قبل أربع سنوات تماماً، بات سعد الحريري ليلته الأولى معتقلاً في العاصمة السعودية الرياض، بأمر من وليّ العهد محمد بن سلمان. كان الأخير في صدد تنفيذ انقلاب في لبنان، يعيد خلط الأوراق في المشرق. وبعدما فشل هذا الانقلاب في الداخل اللبناني، تدخّلت دول غربية وعربية لإنقاذ الحريري من الأسر، وإعادته إلى بيروت.
لم يتّعظ ابن سلمان، فكرر الجريمة بعد عام، في قنصلية بلاده في إسطنبول، حيث قُتل جمال خاشقجي. لم يعترض أحدٌ في العالم على ما قام به الأمير الصاعد داخل حدود مملكته. لكن جريمتَي اختطاف الحريري، وقتل خاشقجي، أوقعتاه في إحراج يفوق ما يتعرّض له نتيجة العدوان على اليمن. فالجريمة التي يتعرّض لها شعب محاصَر، بصورة متواصلة منذ أكثر من ست سنوات، إنما يخوضها ابن سلمان بدعم غربي كامل، تخرقه من حين لآخر انتقادات طفيفة يطلقها مسؤولون أميركيون أو أوروبيون، فيما هم يغادرون مناصبهم الرسمية، أو عندما يريدون ابتزاز البقرة الحلوب في الرياض.
جريمة خطف الحريري كانت الأساس. فوليّ العهد السعودي لم يدفع ثمنها، ما شجّعه على ارتكاب غيرها. ربما يكون قتل خاشقجي نتيجةً مباشرة لإفلات ابن سلمان من العقاب بعد خطفه رئيس حكومة دولة يُقال إنها ذات سيادة، في القرن الحادي والعشرين. ويمكن الاستنتاج أيضاً أن عدم محاسبته، ولو قولاً، على فِعلته في الرابع من تشرين الثاني 2017، جعله يتجرأ على تكرار المحاولة الانقلابية في الأردن، حيث لا يمكنه التذرّع بمواجهة النفوذ الإيراني غير الموجود أصلاً، ولا بمقارعة حزب الله وترسانته. وها هو اليوم يفتتح فصلاً جديداً من فصول التهوّر في لبنان، بمعاقبته والسعي إلى إحداث تغيير سياسي فيه، بالابتزاز والتهديد، بذريعة تصريحات قالها إعلامي صدف أنه صار، بعدها، وزيراً للإعلام. قضية جورج قرداحي مبنية أيضاً على إمرار الجريمة التي وقعت قبل أربع سنوات، من دون أي عتب. رئيس الحكومة اللبناني الأسبق، تصرّف كمواطن سعودي يطلب رضى وليّ الأمر، بشتى السبل الممكنة. لكن المشكلة كمنت في أن لبنان الرسمي تنازل عن حقه أيضاً. رغم مضيّ أربع سنوات على عدوان ابن سلمان، ارتضت السلطة أن تكون في موقع المتَّهَم لا المتَّهِم، ما دفع بالنظام السعودي إلى مزيد من الاعتداءات على «الشقيق الأصغر»: الأجهزة الأمنية اللبنانية تساعد نظيرتها السعودية في مجال مكافحة المخدرات، فتكون المكافأة عقوبات في المجال التجاري. وزير الخارجية (السابق) شربل وهبة، يُخطئ كلامياً بحق السعودية، فيُجبر على الاستقالة. جورج قرداحي يقول كلمة حق بشأن الحرب الإجرامية على اليمن، فيقرر ابن سلمان معاقبة لبنان بأسره.
المشكلة ليست في تهوّر الأمير بقدر ما هي في السلطة التي جعلت لبنان بلداً «حيطه واطي». الأداء القوي الذي قدّمته تلك السلطة في تشرين الثاني 2017، والذي أدى في النهاية إلى الإفراج عن رئيس الحكومة، سرعان ما أهدرته في الأيام اللاحقة. فجريمة خطف الحريري وإذلاله وإجباره على الاستقالة، كانت مناسبة لتصحيح جزء من الاعوجاج في العلاقة المختلّة بين النظام السعودي ولبنان. لم يكن مطلوباً من الأخير شن حرب، بل كان واجبه إدارة مرحلة ما بعد الأزمة بصورة تحفظ للبلد حقه وكرامته، وتردع ابن سلمان عن تكرار جريمته. تركه بهذه الصورة، حوّل جريمة خطف رئيس الحكومة، كما قتل الخاشقجي لاحقاً، إلى مشكلة علاقات عامة يُعالجها ابن سلمان بإنفاق بعض المال على شركات تحسين الصورة، وتشجّعه على جعل لبنان بلداً ذليلاً منصاعاً لأوامره. وكما هي العادة، ها هو لبنان الرسمي يبحث عن طريقة للرضوخ مجدداً، متجاهلاً أن من خطف رئيس حكومة يوماً، بلا أن يسائله أحد، سيكررها في المقبل من الأيام. هذه هي الخلاصة التي ينبغي أن يعيها نجيب ميقاتي اليوم، فيما هو يتحدّث عن «تغليب المصلحة الوطنية». وتحقيق تلك «المصلحة» عبر التنازل لابن سلمان مرة تلو مرة، يعني وضع رقبة المتنازِل بين خيارَين مستقبلاً: الصفع والركل في الريتز كارلتون، أو المنشار في قنصلية.
السعودية تنعى صورتها: لماذا نُفتَضح دائماً؟
لم تكن السعودية بحاجة إلى دراسة لتعرف مكامن فشلها في التعامل مع الأزمات التي تفتعلها بنفسها، ولن يفيدها كثيراً أن تُجري مثل هذه الدراسة لتحديد مكامن الخلل في التواصل، وتلقي عليها باللائمة في ما وصلت إليه من حال متدهورة، على مستوى السمعة والصيت، وحتى على المستوى السياسي. لكنّ الدراسة الداخلية التي أجراها «مركز دعم القرار» التابع للديوان الملكي (مؤرّخة بآذار 2019)، والتي تنشر «الأخبار» تفاصيلها في ما يلي، تنتقد ضمناً الأداء السياسي نفسه، وليس فقط طريقة تقديم هذا الأداء للعالم، وخصوصاً في حدثَين بارزَين هما اعتقال رئيس الحكومة السابق سعد الحريري وإجباره على الاستقالة، واغتيال الصحافي جمال خاشقجي، حيث تحيل الفشل في التعامل مع قضية اعتقال الحريري في الرابع من تشرين الثاني 2017، مثلاً، إلى ثغرات في آليات التواصل الحكومي الداخلي والدولي. والأنكى من ذلك، أنها تضع جزءاً من المسؤولية على عاتق الرجل نفسه، في ما يُعدّ سمة مميّزة للسياسة السعودية، لا يضاهيها فيها أحد، عبر تحميل «الضحية» مسؤولية تخبّط جلاده، إذ تشير الوثيقة إلى أنه كان يُتوقّع من الحريري القيام بأشياء لم يفعلها أو قصّر في فعلها، من خلال الحديث عن «عدم وضوح موقفه ضدّ من تجاهلوا أمر استقالته (أي الذين أدركوا أن الاستقالة لم تكن طوعية) وخصوصاً الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون».
«حزب الله» وإيران ربحا المعركة
وفي ما يمكن أن يُعتبر محاكمة للحريري بتهمة عدم الإخلاص لوليّ العهد محمد بن سلمان، تَعتبر الدراسة أن «حزب الله حاول، ونجح إلى حدّ كبير، في تحويل القضية إلى وطنية تهمّ كلّ اللبنانيين، وكان الواجب في هذه الحالة (تقديم) خطاب آخر من (قبَل) الحريري يشدّد على ذلك، وكان يجب على الحريري أن يستثمر الفرصة بقلب الطاولة عليه (أي حزب الله)، فالأزمة فرصة تاريخية لطرح موضوع سلاح حزب الله على طاولة التسوية ولو بجدول زمني محدّد وواضح». لكنّ الأهمّ هو أن الدراسة تقترب من الدعوة إلى مراجعة للأداء السياسي، لا الإعلامي فقط، حين تتناول مكان استقالة الحريري وتوقيتها، باعتبارهما من السلبيات التي ظهرت خلال الحدث، إذ ماذا يمكن لمركز التواصل الحكومي أو الدولي أن يغيّر إزاء قرار اتّخذه ابن سلمان في هذا الشأن؟
إعلام «حزب الله» وإيران نجح في صرف النظر عن نقاط مهمّة في قضية الحريري
وتَعترف الوثيقة، بالتفوّق الإعلامي لخصوم المملكة، وتَذكر بالاسم إعلام «حزب الله» وإيران، «الذي نجح في صرف النظر عن نقاط مهمّة في القضية، مثل محاولة اغتيال الحريري (التي أدرجها الأخير في أسباب استقالته)، وتورّط الحزب في الكويت (خلية العبدلي) واليمن، بل إن بعض المحلّلين كان حديثهم عن سوريا أكثر من الكويت واليمن». ومن بين السلبيات التي تُعدّدها الدراسة أيضاً «ضعف التعاطي الإعلامي السعودي مع القضية، وعدم التحضير السياسي الجيد للدفع بالقضية إلى مستويات أبعد، والانزلاق إلى قضايا خارج صلب الموضوع، مـا عوّم القضية الأساسية، وارتفاع الانطباع السلبي في جميع اللغات الأجنبية حول خبر الاستقالة». ومن بين الصحافيين الذين جرت تسميتهم في التناول «السلبي» لقضية اغتيال الحريري، ثلاثة من قناة «المنار» هم مروة حيدر ويوسف فرنانديز وزهراء توبة، كما جرت تسمية الصحافي اللبناني باسم مروة، الذي أعدّ تقارير بثّتها ونشرتها عدّة قنوات تلفزيونية منها «إي بي سي نيوز» وعدّة صحف ومواقع إلكترونية.
وتخرج الدراسة بمجموعة من التوصيات التي تَطلب إجراء مراجعة معمّقة للأداء الإعلامي السعودي في الأزمات، وإنشاء خلية أزمة (إعلامية) عليا كبرى مهمّتها الأولى توجيه بوصلة الأداء الإعلامي، داعية إلى «عدم انزلاق الكتّاب والمحلّلين السعوديين إلى مماحكات خارج الموضوع مثل عنوان جريدة الديار عن البعير والخيمة، حيث استطاعوا بذلك جرّنا بسهولة للدفاع عن البعير والخيمة، ونسينا القضية المفصلية». وحول اغتيال خاشقجي، أشارت إلى تزايد ردود الفعل الدولية السلبية ضدّ المملكة، حيث استمرّت هذه الردود لفترة تزيد عن شهر بعد الاغتيال وتَجسّد بعضها في الانسحاب من «مبادرة مستقبل الاستثمار» في الرياض وتعليق عقود الأسلحة. وأَدرجت ضمن خانة التغطية الإعلامية الدولية «السلبية» للاغتيال، كبريات الصحف العالمية ومنها «واشنطن بوست» و«نيويورك تايمز» و«وول ستريت جورنال» و«فايننشال تايمز» و«غارديان»، وكذلك أهمّ محطات التلفزة مثل «سي أن أن» و«إي بي سي نيوز» و«فوكس نيوز» و«بي بي سي» و«أم أس أن بي سي» و«روسيا اليوم» و«الجزيرة»، بالإضافة إلى عدد من المواقع الإلكترونية المهمّة مثل «بلومبرغ» و«ميل أونلاين» و«ميدل إيست آي».
الدول الخليجية الأخرى متفوّقة
كذلك، تعترف الدراسة بالتفوّق الكبير لدول خليجية أخرى، وأطراف مثل إسرائيل، في الأداء أثناء الأزمات. فقد «أسّست قطر، مثلاً، شبكة من الشركات الاستشارية تتضمّن 23 شركة علاقات عامة لتُقدّم الاستشارات في مجالات القانون والتواصل واستراتيجيات الضغط السياسي للردّ على مقاطعة السعودية والإمارات ومصر والبحرين، يقود إحداها مدير حملة ترامب باري بينيت، بالإضافة إلى أفراد كان الهدف من توظيفهم التأثير على إدارة ترامب وجلسات الجمعية العامة للأمم المتحدة. كما جرى اختيار قائمة تحتوي على 250 شخصية وجهة مؤثّرة للاستفادة منها، ومن بين هؤلاء جوي آلاهام ونيك موزين اللذان مارسا ضغوطاً لدى المنظّمة الصهيونية الأميركية».
يجب إجراء مراجعة معمّقة للأداء الإعلامي السعودي في الأزمات وإنشاء خلية أزمة لتحسينه
أمّا في أبو ظبي، فـ«تَرسم الجهات الحكومية خطط التواصل وتتشاركها مع مكتب التواصل الحكومي، خلال الحالات الطارئة أو المثيرة للجدل التي تنتج منها تغطية إعلامية مكثّفة ورقابة شعبية شديدة تؤدّيان إلى ظهور تصوّر عام سلبي أو تسبّبان ضرراً لسمعة الجهة الحكومية في أبو ظبي أو الحكومة عموماً». ومن جهتها، «أوكلت البحرين مهمّة تحسين صورة حكومتها خلال أعمال الشغب التي حدثت في عام 2011 وما بعده إلى شركات علاقات عامة دولية. ووظّفت إسرائيل شركات علاقات عامة لتشتيت الأنظار عن اعتداءاتها العسكرية على غزة بتسليط الضوء على الرسالة الإيجابية في مساهماتها في الابتكار والتقنية».
تحليل وتوصيات
في المقابل، تُحلّل الدراسة نموذج التواصل الحكومي السعودي وخططه وأدواته، وتقدّم توصيات من شأنها تحسين هذا النموذج، علماً أن في المملكة ثلاث جهات مسؤولة عن التواصل هي: «مركز التواصل الحكومي» و«مركز التواصل الدولي» ووزارة الخارجية. واتّضح، خلال الأزمتَين المذكورتَين، وجود ازدواجية في مهامّ التواصل الدولي بين «مركز التواصل الدولي» التابع لوزارة الإعلام وبين وزارة الخارجية. وتقترح الوثيقة لحلّ ذلك «تعاوناً واضحاً وحوكمة منظّمة لتوحيد رسائل التواصل الدولي». كما توصي بـ«إدراج مركز التواصل الحكومي التابع لوزارة الإعلام تحت مظلّة الديوان الملكي، بالإضافة إلى تفعيله وتوضيح وظائفه، من خلال وضع معايير ودليل إرشادي للتواصل الحكومي عند الأزمات، وتوزيعه على جميع الجهات الحكومية، التي يتعيّن عليها وضع خططها لاحتواء الأزمات، والسيناريوات المقترحة، وتصميم تدابير وإجراءات لتأسيس مركز قيادة حكومي، وتوحيد رسائل التواصل الحكومي الداخلية والخارجية بوضع خطّة لتنظيمها، وحشد الجهود لصياغة ردود متّسقة على الأزمة قبل أيّ اتصال بوسائل الإعلام، ونشر محتوى الردّ المتّفق عليه مسبقاً والمعتمد لدى جميع الجهات الحكومية ووسائل الإعلام، وإطلاق حملات مضادة لإعادة تشكيل الرأي العام لمصلحة الحكومة إذا دعت الحاجة».
وتقترح الوثيقة أيضاً «إدراج مركز التواصل الدولي تحت إدارة وزارة الخارجية لتضافر الجهود، والتعاقد مع شركات علاقات عامة للمساندة في حالات الأزمات الدولية، وعقد شراكات مع وكالات أنباء بارزة وقنوات تلفزيونية وجماعات ضغط سياسي». واعتمدت المملكة سابقاً على شركات علاقات عامة دولية، من بينها «هاربور غروب» و«بي جي آر غروب» و«بيرسون مارستيلر» و«إيدلمان» و«بابليسيز غروب»، للحصول على استشارات استراتيجية، وتعزيز مصالحها الخارجية، والتصريح عن مواقفها تجاه الشؤون الداخلية والخارجية وخاصة في الولايات المتحدة. وإضافة إلى الشركات المذكورة، تُحدّد الدراسة خمس شركات علاقات عامة وتَواصل أخرى للتعامل معها، من بين تلك التي عملت مع حكومات إقليمية وعالمية، وهي «هيل آند نولتون استراتيجيز» و«فرويدز» و«فلايشمان هيلارد» و«غلوفر بارك غروب» و«ويبر شاندويك».