذا الوكيل أو ذاك، لكنّ السيطرة والتحكّم كانا يمارَسان عن بعد. المرّة الأولى التي تعرّض فيها هذا النمط من الهيمنة للاهتزاز الجدّي، كان خلال حرب فيتنام، عندما أَقحمت الولايات المتحدة بعشرات الألوف من جنودها في حرب واحتلال طويلَي الأمد، انتهيا بهزيمة منكرة. أدّت «عقدة فيتنام» الناجمة عن هذه الهزيمة إلى فتح نافذة فرص أمام حركات التحرّر الوطني في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، سمحت لها بإنجاز سلسلة من الانتصارات، كما حصل في أنغولا وموزمبيق وزيمبابوي ونيكاراغوا وإيران. الدرس المحوري الذي التفت إليه البعض في المؤسسة العسكرية الأميركية آنذاك، هو ضرورة تجنّب التورّط في احتلال عسكري مباشر، والسعي إلى تحقيق الانتصار عن بعد، ما مهّد إلى الاستثمار الضخم في ما سمّي بـ«الثورة في الشؤون العسكرية» التي تفترض إمكانية الانتصار في الحرب دون خوض المعارك مباشرةً اعتماداً على التكنولوجيا المتطوّرة. وجاءت الحرب الأولى ضدّ العراق في عام 1991، بذريعة تحرير الكويت، لتكون ترجمة «خلّاقة» لهذه الثورة. غير أن الغطرسة الإمبراطورية الناتجة عن الانتصار في الحرب الباردة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته الاشتراكية، والقناعة بالطابع «الخارق» للقوّة الأميركية المؤسَّسة على الثقة العمياء بالتفوّق التكنولوجي في الميادين العسكرية والمدنية، وبفرادة النموذج الذي بات أفقاً أبدياً لبقية الإنسانية، هي جميعها عوامل قادت إلى نسيان «الدرس الفيتنامي» المؤلم. لم يخطئ مَن لحظ أن المحافظين الجدد، بعد هجمات أيلول، سعوا إلى أسرلة السياسة الخارجية عبر الدفاع عن مفاهيم من نوع «الحرب على الإرهاب» و«الحرب الاستباقية» والاحتلال الطويل الأمد لبلدان بعينها لمنع «الإرهابيين» من البقاء في السلطة أو العودة إليها. هم فعلوا ذلك أصلاً خدمةً لإسرائيل، وجميعهم من الصهاينة المتطرّفين، كما أظهر العديد من الباحثين والخبراء الذين استفاضوا في تحليل خلفيات ومبرّرات الحرب على العراق في عام 2003، باعتبارها حرباً «اختيارية» وليست حرباً «ضرورية». هذا ما أثبته جون ميرشايمر وستيفن والت في كتابهما المرجعي «اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأميركية» الصادر في عام 2008. تفكيك الدولة العراقية ومؤسساتها لإعادة بنائها بإشراف قوات الاحتلال الأميركية، وإسقاط نظام «طالبان» وإعادة «بناء أمّة»، تطلّب، في أحد أطواره، العودة إلى خوض حرب مكافحة تمرّد دامية وباهظة الأكلاف، وهي سياسات أفضت إلى غرق الولايات المتحدة في «وحول» الشرق الأوسط مع مفاعيل طويلة الأمد ما زلنا نشهدها إلى الآن. قوى المقاومة في الإقليم، أنظمة وحركات مقاومة تعمل على إعادة تشكيله بعيداً من هيمنة واشنطن. هي نسيت درس فيتنام، والصعود التدريجي ومن ثمّ المتسارع للصين وروسيا.
زمن جديد غير أميركي
بعض الأصوات الوازنة في النخبة الأميركية، مثل زبيغنيو بريجنسكي وبرينت سكوكروفت، ومن ثم ريتشارد هاس، حذّرت مبكراً من مغبّة الغرق في الشرق الأوسط وتجاهل الديناميات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعتمل في مناطق أخرى من العالم، خاصة في تلك البلدان المؤهّلة لتصبح منافساً من المستوى نفسه للولايات المتحدة. يجزم كثيرون بأن باراك أوباما كان مدركاً لهذه الحقائق عندما قرّر الانسحاب من العراق في أواخر 2011، وألقى خطابه الشهير عن «الاستدارة نحو آسيا» في عام 2012، غير أنه عجز عن اتخاذ القرار بالانسحاب من أفغانستان، على رغم وعده بذلك، بل وأرسل آلاف الجنود إلى ذلك البلد لمكافحة التمرّد. لم يرغب في أن يُتّهم بالمسؤولية عن انسحاب هو صنو للإقرار بالهزيمة، ومثله فعل دونالد ترامب. جو بايدن اتّخذ هذا القرار، لكنّ المشاهد التي رآها أعداء الولايات المتحدة وأصدقاؤها في مطار كابول ستحفر عميقاً في ذاكرتهم. انتهت «الحرب على الإرهاب»، وتجد واشنطن نفسها اليوم في مقابل منافسَين استراتيجيَّين يتمتّع أحدهما، وهو الصين، بقدرات اقتصادية وتكنولوجية وبموقع مركزي في الاقتصاد الرأسمالي العالمي، وبشراكة استراتيجية وعسكرية متعاظمة مع روسيا، تضعه في مصاف لا يمكن مقارنته بذلك الذي كان عليه الاتحاد السوفياتي ومعسكره. التنافس يحتدم في ميدان التكنولوجيا، حيث للصين دور ريادي في تطويرها، وفي داخل المنظومة الرأسمالية العالمية، وهي أحد أقطابها، إضافة إلى الميادين العسكرية والاستراتيجية. هل ستنجح استراتيجية الاحتواء، المستلهمة من زمن مضى وضدّ خصم لا يمتلك نفس المزايا والمقوّمات، وكذلك سباق التسلّح في كبح صعود الصين؟ ليس من الاستعجال الإجابة على هذا السؤال بالنفي، إذا أُخذت في الاعتبار عوامل كالشرخ الداخلي العميق الاجتماعي – السياسي في أميركا، واهتزاز ثقة حلفائها بها وتردّدهم في الانقياد الأعمى خلفها في «حرب صليبية» ضدّ الصين وربّما روسيا. وقد يكون إصرار واشنطن على المضيّ في مثل هذه المخطّطات، بدلاً من محاولة التوصّل إلى تفاهمات وترتيبات مع بكين، خطأً استراتيجياً جديداً يعمّق من حدّة تراجعها، كما أدّت المفاعيل الطويلة الأمد لـ«الحرب على الإرهاب» إلى تبدّد أوهام القرن الأميركي الجديد.
سنوات التيه: «القاعدة» التي شبعت موتاً
بعد مرور 20 عاماً على أحداث الحادي عشر من أيلول 2001، يبدو أنّ تنظيم «القاعدة» قد «مات وشبع موتاً»، بحسب ما يرى «جهاديّ» سابق، عاش أيّام «الجهاد» في أفغانستان والتقى بـ«الشّيخَين» أسامة بن لادن وأيمن الظّواهري، معتبراً أنّ السّبب في ذلك هو الضّعف الذي اعترى التنظيم منذ مقتل ابن لادن في عملية أميركية عام 2011، وظهور تنظيم «داعش». ويفصّل «الجهادي» الذي كان في أفغانستان قبل 11 أيلول وبعده، في حوارٍ مع «الأخبار»، أسباب التراجع بـ«سوء القيادة، وظهور تنظيم الدولة الإسلامية، وما ترتّب عليه من صراعٍ بين الأخير وبين فصائل جهاديّة في سوريا، وتأييد القاعدة لهذه الفصائل»، مضيفاً أنّ «تشتّت القاعدة الأمّ في خراسان بين أفغانستان وإيران وباكستان، وعدم وجود الاتصال الكافي مع الفروع الأخرى، من الأسباب التي زادت التنظيم ضعفاً أيضاً».
ويشير إلى أن «رمزية القاعدة كانت في الشيخ أسامة بن لادن»، مبيّناً أن «هناك فرقاً كبيراً» بين الأخير وبين الظّواهري، فـ«ابن لادن شخص يجتمع عليه كلّ الفرقاء، ويتميّز بشخصية قيادية، ويحبّ مقاتليه ويهتمّ بهم، وله سابقة في الجهاد. أمّا أيمن الظّواهري فهو وإن كانت له سابقة جهادية، وتعرّض للتعذيب، وقُتل كلّ أفراد أسرته في قصف أميركي، إلّا أنه لا يحمل الكاريزما نفسها»، ولذا «ضعُفت في عهده القاعدة، وحدثت انشقاقات في جماعة الجهاد المصرية التي كان يتزعّمها، فضلاً عن القاعدة. ومن سوء قيادته انحيازه للجولاني في سوريا ضدّ الدولة الإسلامية، مع أن الظّواهري كان يعترف بالبيعة للدولة الإسلامية، ويقول الدّولة أرقى من الجماعة، لكنّه انحاز للجولاني ناكث البيعة. وبعد ذلك فكّ الجولاني ارتباط جبهته بالقاعدة، ووافق الظّواهري، فأيّ حسٍّ قياديِّ يحمل؟». لكن، هل كانت استراتيجية ابن لادن، والقائمة على «جرّ العدو إلى المستنقع»، ناجحة أصلاً؟ «يجب أن تعرف أن هذه خطة الشيخ ابن لادن، وهي ناجحة بشكل جزئي فقط، بمعنى أنها نجحت في أفغانستان، لكن في العراق والشام، من وجهة نظري، لم تنجح. والسبب الخيانة التي تعرّض لها المجاهدون من أنفسهم، والتّكالب العالمي عليهم، لأن مدن السُنّة أُحرقت ودُمّرت، مع أن الخلل ليس عندهم، ولكن الجماهير المسلمة لم تقبل بهم، واستخدمت الدول ضدّهم المؤسّسات الدينية، ومراكز الإفتاء الرسمية، و جماعة الإخوان، بجعلهم شياطين الأرض، وهذا له تأثيرٌ كبيرٌ عند الجمهور»، بحسب تفنيد «الجهادي» السابق.
خطة الشيخ ابن لادن نجحت في أفغانستان وفشلت في العراق والشام
على رغم كلّ ما تَقدّم، هل يمكن توقُّع انتعاش «القاعدة» من جديد؟ يحتمل «الجهادي» السابق أن يحدث ذلك في اليمن، «بشرط قدرة فرع التنظيم على الخروج من كبوته الأخيرة، إضافةً إلى وجود القيادة الحقيقيّة والسّيولة البشرية، أمّا عالمياً فلا. لقد شبعت موتاً كما قلت لك. أخذ مكانها تنظيم الدولة الإسلامية وهو البديل لها». لكن، ماذا عن أفغانستان، ألا يمكن أن تعود «القاعدة» هناك بعد سيطرة حركة «طالبان» على كلّ أنحاء البلاد؟ «لا أتوقّع ذلك. قد يكون لهم ملجأ آمناً نعم، لكن مقابل عدم العمل الخارجي، ثمّ إن السيولة البشرية انتهت، هناك بضعة أفراد مع الظّواهري لا يتجاوزون عدد أصابع اليد، يريدون الأمان لا أكثر. صراحة، القاعدة انتهت، لكن يوجد فصيل جهادي أكثر صلابة وقوة منه وأوضح رؤية، هو تنظيم الدولة الإسلامية، أغلب الأفراد يتركون القاعدة ويذهبون إليه»، مع التّذكير بأن «طالبان» استقبلت مقاتلي «القاعدة» في السابق، وخاضت من أجلهم حرباً. «نعم، طالبان الملّا عمر أحسنت إلى القاعدة، وضحّى الملّا عمر بالدولة من أجل عدم تسليم القاعدة وزعيمها إلى أميركا. حدث ذلك على رغم معارضة الجانب الشرعي في القاعدة أبو حفص الموريتاني تنفيذ عملية 11 سبتمبر، لأنّ هذا يشكل إخلالاً بشروط البقاء في ضيافة طالبان»، وفق ما يشرح «الجهادي» السابق.
ماذا عن «طالبان» نفسها، هل ثمّة فروقات بينها في الأمس واليوم؟ «طالبان بالأمس أشبه بتنظيم الدولة من حيث العقيدة العسكرية، وليس العقيدة الإسلامية. كانت ترفض الحوار والمساومة في قضايا كثيرة. مثلاً، تعليم المرأة كان للصف السادس فقط، عدم استخدام التلفزيون، عدم الانفتاح على العالم، وإن كان لها سفير في كلّ من باكستان والإمارات لأغراضٍ تجارية، والسعودية للحج والعمرة، وسفير متجوّل كان يدخل بعض الأحيان بعض هيئات الأمم المتحدة، وكانت لا تسمح بطقوس الشيعة. لكن طالبان اليوم، الشيعة الهزارة موجودون في صفوفها، وانفتحت على العالم، وسمحت باستخدام واقتناء التلفزيون، والمتحدّث الرسمي باسمها يظهر كثيراً في الإعلام، كما دعت المعارضة إلى الحوار، ولم تمنع الشيعة من أعيادهم. انفتح طالبان على المعارضين لهم، في السّابق كانوا غالباً يقتلونهم مثلما فعلوا مع نجيب الله، الرئيس الشيوعي. طالبان خلال عشرين عاماً قدّمت شهداء وتضحيات، وأميركا حدث لها استنزاف، فخرجت بماء الوجه. طالبان اليوم من ناحية سياسية تتصرّف بشكل جيّد، وقد تمكّنت من إرضاء جميع الأطراف، وتعهّدت بتحكيم الشريعة، لكن الوقت ما زال مبكراً لإصدار حكم عام عليها، خاصة وأن الحكومة في طور المخاض، وعلينا أن نعرف برامجها أولاً ومدى قبولها محليّاً ودولياً، لكن العقبة أمامها هو تنظيم الدولة، خاصّة وأن المنتمين للتنظيم أفغان»، يختم مُتحدّث «الأخبار».
عشرون عاماً على 11 سبتمبر
لم يكن 11 سبتمبر 2001 أقل أثراً من 7 ديسمبر 1941، فقد فتح الشهية أمام اتجاه المحافظين الجدد الذي كان مسيطراً على إدارة بوش الابن، وتنفيذ ما دعوا إليه في التسعينيات. ذلك أن انتصار واشنطن على موسكو في الحرب الباردة، وتحولها إلى القطب الأوحد للعالم، يتيح أمامها مجال إعادة صياغة الأمم وفق النموذج الأميركي المبني على ثنائية «الديمقراطية» «اقتصاد السوق». وقد رأوا أن ضربة 11 سبتمبر وفاعليها قد أتوا من مجتمعات يجب إعادة صياغتها، من حيث أنظمتها السياسية (ولو كانت بمعظمها حليفة لواشنطن أو تابعة لها)، أو من حيث الثقافة.
كان غزو أفغانستان بعد أسابيع من 11 سبتمبر، في هذا الإطار الهدف الأميركي، كما كان غزو العراق عام 2003، نحو إعادة صياغة الشرق الأوسط من البوابتين الأفغانية والعراقية، سياسياً وثقافياً واجتماعياً. وقد كان إشعال لبنان أميركياً مع القرار 1559 (أيلول/ سبتمبر 2004)، ورفع الغطاء الأميركي عن الوجود العسكري السوري في بلاد الأرز الذي حصل عام 1976، ثم تم تجديده عام 1989 مع اتفاق الطائف، يهدف للسيطرة الأميركية على نطاق الهلال الخصيب الممتد بين البصرة وبيروت وما بينهما… بما يعنيه ذلك من تغيير النظام السوري أو «تغيير سلوكه»، بعدما رفض تأييد الغزو والاحتلال الأميركيين للعراق. وأيضاً وضع إيران (رغم تعاونها مع الأميركيين في غزو أفغانستان والعراق) بين فكي الكماشة، بين بلاد الأفغان والهلال الخصيب. وبالتأكيد، فإن الأميركيين يعرفون أن من يسيطر على الهلال الخصيب ستسقط بين يديه بلاد فارس وبلاد النيل، وهو ما حصل مثلاً بعد معركتي اليرموك والقادسية. وقد كان انتصار سليم الأول على المماليك في بلاد الشام في معركة مرج دابق عام 1516، مدخلاً لسقوط مصر والحجاز ثم العراق. وكادت بلاد فارس أن تسقط بين يديه. على صعيد الأنظمة الحليفة لواشنطن، اتجه الأميركيون إلى التحاور منذ عام 2005 مع تلاميذ حسن البنا، ليكونوا واجهة إسلامية أميركية في وجه أسامة بن لادن وايمن الظواهري. وقد تُوّج ذلك في فترة 2011 ــ 2012 عندما رعت واشنطن وصول الإخوان المسلمين للسلطة في تونس ومصر، ومشاركتهم بها في ليبيا واليمن، وتزعمهم للمعارضة السورية عبر «المجلس» وخليفته «الائتلاف» في عام 2012. وكان النموذج الإردوغاني هو النموذج الذي أرادت واشنطن تعميمه في المنطقة.
هنا، فشلت واشنطن في أفغانستان، ثم فشلت في العراق. كما أن حلفها مع الإخوان المسلمين لم يعمر أكثر من سنتين. وسرعان ما عاد الأميركيون إلى نموذج حلفهم القديم مع العسكر، ابتداءً من عبد الفتاح السيسي وانقلاب 3 يوليو 2013 على حكم الإسلاميين. وشجعوا من طرف خفي أو بالوكالة محاولة انقلاب 15 تموز/ يوليو 2016 العسكرية ضد إردوغان… وظلوا مترددين تجاه ظاهرة خليفة حفتر، وأيدوا عسكر السودان الذين أسقطوا الإسلاميين في 11 نيسان/ إبريل 2019. ولم يمانعوا في صعود بقايا نظام بن علي في تونس إلى الواجهة الرئاسية مع الباجي قائد السبسي منذ عام 2014، ومن ثم الانقلاب النهائي على الإسلاميين مع حركة 25 تموز/ يوليو 2021 التي واجهتها الرئيس قيس سعيد وقوتها الحقيقية لدى العسكر.
على الصعيد الداخلي الأميركي، كان فشل تجربتَي أفغانستان والعراق مشجعاً على نمو انعزالية أميركية جديدة، رأينا أبعادها مع الفترة الرئاسية لدونالد ترامب. وهي لا تقتصر على تجنب ورفض التدخلات العسكرية الأميركية في الخارج، وعلى سحب القوات الأميركية من مناطق النزاع أو مناطق وجودها، وإنما ترفض العولمة الاقتصادية وترى أن الداخل الأميركي هو المكان الأفضل لاستثمارات الشركات الأميركية. وقد اتجهت في فترة ترامب نحو فرض حماية جمركية أمام السلع الأجنبية، مع رفض الاتفاقيات الاقتصادية المعمولة مع الخارج للتجارة الحرة، ومع تقييد حركة المهاجرين للولايات المتحدة. وقد اتبع ترامب أسلوب العقوبات الاقتصادية على دول معينة، أو على كل من يتعامل مع دول معينة، كأسلوب يستخدم فيه «الجنرال دولار» بدلاً من العسكري الأميركي لتحقيق أهداف السياسة الأميركية. ربما كان بايدن معاكساً لترامب في السياسة الاقتصادية الخارجية، ولا يريد التصادم مع الحلفاء في الاتحاد الأوروبي واليابان والهند وكوريا الجنوبية، كما فعل ترامب، بل يريد وضعهم تحت قيادة واشنطن في مواجهة الصينيين والروس. لكنه مثل ترامب في اتجاه اللاتدخل العسكري الأميركي في الخارج، ومع استخدام «الجنرال دولار».
كانت الولايات المتحدة ناجحة في أهدافها، في فترة ما بعد 7 كانون الأوّل/ ديسمبر 1941، وفاشلة في فترة ما بعد 11 أيلول/ سبتمبر 2001.
الحرب على الإرهاب كـ«ديانة»: أن تُبشّر بغيث مسموم
«مشهد تلك الطائرات العملاقة وهي تُقلع مع أشخاص معلَّقين على جوانبها، ومن ثمّ يتساقطون. لن تشاهدوا مثل هذا الشيء أبداً… ما جرى يمثّل أكبر الهزائم العسكرية في كلّ العصور». الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، بعد عشرين عاماً من انطلاق «الحرب على الإرهاب»
في اليوم التالي لهجمات 11 أيلول 2001، خرج الرئيس الأميركي، جورج دبليو بوش، ليشدّ عصب أمّة منهارة من هَول ما أصابها: «ستستغرق هذه المعركة وقتاً وتصميماً. لكن لا يخطئنّ أحد: سننتصر». على مدى العقدَين التاليين، كان السعي إلى تحقيق نصرٍ في «الحرب على الإرهاب» مركز السياسة الخارجية للولايات المتحدة، التي غزت، تحت هذا العنوان، دولتَين وشنّت حروباً هجينة في دول أخرى، ووسط صعود الجماعات الجهادية وسقوطها وصعودها من جديد. لكنّ أحداً لم يجب على السؤال الرئيس: ماذا يعني الانتصار في هكذا حرب؟ بالاستناد إلى آلاف الوثائق التي أميط اللثام عن جزء منها في أعقاب اغتيال أسامة بن لادن، عام 2011، تكشف نيللي لحود، في تقرير موسَّع نُشر في مجلة «فورين أفيرز»، أن الطرف الآخر طرح السؤال نفسه. كان الهدف وراء هجمات الحادي عشر من أيلول، على حدّ تعبير بن لادن، «تدمير أسطورة المناعة الأميركية التي لا تُقهر». «بكل المقاييس، شكّلت الحرب على الإرهاب أكبر مشروع لفترة الهيمنة الأميركية التي بلغت أجلها»، وفق بن رودس، نائب مستشار الأمن القومي في عهد باراك أوباما. ولكن «مكافحة الإرهاب» استقرّت على ما يسمّيه دانيال بيمان، في المجلّة نفسها، «عقيدة جيّدة بما يكفي»، تهدف إلى «إدارة التهديد الإرهابي، بدلاً من القضاء عليه».
معضلة الباب الدوّار
في اليوم الـسادس والعشرين من آب الماضي، هزَّت انفجارات عنيفة محيط مطار كابول، موديةً بحياة 13 جندياً أميركياً هم حصيلة الخروج «المتعجّل» من أفغانستان. أعادت هذه الحادثة إلى الواجهة، السؤال القديم/ الجديد: ما هي الحصيلة النهائية لنُسق «الحرب على الإرهاب»، الذي وضع له بوش هدفاً يومَ الغزو: ملاحقة تنظيم «القاعدة» حتّى أبواب جهنّم. وفي ما يمثّل استنساخاً للحظة غابرة، تعهّد الرئيس جو بايدن بتعقُّب تنظيم «داعش – ولاية خراسان» حتّى القضاء عليه. في مقياس تقييم «نجاح المهمّة»، تبرز مفارقة احتمال عودة التنظيمات الجهادية بعد 20 عاماً من انطلاق «الحرب العالمية على الإرهاب». نظريّاً، انتهت هذه الحرب، يومَ أماط وزير الدفاع الأميركي آنذاك، جيمس ماتيس، اللثام عن «استراتيجية الدفاع الوطني» (2018)، والتي حدَّدت الصين وروسيا، باعتبارهما تمثّلان التهديد المتعاظم للأمن القومي الأميركي. ولكن عملياً، كانت النهاية قبل ذلك بقليل؛ عندما تحوّلت وسائل الإعلام الأميركية الكبرى إلى تعقُّب دونالد ترامب، وتلهّت بعلاقته «المشبوهة» بالروس، وغيرها من الفضائح التي شكّلت لَبِنة العهد السابق. وهو ما جلّاه غياب الاهتمام بـ«الهجوم الإرهابي» الأوّل على الأراضي الأميركية، منذ 11 أيلول، على يد ضابط سلاح الجوّ السعودي، محمد الشمراني، والذي قتل فيه ثلاثة جنود أميركيين في قاعدة بينساكولا الجوية في فلوريدا. هذا الشعور بـ«انحسار العنف الجهادي»، وفق ما جاء في مقالة لدانيال بنجامين وستيفن سيمون في «فورين أفيرز»، انتقل إلى إدارة جو بايدن، التي حوّلت انتباهها، بدايةً، إلى الإرهاب الداخلي بعد واقعة «الكابيتول» الشهيرة.
وراء هجمات الحادي عشر من أيلول هدف رئيس: «تدمير أسطورة المناعة الأميركية»
انتصار بن لادن
ظلّ نسق «الحرب على الإرهاب» يعيد إنتاج ذاته عاماً تلوَ آخر، ولكنّ البعض يعتقد بأن اغتيال بن لادن في أبوت أباد الباكستانية، عام 2011، يُعدّ بمثابة الضربة القاضية لتنظيم «القاعدة».
في اليوم الحادي عشر من أيلول 2001، نفّذ «القاعدة» هجمته الكبرى. بالنسبة إلى أسامة بن لادن وآخرين، تقول لحود، «مثّل الهجوم ما هو أعظم بكثير من مجرّد عمل إرهابي: إطلاق حملة عنف ثوري من شأنها أن تبشّر بعصر جديد. كانت أهداف بن لادن جيوسياسية… تقويض النظام العالمي المعاصر للدول القومية وإعادة إنشاء الأمّة». اعتقد الرجل أن في مقدوره تحقيق هدفه من خلال توجيه ما وصفه بـ«الضربة الحاسمة» التي ستجبر الولايات المتحدة على سحب قواتها العسكرية من العالم الإسلامي. في السنوات التي تلت اغتيال بن لادن، رفعت الحكومة الأميركية السرية عن بعض الوثائق التي استحوذت عليها من مخبئه في أبوت أباد، لكنّ الجزء الأكبر منها ظلّ قيد الاختصاص الحصري لمجتمع الاستخبارات. وفي تشرين الثاني عام 2017، رفعت «وكالة الاستخبارات المركزية» السرية عن 470 ألف ملفّ رقمي، تتكوّن من مذكّرات بن لادن، ومراسلاته مع شركائه، ورسائل كتبها أفراد من عائلته، وغيرها من الوثائق التي تٌقدِّم صورةً عن «الحرب على الإرهاب» بعيون هدفها الرئيس.
في عام 1986، اقترح بن لادن، للمرّة الأولى، أن يضرب الجهاديون في الداخل الأميركي لوضع حدٍّ لمعاناة الفلسطينيين. كان اهتمامه بفلسطين حقيقياً، وفق الكاتبة التي اطلعت على جزء وافر من الوثائق، وكثيراً ما ذكّر رفاقه بأن معاناتهم كانت «سبب بدء جهادنا». في «إعلان الجهاد»، لعام 1996، كتب بن لادن: «إخواني المسلمين في العالم، إخوانكم في أرض الحرَمين وفلسطين يدعونكم إلى المساعدة ويطلبون منكم المشاركة في القتال ضدّ العدوّ، عدوّكم: الإسرائيليون والأميركيون». أمِل بن لادن في أن تشكّل هذه المعركة الجماعيّة خطوة أولى على طريق إحياء الأمّة. واتضح سريعاً استعداده لدعم أقواله بالأفعال. فنفّذ «القاعدة»، عام 1998، تفجيرات متزامنة استهدفت سفارتَي الولايات المتحدة في كينيا وتنزانيا، وأسفرت عن مقتل 224 شخصاً. وتبع العملية هذه، بعد سنتين، استهداف المدمرّة الأميركية «كول»، بينما كانت تتزوّد بالوقود في ميناء عدن، وهو ما أسفر عن مقتل 17 من أفراد البحرية الأميركية. بعد ذلك، أبلغ بن لادن حشداً من مؤيديه بأن الهجمات تمثّل «نقطة تحوّل حاسمة في تاريخ صعود الأمّة». وبحسب أوراق أبوت أباد، قرّر، بعد وقت قصير من الهجوم على المدمّرة «كول»، مهاجمة الأراضي الأميركية. وراء هجمات الحادي عشر من أيلول هدف رئيس: «كسر الخوف من هذا الإله الزائف وتدمير أسطورة المناعة الأميركية». لم يمض أسبوعان على الحادثة، حتى أصدر بن لادن بياناً مقتضباً على شكل إنذار للولايات المتحدة: «لديّ بضع كلمات فقط لأميركا ولشعبها. أقسم بالله العظيم الذي رفع السماوات دون جهد، أن لا أميركا ولا أيّ شخص هناك سينعم بالأمان حتى يصبح الأمان حقيقة لنا نحن في فلسطين، وقبل أن تغادر كل جيوش الكفّار أرض محمد».
لم تروّض هجمات 11 أيلول «الوحش» الأميركي، كما كان مؤمّلاً، لكنّ الحرب المسمومة على الإرهاب ظلّت تلاحق الولايات المتحدة كطيفٍ يأبى الفكاك، أغرقها في وحلٍ لم تعرف كيفية الخروج منه إلّا هرباً على متن طائرات عملاقة عُلِّق على جوانبها مَن أرادوا اللوذ بجلدهم من عودةٍ «طالبان» إلى كرسيّ الحكم ذاته الذي طُردت منه قبل 20 عاماً، حين آوت بن لادن ومجموعته. مع هذا، يواصل جو بايدن الادّعاء بأن الحرب حقّقت هدفها بـ«دحر الإرهاب»، بدليل أن البلد ظلّ آمناً من هجمات مشابهة لتلك التي وقعت قبل عقدين. لم تتمكّن أميركا من القضاء على أيّ من التنظيمات التي تصنّفها إرهابية. وإن كانت قد حقَّقت بعض النجاحات التكتيكية في هذا المضمار، إلّا أن حربها لم تكن سوى مراكمة لفشلٍ باتت تختصره «أفغانستان الجديدة».