لو كنّا نؤمن بالغيبيّات، أو بالخزعبلات، لقُلنا إنّ لبنان ضحيّة «صيبة عيْن»، أو قُلنا «حظّك عاثر، يا لبنان» ـــ تماماً كما قال ياسر عرفات، رداً على موت عبد الناصر: «حظّك عاثر، يا فلسطين» (تصوّر أنّ الذي أطلقَ صفة «القائد العام للثورة الفلسطينيّة» على نفسه، بشَّرَ شعب فلسطين، في عام ١٩٧٠، بأنّ حظّ قضيّتهم عاثر ـــ مثل الذي يأتي من المدرسة ليقول لأهله إنّ المعلّم «حاطط عليه»). كوارث ونكبات توالت على لبنان حتى بتُّ أخشى خبر هزّة في بيروت عندما أستيقظ. وعصر الإنترنت يجعلنا نحن المغتربين نعيش (بمعاناة أقل كي لا نربّحكم جميلاً) معاناة الأهل يوماً بيوم، أو ساعة بساعة في عصر الفضائيّات. في التسعينيّات، قبل غزو الفضائيّات، كنّا أحياناً نتساءل عن أسماء الوزراء في بلدنا. الآن، أراهم أكثر من مرّة في الساعة على «توتير». لكنّ ما جرى الأسبوع الماضي ذكّر جيلاً أو أكثر بشفير الحرب الأهليّة، في أوائل السبعينيّات (لهذا انصرف نجاح واكيم مؤخّراً للتحذير من عواقب الحرب الأهليّة المدمِّرة ـــ المناسبة، هكذا مرّت مرور الكرام تهديدات بالقتل وجّهها أنصار جنبلاط إلى نجاح واكيم. في عالم «تويتر»، تحصل الإعلاميّة، أو الإعلامي، على تضامن من جمعيّات صحافيّة غربيّة، لو هي تلقّت نقداً من ناس يضعون صورة لعلم الحزب أو لقائده).
الحرب الأهليّة لن تقع في لبنان على الأرجح، لأنّ الطرف الأقوى لا يريدها ويسعى إلى تجنّبها. لكن أخافني مؤخّراً أنّ الطرف الآخر بات أكثر عرضة للاستفزاز من خصومه، والانفعاليّة غير المقصودة تُفيد عدوّنا دائماً (من حرب ١٩٦٧ إلى جنوب لبنان، في ومن «منظّمة التحرير»). الطرف الأقوى في لبنان، في عام ١٩٧٥، أي حزب «الكتائب»، أرادَ الحرب وعمل على إشعالها من دون توقّف، منذ عام ١٩٦٩. والحركة الوطنيّة لم تتحضّر لأنّ كمال جنبلاط، ونقولا الشاوي، انصرفا للنضال الاقتراعي، وياسر عرفات تآلف مع النظام، ولم يكن في وارد دعم خيارٍ ثوري في لبنان. لكنّ حزب الله على لسان أمينه العام، ذكَّر هذا الأسبوع بحجم قوّته، والحجم هو مُعدّ فقط ضدّ إسرائيل لردعها. يستطيع الحزب بنصف هذا العدد، أن ينتصر على إسرائيل، لكنّه لا يستطيع بضعف هذا العدد، أن ينتصر في حرب أهليّة لأنّه لا يمتدّ عبر الطوائف، ولهذا لا يمكن أن يستقيم الحكم له (لماذا إذاً يستعين الحزب بنجيب ميقاتي، أو سعد الحريري، الذين يعلم أنّهما يأتمران من قبل أعداء المقاومة في الإقليم وفي العالم؟). الظروف التي صاحبت اندلاع الحرب الأهليّة غير متوفّرة اليوم، ومنها حماس غربي ــــ إسرائيلي شديد لشنّ حرب من أجل القضاء على المقاومة الفلسطينية. كما أنّ ظروف الحرب، آنذاك، ترافقت مع إصرار حزب «الكتائب» وحلفائه على الدفاع عن النظام الطائفي الفئوي الانعزالي بالقوّة المسلّحة. والحكومة الأميركيّة أرادت، في سياق الحرب الباردة، منع تحوّل لبنان نحو المعكسر الاشتراكي. وكان هناك توازن عسكري ما بين الأطراف (فقط إذا احتسبنا قوة «منظمة التحرير» التي أصرّ ياسر عرفات على تحييدها إلا في مفاصل معيّنة في الحرب، وخارج صراع بيروت الغربيّة مع بيروت الشرقيّة. لم يكن نصرالله بحاجة لتذكير سمير جعجع بحجم قوّة حزب الله، كي يُدرك الشعب اللبناني أنّ هناك اختلالاً هائلاً في موازين القوى بين الأطراف. نحن اليوم نتعامل مع مقاومة بلغت قوّتها درجة أنّ العدوّ شكّل قوّة نخبة خاصّة فقط للتعامل مع دخول قوة من حزب الله إلى الجليل عندما تقع الحرب. مَن كان يتصوّر ذلك؟ لبنان الذي عاش كلّ سنواته يخاف من عدوان إسرائيل، باتَ هو يُخيف العدوّ. كانت المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنيّة، تسعيان من أجل زرع الخوف في نفوس العدوّ الجاثم على أرض لبنان. المقاومة اليوم تُخيف جيش العدوّ على أرض فلسطين. هذه سابقة في تاريخ الصراع العربي ــــ الإسرائيلي. المقاومة تُخيف العدوّ أكثر ممّا أخافته الجيوش العربية، منذ عام ١٩٤٨. والخوف من الحرب الأهليّة والتشنّج الطائفي الحاصل يترافق مع محاور أزمات راهنة، منها على التوالي:
سمير جعجع: لماذا هذا التركيز على سمير جعجع؟ حتى الغلاف لهذه الجريدة، حيث ظهر بزيّ نازي لم أوافق عليه ــــ ومن أنا كي أوافق أو لا أوافق. سمير جعجع هتلر زمانه؟ تحتاج إلى قدرٍ من القوّة والنفوذ وصنع القرار، كي تكون هتلراً. بشير الجميّل كان نازياً (صغيراً)، لأنّ جيش العدوّ تبنّاه وكان ـــ بعد عام ١٩٨٠ ـــ مشروعاً أميركيّاً وسعوديّاً. وكانت القوى المضادّة له متهالكة ومتخاذلة وكان زعيم يسارها، وليد جنبلاط، يُجري مفاوضات سريّة مع عدوّها، الجميّل، الذي كان من المفروض أن يكون عرضة لقرار عزل «الكتائب» النافذ، منذ عام ١٩٧٥، (القرار لا يزال نافذاً عندي، مع تحفّظي على طريقة تطبيقه من قبل الحركة الوطنيّة). كان أخي الراحل مدحت يسألني دائماً: لماذا لا تكتب عن سمير جعجع (وكان يكنّ له كرهاً شديداً). وكنتُ أقول له: لأنّ جعجع لم يعد ذا اعتبار. ليس هناك من ميليشيا قوّات لبنانيّة. حتى لو اقتنى كلّ مناصري جعجع سلاحاً جديداً، فإنّ هؤلاء لن يكونوا أفضل قتاليّاً من «النجّادة»، في حرب عام ١٩٥٨، أو من ميليشيا تيار الحريري، في يوم ٧ أيّار، (هو يوم واحد لكنّ السجال حوله في إعلام الخليج والغرب والثاو الثاوي، يصبح سنة من القتال المرير حيث أبلت قوّات أكرم شهيّب بلاء حسناً، وعلّمت ميليشيا الحزب درساً عصيَ على إسرائيل). تستطيع كشافة من الجنوب تولّي أمر قوّات جعجع. الموازين تغيّرت كثيراً وطبيعة القتال بعد حرب تمّوز أصبحت على مستوى لا تستطيع أيّ ميلشيا مجاراته (وصور بعض المقاتلين في الطيّونة تُظهر كم أنهم يفتقرون إلى التدريب البسيط. والذي حمل قاذفة الـ«أر.بي.جي» لم يُحسن حملها، كما لم يُحسن إطلاقها). لماذا التركيز على جعجع؟ كما كنتُ أقول لأخي: هذا موظّف في سفارة السعوديّة، والإماراتي يُصدر الأوامر له. هل أنّ تركيز حزب الله على جعجع يُساهم في تعظيم دوره وزيادة سعره في عواصم التطبيع الخليجيّة؟ على الأرجح ذلك، وجعجع يبدو مزهوّاً بالحملة عليه.
لكن أفهم أن يستسهل حزب الله التركيز على جعجع. الحزب يستعظم الفتنة السنّة ـــ الشيعيّة، ولا يُظهر الخشية نفسها من فتنة شيعيّة ــــ مسيحيّة، لكن خطرها وارد والاحتكاكات من جبيل إلى الطيّونة تشكّل مصدر خطر. وشعبيّة القوّات مثبّتة، وهي على الأرجح زادت بعد ما بدر من انخفاض في شعبية التيّار ــــ والانخفاض هو نتيجة لأخطاء في الحكم، وأيضاً نتيجة الحملة العالميّة ضد التيّار فقط بسبب تحالفه مع الحزب. لكن لنتعلّم من تجربة حزب «الكتائب». في عام ١٩٧٥، وعلى إثر مجزرة عين الرمّانة، اجتمعت قيادة الحركة الوطنيّة والمقاومة الفلسطينيّة، وقرّرت عزل الحزب. وكانت التوجّه عند البعض، هو في ضرورة القيام بعمل عسكري ضدّ ميلشيا «الكتائب». لكنّ ياسر عرفات وكمال جنبلاط، لم يكونا في وارد كسر النظام أو أدواته. ارتضيا على توليفة ترضية: شعار عزل «الكتائب» لكن مع قيام كمال جنبلاط وابنه من بعده بمفاوضات سريّة مع بشير الجميّل، فيما كانت ميلشيات الأخيرة تدكّ بيروت الغربيّة بالمدافع وتقتل أبناءها على الهويّة. وشعار العزل ترافق مع كلام طائفي صادر عن زعيم الحركة الوطنيّة (في السرّ وفي العلن)، ومع أفعال طائفيّة شنيعة من بعض الأحزاب في المنطقة الغربية والشيّاح (وبعض هؤلاء كان خارج نطاق الحركة الوطنيّة ونشط بأسماء طائفيّة، وكانت لهم ارتباطات بالشعبة الثانية على ما كنّا نسمع في حينه). تحوّل حزب «الكتائب» من حزب قسم من المسيحيّين إلى الحزب الأقوى. طبعاً الصعود لم يكن طوعياً: احتاج بشير الجميّل إلى عملية تصفيات ومجازر، كي يضمن احتكار حزب «الكتائب» للسلطة. سمير جعجع لا يمانع من كلّ هذا الحديث عنه: لاعب صغير في المشهد السياسي اللبناني تحوّل إلى ندّ لأكبر حزب لبناني. من قرّرَ أنّ رفع مرتبة سمير جعجع ــــ وإن في العداء ــــ يضرّه. لكن لماذا تجاهل دور محتمل لقيادة الجيش؟ من ينسى دور مخابرات الجيش (بقيادة جول بستاني) في حرب السنتين، وكيف كانت تشعل الجبهات عندما تبرد؟
الجالية الإيرانيّة. صدر قبل أيّام كلام حاد من محمد رعد. ومحمد رعد من القلائل الذين يصيغون العبارات بفرادة في السياسة اللبنانيّة. هو الذي أطلق عبارة «النكد السياسي» التي ذهبت مثلاً. أستاذ اللغة العربيّة الذي تمرّس في جريدة «العهد» في الكتابة الساخرة والحادّة (باسم مستعار، على ما قيل لي). لكن من جملة ما قاله رعد، كان كلاماً متأخّراً عن نقمة من جمهور حزب الله ــــ ومن جمهور طائفة الحزب والحركة ــــ ضدّ تخوين قطاع كبير من اللبنانيّين. في التعبير عن العداء ضدّ حزب «الكتائب»، كان هناك كلام عن عمالة القيادة لإسرائيل، وكان هناك كلام عن عمالة آل الجميّل. لكن لم يكن هناك في عزّ الحرب، كلام عن تخوين الموارنة كموارنة (لا نعلم ماذا كان آل جنبلاط يقولونه في داخل جدران قصر المختارة). اليوم، كلّ فريق أتباع النظام السعودي والإماراتي والتمويل الغربي المستقل، يخوّن ٩٩٪ من شيعة لبنان. نتائج الانتحابات النيابية الحرّة (هناك في الانتخابات الأميركيّة من الخروقات أكثر ممّا في انتخابات لبنان، مع أنّ التمويل الخليجي والغربي ــــ والإيراني بدرجة أقل بكثير ـــ هو خرق انتخابي فاضح، ويجب أن يُحرَّم ويُجرَّم) كانت حاسمة في أنّ معظم شيعة لبنان يوالون الحزب والحركة. الطريف أنّ أتباع النظام الإماراتي والسعودي في لبنان، يؤكّدون أنّهم ليسوا ضدّ شيعة لبنان، بدليل أنّهم يحبّون لقمان سليم، والشيعة الذين يعملون في محطة «العربيّة» أو «إم.بي.سي»، أو أي محطة خليجية. هذه مثل البيض العنصريّين الذين ينفون عنصريّتهم، ويدلّلون على ذلك بأنهم يحبّون رجلاً أسود من الذين لا يرون في العبوديّة في التاريخ الأميركي وصمة عار. أي أنّ هؤلاء يحبّون الشيعة الذين يحبّون آل سعود وآل نهيان وآل ثاني وآل مكتوم. أمّا أكبر حزب لبناني، فهو يُصنَّف بالإيراني ويُصنَّف جمهوره بالجالية الإيرانية، وابتُتِر الجنوب عن جسم لبنان. هذه تُقال يوميّاً، إلى درجة أنّها لم تعد تلفت الأنظار ولا تُلاقي من الاستفظاع ذرّة. هذه تساهم في حقن طائفي ومذهبي قد يُشعل شرارة حرب. تخيّل أن تصنّف نحو ثلث الوطن بأنّهم جالية إيرانية. لا وتقول إنّ قنّاصة القوّات في عين الرمّانة، كانوا من «الأهالي» وتقول عن أهالي الجنوب الذين حموا ديارهم وردّوا أذى إسرائيل ــــ بعدما تخلّت عنهم الدولة بكافّة مؤسّساتها وأجهزتها، من عام ١٩٤٨ حتى اليوم، باستثناء حقبة إميل لحّود الوطنيّة الاستثنائيّة ــــ أنّهم جالية إيرانيّة.
القاضي بيطار. لو أنّ الحزب جهدَ، منذ انتفاضة تشرين، لارتكاب أكثر عدد ممكن من الأخطاء السياسيّة، لما نجحَ كما نجح من دون جهد في هذه الفترة. لنأخذ قضيّة القاضي بيطار. بعيداً عن تهويل دكاكين المجتمع المدني والثاو الثاو (بالمناسبة مرّ هكذا تصريح للمسؤولة الأميركيّة، فكتوريا نولاند، التي زارت لبنان مؤخّراً، والذي قالت فيه إنّ ممثّلي المجتمع المدني الذين التقت بهم أبدوا حماساً للقاء): إنّ القاضي بيطار ينتمي إلى السلك القضائي الفاسد والذي هو نتاج للطبقة الفاسدة. لكنّ الثاو الثاو وصحبهم يريدوننا أن نقتنع معهم أنّ كلّ النظام اللبناني فاسد وعفن وأنّ القضاء اللبناني فاسد، وأنّ التحقيقات والمحاكم الدوليّة هي الحلّ ــــ باستثناء القاضي بيطار. لكن كيف يمكن لهذا القاضي وحده أن ينجو من فساد النظام؟ هذه تذكّر بنقد غسان كنفاني لكتاب صادق جلال العظم، «النقد الذاتي بعد الهزيمة»، عندما سأله: إذا كان العقل العربي مريض إلى هذه الدرجة، فكيف نجوتَ من لوثته؟ يريد دعاة القاضي بيطار أن يعتبروا أيّ نقد له هو نتيجة ولاءٍ للنظام الفاسد (وهذه تذكّر ببولا يعقوبيان عندما تنسب كلّ نقد لها على مواقع التواصل الاجتماعي إلى أحزاب السلطة ــــ أي أنّه لا يمكن أن يعترض أيّ عاقل وعاقلة على مواقفها ما لم يكن خاضعاً لأحزاب السلطة). لقد تحوّل القاضي بيطار إلى مرجع ديني يُمنع على العامّة نقده.
الاعتراض على القاضي بيطار جائز، لا بل ضروري. أولاً، تعامل بيطار مع قائد الجيش ومع مدير المخابرات، في حينه، بكثير من الرفق المشبوه بحكم العلاقة الوثيقة بين الرجُلَيْن وبين السفارة الأميركيّة. ثانياً، استثنى الرجل من استدعاءاته رؤساء حكومات سابقين، كانوا ضالعين أكثر من حسان دياب، كيف أصبح دياب أسوأ من رؤساء الوزارة السابقين؟ ثالثاً، تسّربت أخبار غير مؤكّدة عن تواصلٍ بين بيطار وبين سفارات غربيّة. على بيطار توضيح ذلك. لو صحّت تلك الأخبار، فيجب أن يتنحّى لأنّ ذلك مفسدة للتحقيق. نعرف من «ويكليكس» الكثير عن ضلوع السفارة الأميركيّة في التحقيق في اغتيال الحريري، وفي المحكمة الدوليّة التي تشكّلت. كان وزير العدل شارل رزق، يتداول في تفاصيل عمله مع السفير الأميركي. لكن، موقف حزب الله من القاضي غير مفهوم على أكثر من صعيد.
١) لماذا يتنطّح الحزب دائماً للدفاع عن النظام وفاسديه أكثر من غيره؟ يشعر الحزب بمظلوميّة عندما يتساءل عن سبب ربطه بفساد النظام، وهو الأقلّ استفادة عبر السنوات من كعكة الدولة. لكنّ الحزب سمح لأعدائه المتفرّغين والمتمرّسين باستهدافه منذ اندلاع الانتفاضة، لأنّه ارتضى لنفسه دور المدافع الأوّل عن النظام (ولأسباب معروفة وغير معروفة ويفسّر تحالفه الوثيق مع نبيه برّي بعضاً من هذه الأسباب، لا كلّها). ليس هناك بين المطلوبين للتحقيق من قبل مكتب القاضي بيطار، أيّ من نوّاب أو وزراء حزب الله، فلماذا لا يترك الحزب للحركة أو للمردة مهمّة الهجوم على بيطار؟ لماذا احتكر الحزب المهمّة فيما لا يبدر عن الحركة أو المردة هذا التشنّج والتخوّف من عمل القاضي؟
الحرب الأهليّة ليست إلا مشروعاً إسرائيليّاً والمقاومة المعني الأوّل بتجنّبها وصدّها وإن بقوّة
٢) الحزب بات مقتنعاً أنّه من الضروري أن يتنحّى القاضي. لكن لماذا؟ جمهور الحزب يستطيع أن يقتنع من دون أدلّة بضرورة تنحّي القاضي، لأنّ ثقته بقرارات القيادة هي مطلقة. لكن ماذا عنّا، نحن الناس العاديّون الذين لا نثق بالقاضي لكن ليس هناك من دليل إدانة واحد ضدّه. إذا كان عند الحزب دليل على تواصل مع سفارات غربيّة أو خليجية، فمن الضروري تقديمها للرأي العام، وإلا ظهر الحزب بمظهر المتجنّي أو المُتسرِّع.
٣) كيف نقتنع بأنّ هجوم الحزب على القاضي، ليس إلا تناصراً وتآزُراً مع حلفاء فاسدين له؟
٤) إذا كان الحزب يرى هذه الخطورة في مهمّة القاضي بيطار، فعليه واجب اقتراح مسار قضائي بديل وهو لم يفعل ذلك. إنّ اللجوء إلى مجلس النوّاب للتحقيق، هو بمثابة تكرار لتحقيق المجلس في ما جرى في ثكنة مرجعيون، عندما تطغى الاعتبارات الطائفية وتمنع أيّ تحقيق جدّي في أي مسألة. هل هناك تحقيق جدّي في تاريخ مجلس النوّاب اللبناني؟ من صواريخ «كروتال» إلى صفقة الـ«بوما»، إلى غيرها، لا ثقة بدور التحقيق أو المحاسبة لمجلس النواب اللبناني. والحزب، لو أنه مضى في معركته ضدّ القاضي بيطار، فإنه بذلك يكرّس اتهام أعدائه بأنّه لم يظهر بمظهر الحريص على مصلحة أهالي ضحايا تفجير المرفأ. والحزب لا يتعامل مع الملف بالحرص الذي يُفترض به، خصوصاً أنّ مخاوفه من تركيب ملفّ ضده هي في محلّها. أما إذا كان للحزب قرائن عن ضلوع بيطار في مؤامرة ضدّه، فكيف لا يشارك الرأي العام ذلك؟ وهذا يكون من باب احترام مشاعر أهل ضحايا المرفأ المكلومين والمكلومات.
٥) أليس ميقاتي ورياض سلامة والمبعوث الأميركي ــــ الإسرائيلي أشدّ خطراً من بيطار والتظاهر ضدهم أولى؟
الخلاصة. الحروب الأهليّة لا تتكرّر بالصيغة نفسها بالضرورة. الحرب في عام ١٩٥٨ (كانت تُسمَّى «ثورة» هي الأخرى) لم تشبه أبداً الحرب في عام ١٩٧٥. والذين لاموا «الفلسطيني» في عام ١٩٧٥ على اندلاع العرب، تجاهلوا أنّ العامل الفلسطيني لم يكن مؤثّراً في عام ١٩٥٨، حين كان الصراع على مدى استئثار الرئيس بالسلطة. والذي ينتظر اندلاع الحرب اليوم بصيغة حرب ١٩٧٥ نفسها، يكون قد عزل تغيّر المؤثرات والعوامل بين الحالتيْن. حزب الله لا يريد الحرب لأنّ ذلك هو مشروع إسرائيلي مفضوح: كلّ ما يمكن أن يشغل أعداء إسرائيل هو مشروع إسرائيل: استثمر العدوّ في صراعات داخليّة في العالم العربي منذ إنشاء الدولة، ولم يكن هناك فتنة داخلية لم يستثمر العدوّ فيها (من حروب لبنان إلى اليمن إلى السودان إلى شمال العراق إلى عُمان). لكنّ أميركا لا تريد الحرب في لبنان هذا المرة: لبنان بات مركزاً عسكرياً ـــ استخبارياً لا يُستهان به، ورحيل أميركا عن العراق وأفغانستان يعزّز أهميّة هذه القاعدة العسكرية في لبنان (طبعاً، تضخّ البروباغندا الأميركيّة شعارات الاحتلال الإيراني للبنان لطمس معالم سيطرتها في لبنان، كما هي احتجّت ضدّ ما اسمته الاحتلال الإيراني للعراق، فيما كان عشرات الآلاف من قوات الاحتلال الأميركي منتشرة في البلد). لكن هناك إمكانيات اشتعال جبهات مختلفة، أو نشوب حروب أهليّة «صغيرة» لو أن الجمهور ــ على اختلاف توجّهاته ــ قاد أحزابه نحو المواجهة. والانفعاليّة لم تكن سمة للحزب في مواجهته مع إسرائيل، بخلاف تجربة الأنظمة العربيّة و«منظّمة» التحرير أثناء وجودها في لبنان. لكنّ خطاب الحزب الأخير في التركيز على جعجع والمباهاة أمام طرف لبناني بقوّة الحزب، يتناقض مع موقف الحزب: التواضع في الداخل والمباهاة العسكريّة إزاء العدوّ. والأزمة المعيشيّة مرشّحة للتسبّب في تفجيرات أمنيّة، وهذه التفجيرات ـــ في الأجواء المتشنّجة في الشوارع ـــ يمكن أن ترتدّ وتتحوّل طائفيّاً. الحرب الأهليّة أو الحروب الطائفيّة المتنقّلة ليست إلا مشاريع إسرائيليّة، وفريق مقاومة إسرائيل هو المعني الأوّل بتجنّبها وصدّها، وإن بقوّة ــــ ولو اقتضى ذلك العضّ على الجراح.