تنصب جهة داخلية (؟) كميناً لتظاهرة سلميّة متوجّهة إلى مرفق لبنانيّ احتجاجاً على أمر يمسّها والمرفق معنيّ به، ويوقع الكمين في صفوف التظاهرة شهداء وجرحى بالعشرات، وهذا كفيل بأن يمهّد لاشتباكات قد لا تتوقّف بسهولة.
هذا الأمر عايشنا مثله سنة 1974 وصولاً إلى نيسان 1975، وأدّى إلى الحرب الأهليّة. كان حزب الكتائب، الذي ستنبثق منه «القوات اللبنانيّة»، بدأ يدرّب عناصره على استعمال السلاح والقتال. ثمّ أخذ طلاّبه في الجامعة اللبنانيّة يتسلّحون بالعصيّ والسكاكين ليعتدوا على الوطنيّين. كما أخذ مسلّحوه ينصبون الكمائن للفلسطينيّين في طرق مرورهم وخاصة في الكحّالة، ويشتبكون معهم، وكانت قيادة الجيش ميّالة إلى موقف الكتائب، لا سيّما وأنّها حاولت تصفية المقاومة الفلسطينيّة ولكنّها عجزت لأسباب، منها الموقف الإسلامي والوطني المؤيّد لها.
كانت سياسة الحركة الوطنيّة المؤيّدة للمقاومة الفلسطينيّة بقيادة كمال جنبلاط، هي تفويت الفرص، خوفاً من الانزلاق إلى مؤامرة قد تكون دبّرت للبنان والفلسطينيّين. لكن الجهة التي خطّطت لتفجير الوضع لم تكن تنتظر أيّ فرصة سوى فرصة استكمال استعداداتها لبدء المعركة.
استمرّ تسخين الأوضاع حتّى 13 نيسان.
في ذلك اليوم، وكان يوم أحد، استقلّت مجموعة من الرجال والنساء والأطفال، من الفلسطينيّين واللبنانيّين، حافلة (بوسطة) وتوجّهت، مروراً بعين الرمّانة، إلى مخيّم شاتيلاً حيث حضرت مهرجاناً لإحدى الفصائل الفلسطينيّة، وفي طريق عودتها، عبر عين الرمّانة، تعرّضت لكمين مسلّح فتح عناصره النار على ركّابها، وكانوا بحدود 32 راكباً، واستمرّوا بالرماية حتّى قتلوا معظمهم، ثمّ صعدوا إلى البوسطة وراحوا يطلقون النار على الرؤوس كي لايبقى أيّ إنسان، جريح أو غير جريح، حيّاً. ولم ينجُ إلاّ ثلاثة أو أربعة أشخاص من الذين غطتهم جثث الشهداء.
عندها لم تعد أيّ قيادة قادرة على لجم عناصرها وانفجرت الحرب.
استغلّت أميركا و«إسرائيل» الحرب بعد أن كانت الأخيرة قد درّبت عناصر الكتائب و«الأحرار» و«حرّاس الأرز» و«التنظيم» وغيرهم.
عرضت أميركا على المسيحيّين، بواسطة جورج براون، تهجيرهم إلى كندا وجهّزت السفن لهذا الغرض. واحتلت «إسرائيل» الشريط الحدوديّ في جنوب لبنان. وانتهى بها الأمر بأن اجتاحت لبنان، وطردت المقاومة الفلسطينيّة منه. إذاً كانت القوّات مخلب القطّ الذي فتح الطريق للعدوّ الصهيوني لضرب المقاومة الفلسطينيّة.
وطالب، الزعماء المسلمون سوريا بالتدخّل واستنجد بها قادة اليمين. وبدأ الجيش السوريّ بالدخول إلى منطقة البقاع الأوسط فوصل إلى مشارف برّ الياس. ثم تقدّم فيما بعد إلى أن عقد اجتماع عربيّ في الرياض ثمّ في القاهرة في أيلول 1976. تقرّر بنتيجته إدخال قوّات الردع العربيّة إلى لبنان ودخلت، لكنّها انتهت بأن اقتصرت على القوّات السوريّة، التي حمت من بقي من المسيحيّين في المناطق الإسلاميّة ومن المسلمين في المناطق المسيحيّة، ثم أقحم بعض النافذين اللبنانيّين بعض الضبّاط السوريّين في المشاكل الداخيّة الصغيرة التافهة.
ما يجري هذه الأيّام شبيه بما جرى سنة 1974، حملات إعلاميّة وتحريض طائفيّ وتسلّح كما أكّدت وثائق ويكيلكس (البرقيّة رقم 800247 من السفارة الأميركيّة إلى واشنطن- نشرتها الأخبار)، كما كان يجري في السبعينيّات، وتخزين الموادّ الاستراتيجيّة-المحروقات. وكما جرى في بلدان«الربيع العربي».
اليوم تطوّرت الأمور إلى اعتداء مسلّح على متظاهرين عزّل تقف خلفهم قوّة لا تستطيع «القوّات اللبنانيّة» ولو ساندها الأميركان أن تواجههم مباشرة، لكنّها تسعى، كما في سنوات السبعينيّات إلى أن تخلق أجواء تسمح بالتدخل الخارجيّ، وفي مقدّمه خاصّة «الاسرائيلي» بطريقة أو بأخرى، إلى المنطقة التي تتمترس فيها هذه «القوّات»، على أمل أن تكرّر «إسرائيل» تجربة طرد المقاومة الفلسطينيّة، بضرب المقاومة اللبنانيّة، بوسائل جديدة.
إذاً لبنان في مرحلة تسخين الأجواء قبل بدء «اللعب». والخشية من أن تُستَكمل اللعبة، إذا تذرّع الطرف الذي تستهدفه المؤامرة بسياسة «تفويت الفرص»، دون العمل الحاسم على استئصال هذه الظاهرة بالضغط الأقصى على الجيش والقوى الأمنيّة، وذلك بالقبض على كلّ متورّط وملاحقة من حرّضه وصولاً حتّى الرأس الكبير.
أمّا إذا عدنا إلى سياسة التراخي وأنصاف الحلول والاعتبارات الطائفيّة والمناطقيّة وما إليها، فسنبكي مثل العجائز بلداً مضاعاً لم نحافظ عليه مثل الرجال.
* أستاذ في كلية الحقوق، الجامعة اللبنانية